الاثنين 28 أبريل 2025
أصبحت بذور السمسم محورًا تدور حوله دوامة من العنف وعدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاقتصادية في منطقة القرن الأفريقي، وبالتحديد في إثيوبيا والسودان، والمناطق الحدودية التي تجمعهما. على مدى السنوات القليلة الماضية، أدت الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية والنزاعات الإقليمية إلى تشكيل الاقتصاد السياسي للسمسم، حيث تحوّل من أداة اقتصادية هامة لسبل العيش المحلية، إلى سلعة صراعية لها دور محوري في الصراع داخل الدول. فضلا عن تحول عائداته إلى مشروع مربح للجماعات المسلحة النشيطة في القرن الأفريقي.
يرجع الطلب على السمسم إلى حد كبير إلى خصائصه الغذائية، وإدراجه في مجموعة متنوعة من الأطعمة. فقد قُدِّرت قيمة سوق بذور السمسم العالمية بنحو 7.7 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن يسجل معدل نمو سنوي مركب يزيد عن 2.3٪ من عام 2025 إلى عام 2034.
يُعد السمسم أحد أهم السلع التصديرية في السودان، بعد الذهب، على قدم المساواة مع الثروة الحيوانية، وتقع نحو 80٪ من المساحة المخصصة لزراعة بذور السمسم في ولايات القضارف وشمال كردفان والنيل الأزرق، كما تساهم ولايات دارفور بحصة كبيرة في الإنتاج. تمتاز السودان بجودة إنتاجها لهذا المحصول، وتقع في مراتب متقدمة عالميًا في إنتاجها للسمسم، ويحظى نوع السمسم الأبيض المنتج في القضارف وحميرة بطلب عالي، ويُعرف باسم "الذهب الأبيض" بسبب لونه. وهذا يرجع إلى جودته والمنطقة المحدودة نسبيًا التي يتم إنتاجه فيها.
سعت قوات الجيش بقيادة البرهان، منذ نشوب الحرب، لإحكام السيطرة على المناطق الحدودية مع إثيوبيا التي تتواجد بها زراعة السمسم؛ حتى لا تقع في حوزة حميدتي
على الرغم من القيمة الاقتصادية الكبيرة التي يقدمها هذا المحصول للسودان، وإمكانيته بأن يكون لاعبًا مؤثرًا لازدهار اقتصاد هذا البلد، إلا أن الوضع يختلف تمامًا في السودان، حيث تتداخل أهمية السمسم كسلعة صراعية في مجريات الحرب السودانية بشكل لا يمكن التغافل عنه. ترتبط عائدات السمسم لطرفي الصراع، بشراء الأسلحة والإمدادات لمسانداتهما في الحرب الراهنة، والتي اندلعت شظاياها في أبريل/ نيسان 2023، بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية.
سعت قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، منذ نشوب الحرب، لإحكام السيطرة على المناطق الحدودية مع إثيوبيا التي تُوجَد بها زراعة السمسم؛ حتى لا تقع في حوزة حميدتي، قائد قوات الدعم السريع. حرصت القوات المسلحة على فرض سيطرتها الكاملة على ولاية القضارف التي تساهم بـ 30٪ من إنتاج السمسم للبلاد. تستفيد الحكومة من صادرات السمسم في دعم جهودها الحربية، حيث جنى الجيش السوداني أرباح كبيرة من تجارة السمسم، مما ساهم في استدامة الصراع القائم.
يسعى الجيش السوداني إلى مواصلة القتال ضد قوات الدعم السريع، ويتجه إلى الحصول على الأسلحة والدعم الاقتصادي من حلفائه الإقليميين من خلال بيع السلع الاستراتيجية، مثل: السمسم والذهب والثروة الحيوانية. تعد تركيا أبرز تلك الدول، حيث شكلت وجهة مهمة للسمسم السوداني في مقابل تقديم السلاح والإمدادات اللازمة للحرب، ويتضح ذلك من خلال قيام القوات المسلحة بشراء طائرات بدون طيار تركية الصنع خلال الحرب. ومن اللافت أنه على الرغم من الحرب القائمة، جاء السمسم على رأس المحاصيل الزراعية الرئيسية المُصدرة من السودان في عام 2023، حيث شهد ارتفاع معدلات صادرات السمسم من مارس/ أذار 2023 إلى فبراير/ شباط 2024، بنسبة 2٪ مقارنة بالسنة السابقة للحرب، ما يعكس أهمية دور هذا المحصول في تمويل آلة الحرب القائمة، وإن كانت بصورة غير مباشرة.
تدرك قوات الدعم السريع من جانبها أهمية المناطق الزراعية في تمويلها ذاتيًا أثناء الحرب، ولا سيما مع صعوبة تلقيها مساعدات خارجية مباشرة من داعميها؛ لبُعدها عن موانئ البحر الأحمر التي تسيطر عليها قوات الجيش. وعليه، تركزت عملياتها الهجومية على اجتياح الأجزاء الجنوبية للبلاد، والتي تستوطن بها المناطق الزراعية المنتجة لمحصول السمسم، في يوليو/ تموز الماضي، تمكنت قوات الدعم السريع من إضافة ولاية سنار إلى نفوذها، وهي منطقة زراعية هامة، تكسبها تلك الخطوة ميزة تقدمية في الاستيلاء على الولايات المنتجة للسمسم كولاية القضارف الواقعة على الحدود مع سنار.
تتصدر إثيوبيا قائمة صادرات السمسم بعد الهند، ويليهما باكستان، حيث تنمو زراعة السمسم في التربة الرملية الجافة في غرب تيجراي، ويمثل عاملا اقتصاديا حيويا لأديس أبابا، حيث احتل المرتبة الثانية بعد القهوة من حيث عائدات العملات الأجنبية للدولة. قبل نشوب الحرب الأهلية الإثيوبيةفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، كان لإقليم تيجراي حصة كبيرة من إنتاج هذا المحصول، إذ ساهم بنحو ثلث صادرات السمسم الإثيوبية، والتي بلغت قيمتها 350 مليون دولار سنويًا. وساهمت ولاية أمهرة بنسبة 44٪ من صادرات السمسم الوطنية، في حين ساهمت تيجراي المجاورة بنسبة 31٪، وأوروميا بنسبة 13٪، وتتم زراعة السمسم أيضًا على نطاق أصغر في العديد من الولايات الإقليمية الأخرى في إثيوبيا.
تُعدْ منطقة زراعة السمسم في غرب تيجراي محل صراع بين قوات أمهرة وجبهة تحرير شعب تيجراي، فمنذ نشوب الحرب استولت قوات أمهرة على المناطق الزراعية لمحصول السمسم
ترتبط النزاعات الداخلية في إثيوبيا بشكل وثيق بالسيطرة على المناطق الزراعية، في مقدمتها مناطق زراعة السمسم، وتحولت السيطرة على هذه المناطق إلى هدف استراتيجي هام بين قوات أمهرة وجبهة تحرير شعب تيجراي؛ نظرًا للقيمة الاقتصادية البالغة لهذا المحصول. ازدادت حدة المنافسة للحصول عليه فيما بينهما، مما أدى إلى تأجيج العنف وعدم الاستقرار والانقسامات العرقية والسياسية في البلاد، وأصبحت الحدود بين الولايات الإقليمية الإثيوبية الاثني عشر بؤرة نزاعات مشتعلة على مدار أكثر من عاميين.
تُعد منطقة زراعة السمسم في غرب تيجراي محل صراع بين قوات أمهرة وجبهة تحرير شعب تيجراي، فمنذ نشوب الحرب استولت قوات أمهرة على المناطق الزراعية لمحصول السمسم، وزعمت أحقيتها بامتلاك هذه الأراضي، وأن تيجراي قد استولت عليها منذ ثلاثين عامًا، بعد وصولهم إلى السلطة دون موافقة السكان المحليين. مع تصاعد النزاع، تمكنت قوات أمهرة من فرض حكومة مؤقتة في إقليم تيجراي، وبالتالي، بسط أمهرة سيطرتها على المناطق الزراعية للسمسم، الذي أصبح مصدرًا للثروة والنفوذ، وعززت الأرباح السيطرة الفعلية لأمهرة على المنطقة.
منذ ضم أمهرة لتلك الأراضي الزراعية، زاد الانقسام العرقي والسياسي بين السكان، حيث أحلت قوات أمهرة السكان الأمهريين محل سكان تيجراي، وأغرتهم بالمنح والأراضي؛ للاستقرار هناك على حساب سكان تيجراي. وقد أدى هذا التحول إلى زيادة المنافسة للسيطرة على قطاع السمسم، بين السلطات المحلية ورجال الأعمال وضباط الأمن والمزارعين الأفراد والمستثمرين والمهربين، فضلاً عن الجماعات المسلحة غير الحكومية مثل قوات ميليشيا فانو الأمهرية.
تسببت هذه الديناميكيات في سقوط مئات الآلاف من الضحايا في الحرب، وتهجير آلاف من سكان تيجراي، الذين تم استبدالهم بأفراد من أمهرة، مدعومين ببرامج حكومية لتشجيع الاستقرار في المنطقة. بالنسبة للحكومة الإثيوبية، التي خاضت حربها ضد قوات تيجراي، بدعم من إقليم أمهرة، كانت أهم أسواق تصدير السمسم هي: إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، وتعد كلاهما داعمًا محوريًا للحكومة الفيدرالية الإثيوبية، حيث استثمرتا لمساعدة الاقتصاد الإثيوبي المتعثر، بالإضافة إلى تسليم الإمدادات العسكرية الحيوية للمساعدة في حرب تيجراي. وقد ساعدت الأرباح الناتجة عن التصدير استمرار الحكومة في قتالها ضد قوات تيجراي.
لطالما ارتبطت الصراعات الحدودية بين الدول على مناطق غنية بالموارد الطبيعية، وتمثل منطقة الفشقة المتنازع عليها من قبل إثيوبيا والسودان خير مثال على ذلك. يعود تاريخ أزمة تلك المنطقة إلى عام 1957، حين فرضت إثيوبيا السيطرة عليها من خلال تسلل مزارعين إثيوبيين للعمل بطريقة بدائية. وعلى مدى السنوات السابقة، تصاعد حدة النزاعات بين الحكومتين في أديس أبابا والخرطوم على الاستحواذ على هذه المنطقة الغنية.
في أعقاب اندلاع الحرب في تيجراي، استغلت الحكومة السودانية الاضطرابات داخل إثيوبيا، وتحركت القوات المسلحة السودانية لاحتلال منطقة الفشقة؛ نظرًا لأهميتها الاقتصادية
تحتوي الفشقة على 243 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة، وتنتج مجموعة متنوعة من المحاصيل، بما في ذلك السمسم، وعلى الرغم من أن المنطقة تقع ضمن السودان، إلا أن بسبب صعوبة الوصول إلى مناطق إنتاج السمسم في الفشقة (والتي يفصلها نهر عطبرة عن ولاية القضارف السودانية)، فقد دخل ملاك الأراضي السودانيون في شراكة مع المزارعين الإثيوبيين، وقاموا بتأجير الأراضي لهم لفترات طويلة، لاستخدامها في الزراعة التقليدية.
على جانب آخر، استفادت إثيوبيا كثيرًا من هذه المنطقة، حيث مثلت منطقة بركات في الفشقة الكبرى مركزًا لزراعة السمسم الإثيوبي من عام 2012 إلى عام 2020. وتم بناء طرق من الفشقة إلى إثيوبيا لتسهيل تصدير السمسم.
في أعقاب اندلاع الحرب في تيجراي في أواخر عام 2020، استغلت الحكومة السودانية الاضطرابات داخل إثيوبيا، وتحركت القوات المسلحة السودانية للسيطرة على منطقة الفشقة؛ نظرًا لأهميتها الاقتصادية، وقامت القوات المسلحة السودانية ببناء مواقع استيطانية جديدة ومعززة في الفشقة، وسيطرت على أكثر من 90٪ من المناطق المتنازع عليها في مثلث الفشقة، وتم إجلاء السكان الإثيوبيين من بركات. لتنفرد السودان في الاستفادة من زراعة السمسم وحيدة. كما عززت القوات المسلحة سيطرتها الإقليمية من خلال تطوير البنية التحتية، بما في ذلك بناء أربعة جسور عبر نهر عطبرة. يهدف هذا التوسع الأخير إلى الحد من النشاط الزراعي الإثيوبي في الفشقة، وقد أدت هذه الخطوة إلى تدهور كبير في العلاقات بين الحكومتين الوطنيتين.
أكدت إثيوبيا، في خضم الصراع، أن السودان قدمَ أسلحة إلى جبهة تحرير شعب تيجراي أثناء القتال، وقد وفرّ السودان ملاذًا لبعض أعضاء جبهة تحرير شعب تيجراي رفيعي المستوى، بالإضافة إلى توفير المأوى لـ 60 ألف من التيجراي فروا إلى شرق السودان.
إجمالاً؛ لطالما مثلت موارد طبيعية غنية مثل النفط والذهب وغيرهم على مسار الصراعات في العالم، لكن في منطقة القرن الأفريقي ولا سيما الجارتان: إثيوبيا والسودان، كان لمحصول السمسم دور آخر، على الرغم من كونه سلعة عادية، مثل العديد من السلع الإنتاجية، إلا أنه استطاع بقيمته الكبيرة بأن يتجاوز حدود أهميته الاقتصادية، وبات جزءًا من صراعات ممتدة في أهم مناطق إنتاجه في العالم. ونتج عن دوره كسلعة صراعية، أبعاد مأساوية ذهب في فحواها آلاف من الضحايا والنازحين الأبرياء، واستدامة صراعات متجذرة سواء داخلية أو على حدود الدول.