الأحد 9 فبراير 2025
تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، عقب هجوم حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بتدمير المقاومة الفلسطينية عبر حرب إبادة وحشية في قطاع غزة. وأوضح وقتها أنه ليس ثمة خطوطًا حمراء، ولا حدودًا للوحشية والقسوة المستخدمة ضد شعب غزة. طوال حملة الإبادة تلك وعد نتانياهو مواطنيه بأن "الضغط العسكري المستمر حتى النصر الكامل" سيؤدي (وحده) إلى الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين. لطالما كرر نتانياهو، طوال المذبحة التي ارتكبها، إعلان عزمه هزيمة حماس والجهاد الإسلامي وأية جماعة مقاومة أخرى، "وتدميرها وإبادتها، والقضاء عليها، وتفكيكها"، وطمأن بني جلدته أن أعداء إسرائيل سيستسلمون في نهاية المطاف.
لكن بعد 467 يومًا من الدمار الإسرائيلي الوحشي في غزة، ذلك القطاع الضيق الذي لا تتجاوز مساحته 365 كلم مربع، الذي يعاني من حصار إسرائيلي محكم لأكثر من 16 عامًا خلت على العدوان الأخير، أخبر نتانياهو أسر الرهائن في 14 يناير/ كانون الثاني الجاري أنه ينتظر ردًا إيجابيًا من حماس، بخصوص اتفاق على تحرير هؤلاء الرهائن. ويمكن النظر لهذا التناقض الفاضح بين شعاراته المبكرة والحقيقة الراهنة كاعتراف بالهزيمة، لاسيما بالنسبة لنتانياهو الذي اعتبرته المحكمة الجنائية الدولية مجرم حرب.
وضع نتانياهو من البداية أهدافًا واضحة، ستمكنه من إعلان "الانتصار الكامل" على غزة، ومقاومتها العنيدة. وتعهد بتحويل القطاع إلى أنقاض؛ وهي مهمة لم تكن عسيرة في ضوء إمداد الولايات المتحدة إسرائيل بمعونات عسكرية بقيمة 22 بليون دولار في الشهور الخمسة عشر الماضية، قٌدمت خلالها واشنطن أكثر الأسلحة تقدمًا ليتم إطلاقها في غزة ولبنان وخارجهما. وطلبت إدارة بايدن - المشاركة في جريمة العدوان على غزة- مسك الختام، ممثلا في مساعدات عسكرية إضافية غير مسبوقة من الكونجرس لإسرائيل، تقدر قيمتها ب 8 بليون دولار.
أكد نتانياهو طوال حملة الإبادة أن حماس لن تتفكك فحسب، بل ستحرم من أي دور مستقبلي في غزة، وأنه بصدد إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وفرض الهيمنة الإسرائيلية على الإقليم بأكمله. ولتحقيق تلك الأهداف أدارت الحكومة الإسرائيلية، على الأرجح بالتعاون مع الولايات المتحدة، العديد من الخطط. حاولت إسرائيل في البداية، بعد التدمير المنهجي للبنية الأساسية في غزة، فرض عمليات إجلاء أو طرد جماعي للفلسطينيين إلى سيناء عبر عمليات قصف عشوائية.
بأي حال، فشل ذلك النهج في إقناع مصر -أو أية دولة أخرى- بقبول استقبال الفلسطينيين المشردين، كما فشلت جهودًا من قبيل تشييد رصيف بحري لإخلاء المشردين بحرًا أو إخلاء شمالي غزة، من أجل تقوية الاحتلال الإسرائيلي هناك- وهي التي عرفت باسم خطة الجنرالات "Generals Plan".
كما اجتاح الجيش الإسرائيلي مدينة رفح، وأحدث دمارًا وخسائر فادحة بها، وشيد ممر نتساريم لتقسيم غزة إلى مناطق عسكرية، واحتل ممر فيلادلفيا على امتداد الحدود مع مصر، متعهدًا بعدم الانسحاب منه مطلقًا. لكن جميع هذه التكتيكات فشلت في نهاية المطاف.
نتيجة للصمود القوي والمقاومة الصلبة، فشلت وعود نتانياهو بتحرير الرهائن الإسرائيليين باستخدام الوسائل العسكرية فشلًا ذريعًا، ونتج عن استخدام العنف الإسرائيلي قتل رهائن أو إصابتهم.
يعكس الاتفاق الحالي إطارًا كانت حماس قد قبلته في مايو/ آيار ويوليو/ تموز من العام الماضي، فيما سبق أن رفضته إسرائيل، كما رفضت أي تسوية تفاوضية أخرى منذ ذلك الوقت. إذن، ما الذي تغير؟ يبدو أن العامل الرئيس هو تدخل دونالد ترامب، الذي فاز بفترة رئاسته الثانية منذ أسابيع قليلة، وخلال حملته دعا ترامب نتانياهو إلى "إنهاء المهمة" بتدمير حماس، ووضع نهاية للحرب.
بأي حال فإن ترامب، الذي أقر بعدم واقعية هذا الحل، وعدم القدرة على تحقيقه، لا يرغب في وراثة كارثة في الشرق الأوسط تشغله عن أولوياته الداخلية والدولية، مثل: الهجرة والضرائب والتنافس مع الصين، والعلاقات مع روسيا في سياق حرب أوكرانيا والعجز التجاري. كما أنه فهم أن نتانياهو لا يمكنه تحقيق أيًا من أهدافه الاستراتيجية، ناهيك عن حرصه على تفادي التورط فيما يطلق عليه "حروبًا غبية".
ورغبة منه في إنهاء الصراع قبل بدئه مهام منصبه؛ هدد ترامب "باندلاع الجحيم" (في الشرق الأوسط) إن لم يتم الإفراج عن الرهائن، قبل 20 يناير/ كانون الثاني 2025. وافترض كثير من المراقبين أنه كان بذلك يحذر حماس، رغم أنه لم يكن واضحًا ما الذي سيؤدي إليه مزيد من الضغط العسكري على حماس، بعد كل هذا الجهد العسكري الإسرائيلي. ويبدو أن ستيف ويتكوف (Steve Witkoff)، مبعوث الشرق الأوسط الجديد الذي عينه ترامب، قد ضغط بقوة على نتانياهو للتوصل للاتفاق.
هذا الاتفاق هو نفسه، في جوهره، ما رفضه نتانياهو مرات عدة، على حد اعتراف الوزير الإسرائيلي إتمار بن غفير، عضو الحكومة المتطرف وحليف نتانياهو.
ولربما قدم ترامب لنتانياهو عدة حوافز للتخلي عن أهداف الأخير في حرب غزة، والتي لا يمكن تحقيقها. ويظل من غير الواضح حتى الآن إن كانت تلك الحوافز تتضمن اتفاقًا للتطبيع مع المملكة العربية السعودية، أو دعم احتلال إسرائيل لأراضٍ سورية جديدة عقب سقوط نظام الأسد، أو حتى السماح بضربة عسكرية على المرافق النووية في إيران.
وفي الوقت نفسه كان بيزاليل سموترتش، وهو حليف متطرف آخر لنتانياهو، والقائم بأعمال وزير المالية في الضفة الغربية، قد تعهد بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية لإسرائيل- وهو موقف كرره ترامب خلال حملته الرئاسية.
كما دافعت عن تلك السياسة علنًا ميريام أدلسون (Miriam Adelson)، التي قدمت أكثر من مائة مليون دولار لحملته، وهو رقم كبير مقارنة بمبلغ 40 مليون دولار سبق أن قدمته زوجها شيلدون أدلسون عام 2016، لتأمين اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
فشل نتانياهو في تحقيق أيًا من أهدافه الاستراتيجية، بينما كانت حماس وجماعات المقاومة الأخرى حازمة في أهدافهم. فقد أكدت حماس باستمرار طوال الحرب على أنها لن توقع أي اتفاق، بغض النظر عن أية ضغوط عسكرية أو سياسية، حتى تتم تلبية خمسة شروط، وهي: وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب؛ وانسحاب إسرائيلي كامل من غزة؛ وتقديم مساعدات كبيرة لسكان غزة وإجلاء الجرحى؛ وإعادة تأهيل وتعمير غزة؛ وتبادل سجناء يشمل آلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون ومقار الاعتقال الإسرائيلية التي تحولت إلى غرف تعذيب.
يلبي الاتفاق الجاري جميع هذه الشروط، وحماس كانت دوما تركز على إطار محدد للاتفاق، الذي توقعت أن يطبق على ثلاثة مراحل كل منها 42 يومًا، تشهد مرحلته الأولى الإفراج عن نحو ثلث الرهائن (بالأساس النساء والطفال تحت عمر 19 سنة وكبار السن فوق 50 عامًا) تحسبًا لاستئناف إسرائيل حرب الإبادة مستقبلًا.
ويعود إلى ما سبق تأكيد حماس دائمًا على الحصول على ضمانات من الوسطاء –بالأساس الولايات المتحدة- من أجل تأمين عدم استئناف الحرب بعد تحرير الرهائن. وفي الاتفاق الحالي تعهدت الولايات المتحدة، مع مصر وقطر، بضمان وقف دائم لإطلاق النار بعد الإفراج عن جميع الرهائن أحياء أم أموات. كما وضع الاتفاق تواريخًا محددة لانسحاب إسرائيل الكامل من غزة. ونظرًا لما لإسرائيل من تاريخ في استغلال اللغة الملتبسة والثغرات، صممت حماس على وضع تواريخ وخرائط محددة، مع ضمان الولايات المتحدة والوسطاء الآخرون لتنفيذ الاتفاق.
علاوة على ذلك، سيسمح لجميع سكان شمالي غزة، خلال المرحلة الأولى، بالعودة إلى أحيائهم دون إعاقة أو عمليات تفتيش إسرائيلية. إضافة إلى ذلك سيكون مطلوبًا من الجيش الإسرائيلي إعادة الانتشار في نطاق 400-700 مترًا من الحدود، وتفكيك ممر نستاريم، والانسحاب من ممر فيلادلفي- وهي الشروط التي سبق لنتانياهو أن رفضها جميعًا.
كما يدعو الاتفاق، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/ كانون الثاني الجاري، إلى البدء في إدخال مساعدات كبيرة لقطاع غزة، وأن يفتح معبر رفح أمام مرور الأفراد والبضائع. وبينما تقرر وصول الخيام والمساكن المؤقتة والكهرباء والمياه، فإن عملية إعادة البناء الكاملة لن تبدأ إلا بعد المرحلة الثالثة، عندما يتم تبادل جميع الجثامين المتبقية. وسيتم أيضًا في أول 12 أسبوعًا، مع الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، تحرير الآلاف من السجناء الفلسطينيين.
وبالرغم من المعاناة الفلسطينية الهائلة طوال الشهور الخمسة عشر السابقة، فإن الإفراج عن هؤلاء السجناء سيمثل انتصارًا رمزيًا وجوهريًا على وحشية حملة الإبادة الإسرائيلية. مقابل الإفراج عن 33 مدنيًا إسرائيليًا- ولاسيما صغار السن والمرضى وكبار السن والجنديات الإسرائيليات- سيتم تحرير آلاف الفلسطينيين.
لا يتضمن ذلك المقبوض عليهم من قبل إسرائيل، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 فحسب، بل الآلاف من المعتقلين في إسرائيل، بمن فيهم جميع النساء والأطفال الفلسطينيون، ونحو 250 فلسطينيا يمضون عقوبة السجن المؤبد، ومئات آخرين ممن يقضون مدد حبس مطولة تتجاوز في حالات كثيرة 15 عامًا.
إجمالًا يتوقع الإفراج عن ثلاثة آلاف فلسطيني في المرحلة الأولى. وتتعلق المرحلة الثانية بمزيد من المفاوضات من أجل الإفراج عن الباقين من الجنود الإسرائيليين (الذكور)، حيث يتوقع أن تتجاوز نسبة تبادل السجناء نسبة 30/ 1 للمدنيين، أو 50/ 1 للسجينات الإسرائيليات المفرج عنهن في المرحلة الأولى. وستزيد هذه النسبة على الأرجح مع الإفراج عن أغلب 500 فلسطيني المتبقين في السجون الإسرائيلية، ويقضون عقوبة السجن المؤبد.
هناك بالتأكيد مخاطر تتعلق بمثل هذا الاتفاق، وخاصة عندما يتحول ميزان القوة بشكل واضح لصالح إسرائيل. لكن هذا الخطر يجب ألا يثير مخاوف الفلسطينيين وحدهم، بل على العالم أجمع التخوف منه.
إذا واصلت إسرائيل حرب إبادتها في غزة بعد تحرير رهائنها، فإنه ستكون ثمة معركة أخرى من أجل الحرية. لقد تحول فكاك غزة من سجنها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى حرب إبادة إسرائيلية، لكن هذا الاتفاق يجب ألا يسمح بعودة غزة إلى معسكر اعتقال جماعي آخر أو منطقة حرب.
تتكبد الشعوب في نضالهم من أجل الحرية وتقرير المصير تضحيات عظيمة، لاسيما عندما يكون العدو قوة استعمار استيطاني، تتبنى أيديولوجية تفوق عنصري، تقوم على إبادة مناهضيها بجميع السبل المتاحة لديها.
لكن إن كان ثمة أمر واحد واضح، منذ قرابة القرن من المقاومة الفلسطينية، فإنه ما يلي: إنه رغم التضحيات والألم والمعاناة، فإن الصمود والجلد والتصميم الفلسطيني سيتغلب في نهاية المطاف على صلف العدو ووحشيته.
وهناك قول ذائع، يكرره الأمريكيون بفخر واضح، ورد على لسان المناضل الأمريكي باتريك هنري، الذي أعلنه خلال الثورة الأمريكية عام 1775 "امنحني الحرية أو أعطني الموت".
إن صرخة حرية شعب غزة وجميع الفلسطينيين ليست أقل قيمة أو ثمنًا أو توقيتًا مناسبًا من اللحظة الراهنة.
مُترجم عن هذا المصدر