الاثنين 28 أبريل 2025
أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش، الثلاثاء 25 فبراير/شباط الجاري، تقريراً مفصلاً حول حادثة "كمبو طيبة" التي وقعت في ولاية الجزيرة، بالتزامن مع عمليات تحرير القوات المسلحة السودانية للولاية، بعد أكثر من عام على سيطرة قوات الدعم السريع على الولاية. بحسب التقرير، فإن قوات درع السودان، بقيادة أبو عاقلة كيكل، هي المسؤولة عن مقتل حوالي 26 شخصاً، ونهب الممتلكات وحرق القرية. كان أبو عاقلة كيكل يقاتل بجانب قوات الدعم السريع منذ أغسطس/ آب 2023 حتى أعلن انشقاقه، وانحيازه للقوات المسلحة في أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
يسلط تقرير المنظمة الضوء على جرائم القتل خارج نطاق القضاء، واستهداف المدنيين بشكل ممنهج، وغيرها من الجرائم التي لا ينبغي التغاضي عنها، لكنه في ذات الوقت يفتح الباب على مصراعيه للتساؤلات والظنون حول تركيز المنظمة على جرائم تغذي سردية معينة، أو إغفالها لتلك الجرائم التي لا تغذي السردية أو تناقضها، وهي سنة -يا للأسف سيئة- دأبت عليها المنظمات الحقوقية والإنسانية، منذ اندلاع الصراع في دارفور عام 2003.
الكنابي، والتي مفردها كمبو، هي بالأساس مساكن مؤقتة، أعدت للعمال الموسميين بالمشاريع الزراعية، على غرار مشروع الجزيرة الذي أنشئ عام 1925. تحولت هذه المساكن، بمرور الزمن، إلى قرى استقر بها العمال الزراعيون وأسرهم. تمثل المجموعات الإثنية المنحدرة من أصول غير عربية، من قبائل غرب السودان أو القبائل التي أتت من غرب أفريقيا في طريقها للحج، قوام هذه الكنابي.
كانت منطقة أم القرى، التي تبعد بضع كيلومترات عن القرية، موضع شد وجذب بين القوات المسلحة السودانية والفصائل المقاتلة بجانبها وقوات الدعم السريع. فقد نشرت قوات درع السودان، في مطلع ديسمبر/ كانون الأول، مقطعاً يظهر قائدها أمام مبنى محلية أم القرى، قبل أن تنسحب القوات لتبث بعدها قوات الدعم السريع مقطعاً مصوراً في ذات المكان تنفي سيطرة قوات درع السودان على المنطقة. حسمت الأمور في 10 يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما استعادت القوات المسلحة السيطرة على المدينة في إطار حملتها لتحرير ولاية الجزيرة.
غيب المجتمع الدولي ومنظماته التي اهتمت بالحرب في دارفور، كل عوامل الصراع المرتبطة بالتنافس على الموارد مثل الأرض والمرعى والمياه، وطبيعة النشاط الاقتصادي للمجموعات السكانية، والتي تعتبر وعاء أشمل لفهم الحرب في دارفور
قبل أن يسكن غبار معركة أم القرى، بدأت التقارير والأخبار والإدانات تتواتر عما جرى من جرائم في كمبو طيبة. أصدرت القوات المسلحة السودانية، في 14 يناير/كانون الثاني، تعميماً صحفياً أدانت فيه ما وصفته بالتجاوزات الفردية، وحرصها على محاسبة كل تجاوز بحق سكان الكنابي بالولاية، ونددت الخارجية السودانية بالأحداث.
كما أن رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أمر في اليوم التالي بتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث التي وقعت في كمبو طيبة، على أن تسلم اللجنة تقريرها في موعد أقصاه أسبوع، وهو موعد مضى عليه أكثر من شهر.
هذه الفترة كانت كافية بالنسبة للمنظمة الحقوقية، لتنسج سردية محكمة حول الحادثة، مفادها أن المجموعات العربية (قوات درع السودان)، ارتكبوا جرائم حرب بحق الإثنيات غير العربية من غرب السودان وجنوبه. وقد ظل التقرير يردد التكوين العرقي للأطراف المسؤولة بأنهم عرب، مقابل التكوين العرقي للضحايا ومن حموهم بأنهم مجموعات غير عربية.
عانت ولاية الجزيرة، وسط السودان، من جرائم وانتهاكات قوات الدعم السريع على امتداد ما يربو على العام، ولا تزال. وقد كشف تقرير، يغطي العام الأول من الحرب، وقوع أكثر من 500 استهداف للمدنيين بولاية الجزيرة، خلف وراءه عشرات الضحايا من المدنيين. لكن معاناة مواطني ولاية الجزيرة، استفحلت بصورة غير مسبوقة.
أمطر الدعم السريع قرية ود النورة، في 5 يونيو/حزيران 2024، قصفاً ثقيلاً؛ فغرقت المدينة في دماء أهلها العزل، كباراً وصغاراً، الذين تجاوز عددهم المئة. وعندما قررت قوات الدعم السريع الانتقام من انشقاق أبو عاقلة كيكل، وجهوا سهامهم صوب مدينة الهلالية حيث ضربوا حصاراً على المدينة، ليقتنص الموت وتسميم الغذاء الذي اتهمت به قوات الدعم السريع أكثر من 500 روح. في غمرة انتقامهم، من كيكل، ذهبوا صوب شمال ولاية الجزيرة، ليقتلوا العشرات في قرى السريحة وأزرق، تاركين خلفهم مشاهد لا تنسى لإذلال المواطنين، وانتهاك آدميتهم. وكان الضحايا لهذه الجرائم من عرقيات عربية – كما تصنف عدسة المنظمات الناس في السودان إلى عرب وغير عرب.
قد تكسل المنظمة، حالها حال المجتمع الدولي، عن تغيير العدسة البالية التي تختزل الصراع في جانبه العرقي لأسباب مرتبطة بعدم الرغبة في فهم الأزمة بصورة أشمل، أو لأن لها أجندة خاصة مرتبطة بتعزيز هذه السردية
يمثل تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش، عن مجازر الدعم السريع بولاية غرب دارفور، المعنون: "لن يعود المساليت إلى ديارهم" جوهر اهتمام المنظمة، والمنظمات العاملة على ملف حقوق الإنسان بالسودان بشكل عام. لقد أعدت المنظمة تقريراً من مائتي صفحة، مستنداً على 120 مقابلة لضحايا وشهود عيان، حول المذابح التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في مدينة الجنينة وما جاورها في الفترة بين أبريل/نيسان ونوفمبر/تشرين الثاني عام 2023.
قدرت الأمم المتحدة من قتلوا على يد الدعم السريع في غرب دارفور بحوالي 15 ألف مواطن. يعتبر المساليت، الذين يقطنون بغرب دارفور، من المجموعات غير العربية بالإقليم.
وثقت المنظمة نفسها جرائم الاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي الذي تمارسه قوات الدعم السريع في ولاية جنوب كردفان، حيث كشف التقرير عن مآسٍ، يندى لها الجبين، بحق أكثر من 70 سيدة وفتاة بولاية جنوب كردفان. واستعمل التقرير، المنشور في منتصف ديسمبر/ كانون الأول، نفس الزاوية؛ فأشار إلى أن الاغتصابات تقوم بها قوات الدعم السريع بمعية المسلحين العرب، بينما الضحايا هن من جبال النوبة، والتي تعتبر مجموعة غير عربية.
يكشف نمط تغطية هيومان رايتس ووتش للجرائم والانتهاكات في السودان، تبنياً واستمراراً لاستخدام السردية التي طغت على الحرب في دارفور منذ عام 2003. غيب المجتمع الدولي ومنظماته التي اهتمت بالحرب في دارفور، كل عوامل الصراع المرتبطة بالتنافس على الموارد، مثل: الأرض والمرعى والمياه، وطبيعة النشاط الاقتصادي للمجموعات السكانية، والتي تعتبر وعاء أشمل لفهم الحرب في دارفور. واستبدلوا ذلك بثنائية عربي- غير عربي، أو عربي- أفريقي التي تختزل المسألة في جانب الهوية.
لعل من جوانب قصور تلك النظرة أن الرعاة الدوليين لاتفاق سلام أبوجا، اعتبروا المجموعات العربية من دارفور التي قاتلت بجانب الحكومة جزءا من حكومة الخرطوم "الإسلامو-عروبية" في الحرب ضد الحركات المسلحة الأفريقية. وقد أثر إبعاد هذه المجموعات سلباً في المشهد السياسي، وهو أمر تمتد آثاره إلى اليوم، حيث تعبئ قوات الدعم السريع هذه المجموعات باسم التهميش.
تعدى التجاهل ملف المفاوضات إلى التغاضي عن تغطية صراع المجموعات العربية فيما بينها، حيث قوبل الصراع العربي- العربي في دارفور، بصمت مخجل من المنظمات الدولية، رغم أن هذا الصراع كان سبباً لأكثر من ثلث حالات الوفاة المرتبطة بالعنف في إقليم دارفور. في الوقت الذي كانت أرقام الضحايا في الحرب تزيد وتنقص، حسب المزاج العام للمنظمات والناشطين والصحفيين الذين ينقلون إبادة العرب للمجموعات غير العربية، وفق الرصد الدقيق لكتاب: منقذون وناجون.
وليس ببعيد أن تساهم منهجية هيومان رايتس ووتش في تحشيد الناس على أساس عرقي، ليس رغبة في التحشيد العرقي؛ لكن للتصدي لآلة إعلامية حقوقية لا تذكرهم إلا في الإجرام، ولا تكف لسانها عنهم إلا عندما يكون الضحية منهم
لم تكن الجزيرة وحدها منسية؛ فقد كان الضحايا في النيل الأبيض وسنار والجموعية وحلفاية الملوك وشرق النيل، ممن هم ذوو أصول عربية مجرد أرقام، لا ترى بعدسة المنظمات الحقوقية، مثل هيومان رايتس ووتش، رغم أنها جرائم ترى بالعين المجردة، وفي غير حاجة لكثير عناء.
يقول محمود ممداني، أستاذ الأنثروبولوجيا الأوغندي، في مقدمة كتاب منقذون وناجون أن الأمريكيين وجدوا في حرب دارفور ملاذاً آمناً لهم من المعضلة الأخلاقية التي يرتكبونها في العراق. كانت تقديرات الوفيات ونسبة المتوفين بأحداث العنف أكبر في العراق منها في دارفور.
أدى ائتلاف أنقذوا دارفور، المكون من عشرات من المنظمات المجموعات الحقوقية، مهمة شغل الرأي العام الأمريكي عما ترتكبه إدارة بوش بحق العرب وغير العرب في العراق. ولتوضيح مدى سوء المجموعات العربية، والعرب عموماً، مثلت دارفور فرصة ذهبية لتعزيز هذه السردية: "العرب المجرمون وغير العرب الضحايا". وقد ذهب الائتلاف إلى أبعد من ذلك، وساعد الحكومة الأمريكية في صرف النظر والتغاضي عن الجرائم التي ترتكبها الحركات المسلحة غير العربية.
ساهمت منظمة هيومان رايتس ووتش في تسليط الضوء على عدد من الجرائم والانتهاكات التي تجري في السودان، لكن تقريرها الأخير حول ولاية الجزيرة يضع علامة استفهام حول المنظمة والرسائل التي تريد تبثها من خلاله. إن التغاضي عن الجرائم التي يكون الضحايا فيها من مجموعات أو أصول عربية انتهاك لحقوق الإنسان، وإن الصمت عن الأحداث التي لا تعزز لسردية العربي القاتل وغير العربي الضحية مشاركة في الجريمة.
قد تكسل المنظمة، حالها حال المجتمع الدولي، عن تغيير العدسة البالية التي تختزل الصراع في جانبه العرقي، لأسباب مرتبطة بعدم الرغبة في فهم الأزمة بصورة أشمل، أو لأن لها أجندة خاصة مرتبطة بتعزيز هذه السردية. لكن الأكيد أن المجموعات العربية التي اختزلتها مرآة حقوق الإنسان والمجتمع الدولي في دور المجرمين الأجلاف، وحرمتهم من أدنى ذرة تعاطف عندما يقع عليهم الاعتداء؛ لن يصفقوا لهذه المنظمات وتقاريرها. وليس ببعيد أن تساهم منهجية هيومان رايتس ووتش في تحشيد الناس على أساس عرقي ليس رغبة في التحشيد العرقي؛ لكن للتصدي لآلة إعلامية حقوقية لا تذكرهم إلا في الإجرام، ولا تكف لسانها عنهم إلا عندما يكون الضحية منهم.