تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 15 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

السنغال: حينما يغدو القتل والقمع أسُسًا "للاستثناء السنغالي"

7 مارس, 2024
الصورة
campaign
The coalition of anti-establishment candidate Bassirou Diomaye Faye supporters cheer in front of Senegalese opposition Ousmane Sonko's home in Keur Gorgui in Dakar on March 10, 2024 where the caravan set off for their 2024 presidential election campaign.
Share

إن تفكيكّ تناقضات دولة ما بعد الاستعمار لم يعد تحديا، لكن يكمن التحدي الحقيقي في عملية فحص المراحل المفصلية لتطور هذه التناقضات وأشكالها، وتوظيف تجسداتها لفهم واقعنا السياسي اليوم. بشكل ضمني، تحيل هذه العملية إلى أمرين أساسيين؛ الأول يتمثل في ضرورة استحضار الأسس البنيوية لدولة ما بعد الاستعمار لفهم هذا الواقع، والثاني يكمن في إعادة الاعتبار للبنية الثقافية والاجتماعية لأنظمة الحكم في مجتمعاتنا خلال فترة ما قبل الاستعمار. وهذا أشار إليه عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران قبل أسبوعين خلال مقابلة له على قناة فرانس24 بمناسة النسخة الثانية لمهرجان الكتاب الإفريقي في مدينة مراكش بالمغرب. يقول موران في هذه المقابلة: "أتمنى ألا ينسى الأفارقة ثقافتهم" ويضيف أنه يقصد بذلك، أن يبحث الأفارقة في تاريخهم العميق حلولا لتجاوز أزماتهم الحالية والتي تساءل التجربة الديموقراطية في إفريقيا.  بلغة أخرى، يتعلق الأمر بالبحث عن مقاربة نظرية تجعل من الاستعمار بكافة أجهزتها وحدة تحليلية، وعن مقاربة نظرية تقوم على رفض فكرة اعتبار الاستعمار بداية لتاريخنا كجماعة.  فعملية ربط واقعنا السياسي بجذوره الاستعمارية، ليست أهم من عملية ربط الاستعمار كلحظة تاريخية بما قبلها من مراحل لتاريخنا الاجتماعي والسياسي. بل بالأحرى، فهما عمليتان متكاملتان تدعو إليهما الحاجة لتطوير موقف نقدي تجاه تاريخنا عموما، وتجاه ما نشهده اليوم من أزمات على وجه الخصوص.

وعلى ذلك، نبني قناعة مفادها أن ما نشهده اليوم من الأزمات ومن اللايقين امتداد لأشكال العنف والفشل التي تجد جذورها في لحظة الاستعمار، وفي لحظة تشكل  دولة مابعد الاستعمار. وهوامتداد لأشكال العنف، يعني أن أجهزة الأمن والجهاز الإداري للدولة تتخذ من العنف والقمع  والقتل قاسما مشتركا بين واقع الدولة اليوم والاستعمار كلحظة. بل أكثر من ذلك، فإن الاستعمار الجديد، لا يتمثل في الامبريالية الغربية بقدر ما يتمثل في استمرارية العنف والقمع والقتل بأشكالهما الاستعمارية. لست أحاول هنا إهمال تجسدات الاستعمار الجديد في الامبريالية الغربية وعلاقتنا بفرنسا كمُستعمِر (الأمر الذي سنعود إليه في مقام آخر)، وإنما أحاول تطوير نقد داخلي ينبني على ما دعى إليه فرانز فانون من تغيير جذري وأساسي على المستوى المؤسساتي لبناء دولة تكون قادرة على صياغة أفقنا في لحظة ما بعد الاستعمار وإعادة توجيه حركتنا التاريخية من دون إهمال الاستعمار كلحظة عنيفة ومأساوية. وهو امتداد لأشكال الفشل/العجز، يعني أن تشكل الدولة غداة الاستغلال وما رافقه من محاولات لبناء خطاب قومي باءت مساعيه بالفشل بفعل طبيعة العلاقة التي كانت تربط نخب تلك الفترة بالاستعمار كماضي،وذات العلاقة، يمكن القول بأنّها تربط نخبتنا السياسية اليوم بالقوى الغربية عموما وبفرنسا على وجه التحديد.  

ثمة تحد نجح سينغور وجماعته في تجاوزه، فهو توظيفه لصوته كأديبٍ وفيلسوفٍ للزنوجة لا كرجل الدولة فحسب، في بلورة صورة أيديولوجية لا تعكس تناقضات دولة ما بعد الاستعمار، والتي حلّ سينغور أول رئيس لها في الحالة السنغالية. فصورة الدولة التي عمل سينغور على تقديمها للعالم ليست أكثر من انعكاس لزنوجته الرومانسية، والتي بناها على وهم وجود تاريخ سياسي مثالي، يتمثل في أنظمة ومؤسسات حكم ديمقراطي. من الصعب، أو يكاد يكون من المستحيل، نفي الطابع الديمقراطي لصورة هذه الدولة التي بناها سينغور من الإثر الاستعماري. ويكون الأمر أصعب إذا تعلق بصورتها الحالية. في تقديري، تعود هذه الصعوبة إلى أمرين؛ الأول يتمثل في التقليد الانتخابي الذي منح للسنغال " قطيعتين ديمقراطيتين"، والتداول السلمي للسلطة دون أي انقلاب عسكري منذ الاستقلال. بينما يتمثل الثاني في صعوبة تفكيك شفرة "الاستثناء السنغالي"، وأسطورة "مرآة الديمقراطية في إفريقيا " والتي يراد بها السنغال كدولة. غير أن هذه الصعوبة لا يعني بالضرورة غياب إمكانيات تحليلية تحاجج لا ديمقراطية الدولة. بلغة أخرى، أدعي هنا بأن السنغال كدولة، لم تكن في مرحلة من مراحل تطورها قائمة على الأسس المبدئية للديمقراطية. ولست أحاول هنا نفي الجهود التي بذلها كل من الرؤساء الثلاثة "سينغور"، "جوف" و" واد"، (تتلخص هذه الجهود في التقليد الانتخابي، التداول السلمي للسلطة، التعددية الحزبية وحرية التعبير). وهي الأسس التي تقوم عليها قناعة "الاستثناء السنغالي" عموما. لكن الأمر هنا، يتعلق أكثر بمحاولة تفكيك البنية الخطابية للدولة كمؤسسة، والتمرد على منطقها السلطوي.

قد يتبادر في ذهن القارئ هنا سؤال المرجعية أو المعيار الذي نعود إليه لتقييم حالتنا الديمقراطية. بالفعل، هو سؤال نقدي ومشروع، وعلى ذلك أكون أمام ضرورة التأكيد على أنني لا أتخذ من النسخة الغربية ولا البراديغم الأوروبي مرجعية لتحليلي. وإنما أحاول الانطلاق من الصورة المثالية التي نجح سينغور في تقديمها للعالم من جانب، ومن أسطورتي " الاستثناء السنغالي" و"مرآة الديمقراطية في إفريقيا" من جانب آخر. يبدو الموقف راديكاليًا إلى حد ما، وخاصة إذا تعلق الأمر بوصف "الاستثناء السنغالي" و" مرآة الديمقراطية في إفريقيا" كأسطورة. غير أنني أقتنع بأن الخروج عن السرديات الرسمية والمؤسساتية لا يمكن إلا أن يكون راديكاليًا، وذلك يعود إلى طبيعة السلطة والعنف الذي تمارسه هذه السرديات على المجتمع. فالسردية الرسمية للدولة والمؤسساتية تحاول بكل ما لديها من وسائل تقديم صورة ديمقراطية للدولة بناء على هيكلتها المؤسساتية، ومن هنا ظهرت تسميات وشعارات  كبرى لُصقت على اسم السنغال كدولة. على المستوى الإعلامي والسياسي، فهي "مرآة الديموقراطيا في إفريقيا"، وعلى المستوى الأكاديمي في الدراسات الإفريقية نجد مفهوم "الاستثناء السنغالي". 

أحاول هنا مناقشة الحجّة بناء على استمرارية العنف والقمع والقتل كجسر التواصل ووجه الشبه بين أجهزة الاستعمار وبين واقع الدولة اليوم. وهنا أنظر إلى العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع، حيث يكون لهذه العلاقة بُعدان أساسيان. البُعد الأول يتمثل في أجهزة الأمن كواسطة بين الدولة وبين الفرد كفاعل عضوي لضمان الاستقرار. ويتمثل البُعد الثاني في العلاقة التي تربط الإدارة كجزء عضوي من الدولة بالمجتمع. فأهمية هذا المنظور لا تتمثل في قدرته على تشخيص ديمقراطية الدولة فحسب (ديمقراطية المؤسسات، بل أبعد من ذلك، فهو منظور يساعد على فحص إلى أي حد يمكن الحديث عن ديمقراطية المجتمع (الديمقراطية كعملية بنائية أو كممارسة).  في اعتقادي، لم نعد بحاجة إلى الاستدلال لإثبات عنف الدولة. فالأوضاع اللاإنسانية في السجون، ووحشية أهجزة الأمن وعنفها في تعاملها مع المجتمع، أوضح من أن يُدل عليه. وبالنسبة للإدارة، فهي تشبه سلطة داخل السلطة، من ناحية العنف الرمزي الذي تمارسه على الأفراد من خلال الرشوة. وتمثل الأعمال السينمائية للمخرج السنغالي عثمان سيمبين عنف وقمع أهجزة الأمن والإدراة على أدق الأوجه.  تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الربط بين العنف والديمقراطية لا يعني بالضرورة غياب العنف في المجتمعات والدول الديمقراطية الكبرى بصفة عامة، لكن أشكال العنف الذي أبني عليه حجّتي تمثل الوسيلة الوحيدة التي تعتمد عليها الدولة لإعادة إنتاج نفسها.

في الدراسات الإفريقية، لا تختلف الأطروحات على السمعة الاستثنائية للتجربة السياسية في السنغال. لكن ثمة ثغرة ما في هذه الأطروحات، وتتمثل في عدم مساءلة هذه الاستثنائية بناء على معطيات الواقع السياسي عبر الأزمنة والسياقات. إنّ الأطروحات التي تناقش "الاستثناء السنغالي" تقوم أساسا على المقومات التالية؛ التعددية الحزبية، التنوع الإعلامي وحرية التعبير، التداول السلمي للسطلة القائم على التقليد الانتخابي المبكرفي السنغال، وفي الأخير "الموقف الحيادي" للسطلة الدينية تجاه علمانية الدولة. تقوم أطروحة  "الاستثناء السنغالي" عند ليوناردو فيلالون Leonardo Villalon(1995) على دور الوساطة التي تلعبه السلطة الدينية بين الدولة والمجتمع. فالسلطة الدينية تشكّل مجتمعا مدينيا يضمن توازن المؤسسات والاستقرار السياسي بتعبير فيلالون. 

نشر عالم الاجتماع السنغالي عبد الله غي Abdoulaye Gueye مقالا في المجلة الكندية للدراسات الإفريقية، يدرس فيه التحالفات السياسية التي أدت إلى وصول اللبراليين إلى الحكم برئاسة عبد الله وادAbdoulaye Wade عام 2000. أهمية دراسة  غي تكمن في مساءلته "للاستثناء السنغالي"، بناء على التعددية الحزبية. فالتحالفات التي ساعدت على وصول واد إلى الحكم حسب غي، أعادت التشكيل الفضاء السياسي في السنغال بشكل يصعب فيه البحث عن "الاستثناء السنغالي" بناء على مبدأ التعددية الحزبية. وتتجدد هذه الحاجة، أي حاجة فحص ونقد هذه الاستثنائية، بناء على سياقاتنا السياسية المختلفة، وبناء على المنطق الداخلي لعلاقة الدولة بالمجتمع. هناك أيضا من يبني أطروحة الاستثنائية على التقليد الانتخابي الذي دخل في التاريخ السياسي للسنغال منذ القرن التاسع عشر، وذلك بانتخاب النواب "الفرانكوسنغاليين" في المجلس التشريعي الفرنسي. فقبل أسبوعين، تدخل الفيلسوف السنغالي سليمان بشير ديان Soulaymane Bachir Diagne على فرانس24 بمناسبة مهرجان الكتاب الإفريقي بنسختها الثانية في مدينة مراكش. يتحدث ديان في هذه المقابلة عن الوضع السياسي في السنغال  متأسفا، وخصوصا عن تأجيل الانتخابات الرئاسية مؤخرا. ويناقش ديان أطروحة "الاستثناء السنغالي" في تاريخنا السياسي مبنيا حجته على هذا التقليد الانتخابي الذي بدأ في القرن التاسع عشر بمبادرة من الإدارة الاستعمارية التي قررت منح الجنسية الفرنسية لمواليد أربع بلديات في السنغال؛ وهي بلدية Saint Louis ، Goré ، Rifisque، وبلدية Dakar ، وبالتالي منح تمثيل سياسي "لفرنسيي المستعْمَر " في مجلس النواب بباريس.أبني اختلافي مع ديان في طرحه على نقطتين؛ الأولى تتمثّل في كون هذه المبادرة جزء عضوي من البنية الكلونيالية، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لمناقشة ديمقراطية السنغال كدولة. والثانية تتمثّل في المنطق الداخلي لهذه المبادرة وطرق اشتغالها. فسياسة منح الجنسية الفرنسية لهؤلاء، ثم منحهم حق الانتخاب كفرنسيين لا كسنغاليين، كانت تسعى إلى تفكيك المسؤسسات التقليدية، والذات الجماعية للأهالي. ومن خلال هذه السياسة نجحت الإدارة الاستعمارية في عملية أسميتها في نص آخر بصناعة  "آخر من الذات". وأقصد بهذه العملية فكرة خلق آخرية "فرانكوسينغالية" من الذات الجماعية، ليتشكل خطاب سياسي جديد، يتخذ من "النحن/الفرانكوسنغاليين" مركزا له، ومن "أنتم/الأهالي" هامشا له. في اعتقادي، يمكن اعتبار أطروحة الاستثنائية في التجربة السياسية للسنغال جزء من البنية الخطابية لمؤسسة الدولة، ولها منطق مؤسساتي يعمل على الحفاظ على مصالح أيديولوجية وجماعاتية معينة، مستخدما في ذلك القتل، القمع والعنف بأشكاله الجسدية والرمزية.

خاتمة

تقوم محاولتنا لتفكيك البنية الخطابية للدولة على فكرة الديمقراطية كممارسة، إذ أنّ الهيكلة المؤسساتية للدولة (السلطة التنفيذية، السلطة القضائية والسلكة التشريعية) لا تهم بقدم ما تهم طبيعة العلاقة التي تربط بين هذه المؤسسات، أي السيرورة التفاعلية التي من خلالها تتحقق الديمقراطية كممارسة. وعلى ذلك، فالحجة التي أحاول تطويرها من خلال مواقفي، ترتكز على فكرة الديمقراطية كعملية بنائية. ويحيل هذا الطابع البنائي للديمقراطية إلى مسؤولية الدولة لضمان شروط تحققها. أستحضر هنا عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمرتيا سِينْ Amartiya Sen، الذي يُعتبر أول من تطوّر فكرة ارتباط انعكاسي بين ما أَطْلَقَ علية شرط الموارد، شرط القُدرات وشرط الآداء. فمسؤولية الدولة لإثبات ديمقراطيتها لا تنتهي بضمان وجود المؤسسات، وإنّما بضمان الارتباط الانعكاسي بين الموارد، القُدرات والآداء. وهو ما حاولتُه في مناقشتي للعللاقة التي تربط بين الدولة والمجتمع في الحالة السنغالية. تكمن أهمية هذا الارتباط الانعكاسي بين الشروط في أنه يفتح لنا أفق التفكير خارج المنطق المؤسساتي، لبناء نقدي يساءل الفعل السياسي في جوانبه المتفاعل وليس فقط في جانبه المؤسساتي.