تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 9 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي
العنوان

الصفح الرخيص واعتيادية الشر.. عن أمراء الحرب حين يرحلون

13 يونيو, 2025
الصورة
الصفح الرخيص واعتيادية الشر.. عن أمراء الحرب حين يرحلون
Share

في نهاية شهر مايو/آيار الماضي، رحل الجنرال محمد سعيد حرسي "مورغان"، آخر وزير دفاع في عهد الدولة العسكرية، عن عمر ناهز 76 عامًا، تاركًا خلفه ذاكرة مليئة بالجرائم والانتهاكات التي لم تعرف بعد طريقها إلى العدالة، ودون أن يُسأل عن دوره المباشر في المجازر والإبادات الجماعية التي ارتُكبت بحق مدنيين.

ظل مورغان، رمزًا لانقسام الذاكرة الجمعية الصومالية، حيث لا تزال الدولة الصومالية، بعجزها عن مواجهة إرث الماضي، تتأرجح بين التصافح الرخيص والتواطؤ الصريح. نطرح في هذا السياق سؤال العدالة في الصومال لا بوصفه مجرد ضرورة أخلاقية بل شرطا لإعادة بناء ذاكرة عادلة، وضمانة لقطع الطريق أمام عنف مشابه.

التحق مورغان، المولود في مدينة قردو عام 1949، بالجيش الوطني الصومالي عام 1967، حيث تلقّى تدريبًا عسكريًا متقدمًا في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، في تخصصات القيادة والاستراتيجيات الأمنية، ليصبح رمزًا للتناقض الذي وسم تاريخ الصومال: رجل تدرّب على يد خصومه في الحرب الباردة، لكنه استخدم منصبه وقدراته لتدمير شعبه. لقد شغل خلال فترة "الكعانكا" الثورية، مناصب قيادية في المنطقتين الوسطى والشمالية، قبل أن يصبح آخر وزير دفاع في عهد الرئيس محمد سياد بري – وكان أيضًا صهره، ما ربطه مباشرةً بهرم السلطة، ومنحه شرعية في سياق نظام مبني على الولاء الشخصي والعشائري.

بعد انهيار الحكومة المركزية عام 1991، وفرار سياد بري، لم يختف مورغان مثلما اختفى كثيرون، بل قاد فلول سياد بري تحت مُسمى "الجبهة الوطنية الصومالية"، والتي ارتكبت فظائع ضد سكان نهري جوبا وشبيلي من خلال القتل والاغتصاب، وتدمير أنظمة الري ونهب الحبوب المخزنة، مما تسبب باندلاع مجاعة كبرى في الصومال جذبت عيون العالم عام 1992 (مجاعة عجا بربر)، وهي مأساة مات فيها ما يقرب من ثلاثمئة ألف شخص (معظمهم من عشائر ديجيل وميريفل) جوعًا بسبب التكتيكات العقابية لمليشيات مورغان، حسب ما وثقه ألكس دي وال. أضف إلى ذلك نهب أمير الحرب الآخر محمد فرح عيديد المساعدات الإنسانية التي جلبتها عمليات "استعادة الأمل" بقيادة الولايات المتحدة.

الذاكرة ليست مجرد تذكّر، بل بناء اجتماعي يتشكل باستمرار، غير أن هذا البناء في السياق الصومالي بات ميدانًا لصراع بين روايتين: واحدة تسعى لقول الحقيقة، وأخرى تُجمّل العنف تحت غطاء وطني زائف

عُرف الجنرال مورغان بلقب "جزار هرجيسا"، وهو لقب لا يعبّر عن دعاية إعلامية بقدر ما يُجسّد واقعًا موثقًا لانخراطه المباشر في تنفيذ واحدة من أبشع الجرائم السياسية في تاريخ الصومال المعاصر. فقد صاغ بنفسه ما أسمته هيومن رايتس ووتش  بـ"رسالة الموت"، وهي وثيقة سرية وجّهها إلى صهره الديكتاتور محمد سياد بري، واضعًا فيها أسس سياسة الأرض المحروقة ضد سكان هرجيسا وبرعوا، داعيًا صراحة إلى حملة إبادة جماعية تستهدف هؤلاء المدنيين العزّل.

تظهر هذه الوثيقة كيفية تحول الفكر السياسي عند تحالفه مع القوة العسكرية إلى أداة منهجية للفناء الجماعي، حيث تصبح الدولة ذاتها - بما تملكه من مؤسسات وشرعية شكلية- حاضنة للإبادة، لا رادعًا لها. لم يكن مورغان مجرد منفّذ لأوامر عليا، بل كان عقلًا مدبرًا ضمن نخبة حاكمة رأت في القتل الجماعي أداة لإخضاع الخصوم السياسيين، وأداة لترسيخ مشروع سلطوي قائم على العنف المطلق.

ورغم التوثيق الدقيق الذي قدّمته منظمات حقوقية كهيومن رايتس ووتش، ظلّ مورغان بمنأى تام عن أي مساءلة قانونية، محليًا أو دوليًا. بل على العكس، حُظي بنعي حكومي رسمي، وبرقيات تعزية من قِبل القيادة السياسية الصومالية في مقديشو في مشهد بالغ الفجاجة، يعكس غياب الحد الأدنى من الوعي الأخلاقي والمسؤولية التاريخية لدى النخب الحاكمة. إن هذا التكريم الرسمي لمجرم حرب موثّق لا يُعدّ فقط تنكّرا لحقوق الضحايا، بل استمرارا صريحا لمنظومة التواطؤ، وتأكيدا على أن الصومال لا يزال أسيرًا لذاكرة منحازة، تعيد إنتاج الجريمة بدلًا من الاعتراف بها ومساءلتها.

تُجسد حالة محمد سعيد مورغان هذا التناقض؛ فبدل محاسبته، كُرِّم ضمن منطق "كلنا ارتكبنا أخطاء"، وهو خطاب يُستخدم لتبرير الإفلات من العقاب وتعميم الذنب، المتجذر في بنى عشائرية وسياسية تعيد إنتاج الجريمة باسم التسامح الزائف

تمثّل تجربة محمد سعيد مورغان نموذجًا لما يسميه بول ريكور بـ"الصفح الرخيص"؛ وهو صفح يُمنح دون اعتراف بالذنب أو تحمّل للمسؤولية، تحت شعارات المصالحة والحفاظ على الاستقرار. شكّل هذا النوع من الصفح عائقًا أمام تحقيق العدالة والاستقرار في التاريخ السياسي الصومالي، فالعدالة الحقيقية لا تُبنى إلا عبر محاسبة منصفة، واعتراف صريح بالجرائم.

مع تراجع دور الدولة العسكرية، انتقل العديد من أمراء الحرب، مثل مورغان، إلى مواقع نفوذ جديدة في حواضنهم الاجتماعية، حيث عُيّن مستشارًا أمنيًا في بونتلاند، مما يعكس استمرار التداخل بين العسكر والسياسة في إطار عشائري. هذا يعيد إلى الأذهان مقولة حنة آرنت عن "تفاهة الشر" واعتياديته، فالشر الذي مارسه أمثال مورغان لم يكن استثناءً فرديًا بل هو شرٌ متجذر في بنية النظام العسكري والسياسي، وفي شبكات المصالح العشائرية التي حمت هؤلاء القتلة لعقود طويلة. هذا "الشر المبتذل" يعيدنا إلى حقيقة أن الجرائم الكبرى لا تُرتكب في فراغ، بل تُرتكب في ظل خطاب سياسي يبرر العنف، وإطار اجتماعي يشرعنه، وذاكرة جمعية تلتف حوله.

تُبيّن تجارب العدالة الانتقالية، من ألمانيا بعد النازية إلى جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري، أن الصفح لا يكون فعلًا سياسيًا فاعلًا إلا حين يُبنى على الاعتراف بالجرائم، ويضع الضحايا في قلب مشروع يربط الماضي بالحاضر على أسس من الإنصاف والذاكرة الصادقة. في الصومال، ما زال هذا المسار معطلًا، إذ تُستخدم الذاكرة الجمعية كأداة بيد السياسيين العشائريين، تُشوّه الحقائق وتُكرّس الإنكار بدل الاعتراف.

يذكر موريس هالبفاكس، أن الذاكرة ليست مجرد تذكّر، بل بناء اجتماعيا يتشكل باستمرار، غير أن هذا البناء في السياق الصومالي بات ميدانًا لصراع بين روايتين: واحدة تسعى لقول الحقيقة، وأخرى تُجمّل العنف تحت غطاء وطني زائف. يبدو هذا الانقسام في الشتات الصومالي، مثل أوروبا وأمريكا، أوضح. هناك من يعرف نفسه منتميا لضحايا حرب الإبادة، يعيش في منافٍ بعيدة، لكنه يحمل ذاكرة جريحة. وهناك من ينتمي لعشائر الجناة، ويرى في المجرمين أبطالًا قوميين. يتجلى هذا الصراع في النقاشات العمومية، وفي وسائط التواصل الاجتماعي، ليُعيد إنتاج الماضي في الحاضر بأشكاله الأكثر قتامة.

في السياق الصومالي، أصبح خطاب المصالحة والصفح مجرد طقس رمزي تردده النخب السياسية، دون مضمون حقيقي أو التزام أخلاقي. فالصفح، رغم ضرورته السياسية والأخلاقية، لا يمكن اختزاله في شعارات جوفاء، من قبيل "عفا الله عما سلف"، لأن الأمر يتطلب اعترافًا واضحًا بالجرائم، ومساءلة للمسؤولين. تُجسد حالة محمد سعيد مورغان هذا التناقض؛ فبدل محاسبته، كُرِّم ضمن منطق "كلنا ارتكبنا أخطاء"، وهو خطاب يُستخدم لتبرير الإفلات من العقاب وتعميم الذنب، كما وصفته حنة آرنت بـ"ابتذال الشر" المتجذر في بنى عشائرية وسياسية تعيد إنتاج الجريمة باسم التسامح الزائف.

لم يكن مورغان مجرد منفّذ لأوامر عليا، بل كان عقلًا مدبرًا ضمن نخبة حاكمة رأت في القتل الجماعي أداة لإخضاع الخصوم السياسيين، وأداة لترسيخ مشروع سلطوي قائم على العنف المطلق

هذا ما يسميه بول ريكور بـ"الصفح الرخيص": صفح بلا ذاكرة، ولا عدالة ولا محاسبة. ومن مظاهره في الصومال ما يمكن وصفه بـ"ديب أو هشيسين/التصافح"، حيث تُقابَل أي محاولة لطرح فظائع الماضي، كجرائم الحرب في الشمال أو الجنوب، بدعوات مبهمة لتجاوزها بدعوى "كلنا مذنبون". هذا الخطاب لا يكتفي بمحو الفروق بين الجلادين والضحايا، بل يلغي المسؤولية الأخلاقية، ويُفرغ العدالة من معناها. فمثلا، حين قدّم الرئيس السابق محمد عبدالله فرماجو اعتذارًا رمزيًا عن جرائم النظام العسكري في صوماليلاند، وقع في الفخ ذاته؛ إذ ساوى بين المعتدين والضحايا، وكرّس منطق "التصافح" بدلًا من الاعتراف الصريح والمحاسبة. بهذا المعنى، لا تُفضي هذه المقاربات إلى مصالحة حقيقية، بل إلى إعادة تدوير الماضي تحت ستار التصالح، بما يُبقي الصومال رهينة ذاكرة مشؤومة.

يبقى السؤال الجوهري: كيف نبني ذاكرة مشتركة تحرّرنا من سطوة الماضي، ونُعيد للصفح معناه كفعلٍ أخلاقي، لا كغطاءٍ للتواطؤ؟ البداية تكون بالاعتراف: بالجرائم، وبحق الضحايا في الذاكرة، وبأن المصالحة لا تُختزل في اتفاقات بين نخب سياسية تتقاسم السلطة، بل هي تعهّد أخلاقي يعيد تأسيس المجتمع على أساس الحقيقة. لكن الواقع الصومالي اليوم يُفرغ هذه القيم من مضمونها؛ فاستقبال أمراء الحرب كرموز وطنية، وتكريم الجناة باسم الوحدة، ينسف أي أمل في عدالة انتقالية حقيقية. في ظل هذا الإنكار، يصبح الحديث عن المصالحة مجرد لغو يُستخدم للتغطية على استمرار البُنية التي صنعت العنف. وما دام هذا هو منطق النخب الحاكمة في الصومال، فإن أي حديث عن عدالة أو مستقبلٍ مشترك لن يكون إلا وهمًا… سرابًا.