تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 23 يونيو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

السودان: انقسامات سياسية وحكومة موازية

3 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

الانقسامات سياسية المظهر، التي تسبب بها تمرد ما كان يعرف بـ"قوات الدعم السريع" على الجيش والنظام، والتي كان من أول مظاهرها الانقسام بين رموز وقيادات "الإسلاميين"، ما بين مناصرين للدولة ومنحازين لمشروع الجنرال المنشق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، سرعان ما توسعت لتشمل جهات سياسية أخرى.

مع ازدياد الانتهاكات، التي كانت تقوم بها عصابات حميدتي، والتي وثقتها منظمات حقوقية محايدة، وشهادات الآلاف من الناجين. كانت تكلفة الانحياز للميليشيا الصاعدة، والتي بدت أقرب لابتلاع الدولة، كبيرة جدا.

مع ذلك فإن هذه الانتهاكات لم تمنع كثيراً من المنخرطين في الشأن العام من الظهور بمظهر المتعاطف مع المتمردين، وهو ما وصل ذروته في شهر فبراير/شباط الماضي، حينما طرحت بجدية فكرة تكوين حكومة يمكنها أن تدير المناطق والأقاليم، التي لا تصل إليها مظلة الجيش.

كانت هذه الفكرة كافية لخلق انشقاق، حتى في ما بين المجموعة المتعاطفة مع حميدتي، ففي حين كان قسم منها يرى أن أقصى ما يمكن أن يقدمه، حتى يخرج من دائرة الحرج، هو أن يظهر الحياد أو الحديث عن انتهاكات عامة تقوم بها "الأطراف المتحاربة" في السودان، كان قسم آخر يرى أنه لا مفر من إعلان الاصطفاف بشكل صريح مع الميليشيا، ودعم منطقها السياسي المبني على التمرد على الدولة، بحجة أنها لا تساوي بين مواطنيها.

مثلما كان متوقعاً، ومثلما حدث في انقسام الكتلة السياسية الأهم، التي يمثلها "الإسلاميون"، الذين شكّل عدد كبير منهم نواة النظام السابق، فإن الانقسام بين أعضاء المجموعة، التي يغلب عليها اليسار، والتي كانت أنشأت تحالفاً أطلق عليه اسم "تقدم"، كان أيضاً مرتكزاً على أسس جهوية وقبلية.

بخلاف شخصيات انتهازية كانت أهمية وجودها تنحصر في الإيهام بتنوع الحضور، فإن المشاركين من الإدارات الأهلية والشخصيات السياسية والأكاديمية كانوا في غالبهم الأعم من المجموعات العرقية، التي يمكن أن تشملها مظلة "الجنجويد"

أعاد كل هذا إلى الأذهان حقيقة مرة تتمثل في أن الدولة السودانية، ومع ما تمتعت به من غنى ثقافي وأكاديمي نادر في محيطها العربي والأفريقي، إلا أن كثيراً من أبنائها ما يزالون أسرى للمنظور القبلي، الذي يحدد ولاءاتهم السياسية وتوجهاتهم الحزبية.

الصورة كانت أوضح في الاجتماع، الذي عُقد في نيروبي في 18 فبراير/شباط الماضي، والذي كان يهدف للتشاور بين أنصار حميدتي على إنشاء حكومة موازية للحكومة، التي يرأسها قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان. بخلاف شخصيات انتهازية كانت أهمية وجودها تنحصر في الإيهام بتنوع الحضور، فإن المشاركين من الإدارات الأهلية والشخصيات السياسية والأكاديمية كانوا في غالبهم الأعم من المجموعات العرقية، التي يمكن أن تشملها مظلة "الجنجويد"، أو من المجموعات الجارة، التي تتفق مع مشروع حميدتي، الذي يعتبر أن الوسط والشمال أو سكان النهر هم العدو، الذي تجب مكافحته.

يفسر هذا المنطق مشاركة المتمرد عبد العزيز الحلو، الذي يتبنى كراهية "الجلابة"، أي العرب مرتدي الجلابيب، والذي يخوض ضد الدولة السودانية حرباً، منذ سنوات طويلة، لم ينهيها حتى تغيير نظام البشير. بالنسبة لأنصار حميدتي، فإن مشاركة الحلو، الذي يملك جيشاً، ويحظى بدعم إقليمي استطاع بموجبه أن يقتطع مساحة من الأراضي، ويجعلها تخرج عن سلطة الدولة، يمكن أن يقدم إضافة مهمة لمشروع الانقضاض على المركز السياسي، وإعادة توزيع ثرواته وسلطته وهو المشروع، الذي مضى فيه حميدتي خطوات واسعة، بعد قيادته أعمال تخريب وتجفيف وتجريف، أدت لإفقار الدولة والملايين من سكان وسط السودان، الذين تحولوا من حالة الرخاء إلى حالة من العوز وفقدان مصادر الرزق.

لم يكن إعلان حكومة موازية من العاصمة الكينية نيروبي أمراً سهلاً. المجتمع الدولي والإقليمي، الذي بدا وكأنه يراقب بلا مبالاة في البداية، بدأ يشعر بالقلق، وبدأت أصوات فيه بالتحذير من هذه الخطوة، التي لن تهدد فقط وحدة وسلامة السودان، ولكنها ستفتح باباً جديداً للفوضى في قارة لا ينقصها التحريش.

مع مرور الأيام، تصبح تكلفة الارتباط بحميدتي وعائلته وميليشياته أكبر. فقد تعرض إبراهيم الميرغني، سليل إحدى أكبر الأسر السياسية في السودان، لانتقاد لاذع على وسائل التواصل الاجتماعي ليس فقط بسبب مشاركته، ولكن لأنه تمادى في مدح عبد الرحيم دقلو، الرجل الثاني في الميليشيا، والمسؤول الأول عن كل ما تم ارتكابه من جرائم وانتهاكات.

كان ذلك النقد لاذعاً لدرجة إيمان البعض بأن الشاب، الذي كان يأمل في أن يلعب أدواراً سياسية مهمة في الفترة القادمة، قد تضاءلت فرص صعوده، حيث سيحتاج إلى حملة علاقات عامة موسعة وكثير من الدعاية الاحترافية من أجل أن يفتح صفحة جديدة، يمكنها أن تنسي الجماهير المنكوبة ذلك الموقف.

الأمر مشابه بالنسبة لبرمة ناصر، رئيس حزب الأمة، حزب الزعيم التاريخي الصادق المهدي، الذي كان معروفاً منذ البداية بارتباطاته بالجنجويد، والذي أظهر من خلال مشاركته دعمه الواضح للتمرد. لقد كان وضع برمة ناصر معقداً، فهو من ناحية الانتماء القبلي والعاطفيّ قريب للجنجويد، الذين ساهم في تسليحهم ورعايتهم. لكنه على الجانب الآخر زعيم لحزب يمثل كل ما يريد الجنجويد تكسيره من رموز تاريخية.

أعاد كل هذا إلى الأذهان حقيقة مرة تتمثل في السودان، ومع ما تمتع به من غنى ثقافي وأكاديمي نادر في محيطه العربي والأفريقي، إلا أن كثيراً من أبنائه ما يزالون أسرى للمنظور القبلي، الذي يحدد ولاءاتهم السياسية وتوجهاتهم الحزبية.

كون أن برمة ناصر كان رئيساً للحزب، الذي ينظر إليه كثيرون حتى الآن باحترام، على الرغم من موقفه الملتبس من الصراع، كان أمراً محرجاً، فكان من الصعب اعتبار الأمر خاصاً به. كما يصعب إنكار موضعه القيادي في الحزب، الذي لا يسمح، وهذه طبيعة الأحزاب، بأن يكون للرئيس وجهة نظر سياسية خاصة به، لاسيما في مثل هذه الاصطفافات المصيرية.

إذا كانت هناك جهة أخرى قد فقدت مصداقيتها، وتعرت أمام الرأي العام، فستكون مجموعة "الجمهوريين"، وهي جماعة سياسية وفكرية كانت تحظى بكثير من الاحترام في الأوساط الثقافية، حيث كانت تظهر أنها تتمتع بقراءة ليبرالية للإسلام، وأنها لا تختلف إلا مع المتشددين والمنتمين لـطوائف ما يعرف بـ"الإسلام السياسي".

من المفارقات في موضوع الجمهوريين أن أحدهم؛ النور حمد، كان قد كتب وحاضر حول "العقل الرعوي"، الذي كان يعتبر أنه من موانع الحداثة. ما حدث في نيروبي هو أن الأيام دارت ليصبح صاحب النظرية محاضراً حول فوائد حكم حميدتي للسودان

كان التغيير السياسي الذي أطلق عليه حينها اسم "ثورة سبتمبر" الامتحان الأول للجمهوريين، الذين ظهروا حينها ووجدوا الفرصة في إظهار أفكارهم ورؤاهم، التي ظهر أنها لم تكن تكتفي بانتقاد المفسرين المتشددين، بل مضت لانتقاد القرآن الكريم نفسه.

بعد تمرد حميدتي ظهر الوجه الكالح لهذه المجموعة، التي أظهرت الشماتة في مصاب السودانيين. كانت إحدى التفسيرات لهذه الشماتة، وذلك الانحياز الغريب للمنتهكين تقول أن لهذه المجموعة ثأر قديم مع سكان الوسط والشمال المتدينين، الذين لم يمنعوا، بل دعموا، قيام الرئيس الأسبق جعفر نميري بإعدام نبي الجمهوريين، محمود محمد طه، الذي كان يعتبر أنه يحمل وحياً جديداً، وما سماه "رسالة ثانية للإسلام" فيها تصحيح وتنقيح وإعادة تعريف للأركان والواجبات.

من المفارقات اللطيفة في موضوع الجمهوريين أن أحدهم، وهو النور حمد، كان قد كتب وحاضر كثيراً حول ما أسماه "العقل الرعوي"، الذي كان يعتبر أنه من موانع الحداثة. ما حدث في نيروبي هو أن الأيام دارت ليصبح صاحب النظرية محاضراً حول فوائد حكم حميدتي للسودان.

الانقسام تمدد ليشمل عموم اليساريين والعلمانيين المتطرفين، بمن فيهم المنتمين لحركة عبد العزيز الحلو، ففيما كان فريق يرى أن من الممكن الاستفادة من حميدتي في تحقيق هدفهم المتمثل في تفكيك المركزية العربية والإسلامية، كان فريق آخر يبدي اعتراضه على هذا التحالف الجديد، الذي يسيء بنظرهم إلى "نضالهم" ويشوه صورتهم.