تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

الصداقة بين النساء: تفكيك خطاب الشكّ والغيرة

14 أكتوبر, 2025
الصورة
الصداقة بين النساء: تفكيك خطاب الشكّ والغيرة
Share

جلستا متقابلتين في مقهى صغير، تتبادلان الحديث والضحك، وتلتقطان صورًا لطاولتهما المليئة بالأطعمة، ونحن على الطاولة المجاورة، علّقت "صديقتي" بنبرةٍ مثقلة بالثقة: بالتأكيد، كلّ واحدة تحقد على الأخرى. هكذا هُنّ النساء؛ يكرهن بعضهنّ البعض، الصداقة بين النساء شبه مستحيلة!

جُملٌ عابرة وقفت عليها فيها، كيف اختزلت في بساطتها تصوّرًا ثقافيًّا متجذّرًا حول التجربة الإنسانية بين الإناث، في فرضيّة واحدة تدّعي أنّ الصداقة بينهنّ محكومة دومًا بالغيرة والتنافس، وتُعتبر محكومة بالفشل مسبقًا.

إنّ تعليق صديقتي ناتج عن تاريخٍ طويلٍ من التنميط الاجتماعي والنفسي الذي صاغ علاقة النساء ببعضهنّ على نحوٍ غير متكافئ؛ تاريخٍ جعل من الغيرة مكوّنًا "أساسيًّا" في الطبيعة الأنثوية، ومن المقارنة فيما بينهنّ وسيلةً لإثبات ذواتهنّ.

فالمرأة، في كثير من الثقافات، لا تُعرّف بذاتها، بل بموقعها مقارنةً بأخرى تكون -في نظر المجتمع- أجمل وأنجح، أو أكثر قبولًا، وبذلك يتحوّل التفاعل النسائي إلى ساحةٍ رمزيةٍ للصراع من أجل الاعتراف.

يوجد مثلٌ صومالي نسمعه غالبًا من الأمهات والنساء الأكبر سنًّا: "Saaxiib dumar waa bishoo saddex ah"، ويعني: "الصداقة بين النساء لا تدوم أكثر من ثلاثة أيام".

وفي هذا القول إجحافٌ وتفريغ من الجدية والاتساق لتلك العلاقة، وجعلها عاطفةً سطحيةً عابرة، وليست رابطةً فكرية أو وجدانية ناضجة.

أنا شخصيًّا تشكّل لديّ، في عمرٍ مبكّر، إحساسٌ خفيّ بأنّ العلاقات بين النساء محفوفة بالخطر وبالغيرة، بالمقارنة وبالتنافس على المكانة أو القبول. فتجنّبتُ، لوقتٍ طويل، الصداقات العميقة بدافع الحذر.

هل المرأة هي التي تعجز عن بناء علاقةٍ صحّية ومُستمرة مع بنات جنسها الأخريات؟ أم أنّ المجتمع هو الذي يخاف من تحالف النساء وتضامنهنّ؟

وبالتأكيد، فإنّ ذلك خلاصة تربية نفسية جماعية تقوم على انعدام الثقة بين النساء، وكأنّ العلاقة بين الإناث لا يمكن أن تكون مساحةً للنضج والدعم.

يتردّد هذا المثل وما يُشابهه في الأحاديث اليومية، والمجالس العائلية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وتُقدَّم وكأنّها حكمةٌ خبرية ناتجة عن "تجارب النساء"، لكن حين نتأمّلها بعمق، نكتشف أنّها إعادة إنتاج لخطابٍ اجتماعي، يُحدّد كيف ينبغي للنساء أن يشعرن ويتصرّفن تجاه بعضهنّ البعض.

فالمجتمع، حين يُلقّن المرأة بأنّها لا تستطيع الوثوق بامرأةٍ أخرى، فإنّه في الحقيقة يُعيد صياغة علاقتها بذاتها؛ فلا يمكن أن تثق بالأُخرى إذا لم تمنح الثقة لنفسها أولًا. وهنا يأتي السؤال، هل المرأة هي التي تعجز عن بناء علاقةٍ صحّية ومُستمرة مع بنات جنسها الأخريات؟ أم أنّ المجتمع هو الذي يخاف من تحالف النساء وتضامنهنّ؟

ليس من الدقّة القول إنّ المرأة تعجز بطبيعتها عن بناء علاقة صحّية مع الأخريات؛ فالعجز هنا هو فكرةٌ أُنشئت عليها منذ الصغر، لتُضعِف إمكانات الثقة والتكامل بينها وبين الأخريات منذ البداية.

والمرأة التي تكبر في منظومةٍ ثقافية تُعيد تعريفها دائمًا من خلال موقعها إزاء الرجل، أو نظرتها إلى النساء الأخريات، تجد نفسها أمام معادلةٍ صعبة تتمثل في كيف يمكنها أن تبني علاقة نديّة في مجتمعٍ لا يعترف بندّيّة النساء أصلًا؟

إنّ المجتمع، في جوهره، يخاف من تحالف النساء، وإبقاؤهن في حالة شك ومنافسة تخدم بنية الهيمنة، لأنّها تُبقي العلاقات الأنثوية متفرّقة وضعيفة، أمّا التضامن بينهنّ، فهو ما يُهدّد تلك البنية، لأنّه يحمل إمكانية التغيير. تقول دوريس ليسينغ: "إن الصداقة بين النساء تشكّل قوّةً هائلةً قادرةً على تفكيك هياكل الأبوية".

لذلك، تُشجَّع الغيرة في الوعي الجمعي بشكل غير مباشر، بينما يُحاصَر التعاطف والاتحاد بعبارات مثل المقولة المذكورة سابقًا.

تلك المقولة وما يشابهها، والتي تبدو تجريبية أو واقعية في ظاهرها، هي في حقيقتها آليات ضبطٍ ثقافي، تُحوّل الانقسام بين النساء إلى أمرٍ طبيعي، وتمنح الخوف من التقارب مشروعيةً نفسية. فحين تظنّ المرأة أنّ الأخريات منافساتٌ لها، وتبني علاقتها بهنّ على هذا الأساس، تصبح السيطرة الاجتماعية عليها أسهل، وتُوجّه عاطفتها، وتتحوّل طاقتها النفسية إلى الدفاع، وتُصبح الأُخرى خصمًا لها بالضرورة.

وكلّ ثقافةٍ تحمل منظومة من المقولات التي تُستخدم لضبط السلوك الجمعي، وهذه المقولة تحديدًا تؤدّي وظيفةً مزدوجة، فهي من جهة، تحدّ من إمكانية تكوين روابط تضامنية بين النساء، ومن جهة أخرى، تُعيد تعريف صورة المرأة في الوعي الجمعي بوصفها كائنًا غير موثوق به عاطفيًّا.

تُلقَّن الفكرة عبر اللغة والممارسة اليومية، ومتى ما استقرّت في اللغة، أصبحت تعمل كقانونٍ غير مكتوب. وحين تُردّد الأم أو الجدة المثل الشعبي عن هشاشة علاقات النساء ببعضهنّ، فهي بذلك تنقل خطابًا ثقافيًّا يُعاد إنتاجه دون وعي. وهذا الخطاب يُحافظ على بنيةٍ اجتماعية ترى في تباعد النساء ضمانًا لاستقرارها، فتستخدم هذه الفكرة كآليّة دفاعٍ جماعيّة، وتضمن ألّا تتحوّل الصداقة النسوية إلى مساحةٍ للوعي أو التحالف أو المقاومة.

من هنا، يتّضح أن نشأة الفكرة أيديولوجيّة بحتة، تعكس رغبة المجتمع في تنظيم عواطف النساء، كما يُنظّم أدوارهنّ، وهكذا نرى المشاعر الطبيعيّة، كالتقارب والتعاطف أو الثقة، تتحوّل إلى شيءٍ مثيرٍ للريبة بينهنّ.

أذكر أنّني حين تزوّجت، وقبل انتقالي إلى بيتي الجديد، لاحظتُ شيئًا مُزعجًا في نصائح النساء من عائلتي، وكان مضمونها مختصرًا في الحذر من الأخريات، "بالأخص اللواتي تعتبرينهنّ مقربات، فهنّ لا يرغبن إلا في أخذ زوجك منك"!

إحدى النساء قالت لي أنه من الطبيعي جدًا أن يرغب الرجل بجميع النساء، ولكن أول من يستجبن له هنّ صديقاتك الحميمات، لأنهنّ منافساتك الأخطر والأكثر شراسة!

لا أنكر أنّ الموقف برمّته كان مُثيرًا للاشمئزاز، لكنني تبينتُ الإسقاط النفسيّ والاجتماعيّ الذي يُحمّل النساء مسؤولية رغبات الرجل، ويشوّه علاقاتهنّ بجعلها غير قابلة للاستمرار، أو مغلّفة بالخيانة المؤجّلة، أو عاطفة طفولية لا تصمد أمام تقلبات الحياة.

حين تظنّ المرأة أنّ الأخريات منافساتٌ لها، وتبني علاقتها بهنّ على هذا الأساس، تصبح السيطرة الاجتماعية عليها أسهل، وتُوجّه عاطفتها

بعد فترة، شهدتُ الموقف ذاته عندما تزوّجت صديقتي الحميمة، فقد أخبرتني عمّتي أنّها شعرت بالإرتياح؛ لأنّها كانت تخاف عليها من "زوجي"، ممّا أظهر لي مجدّدًا كيف يتداخل الخوف الاجتماعي مع الرعاية العاطفية، وهذه العلاقة المعقّدة بين القلق والرغبة في الحماية، بين المودّة والخوف، توضّح أنّ المرأة تتعلّم داخليًّا تقليد خطاب المجتمع وإسقاطه على علاقاتها.

في الجانب الآخر، أرى أن الصداقة -في جوهرها- تشبه نهرًا خفيًّا يسقي أرواحنا من حيث لا ندري، إنها حاجة وجودية تُبقي الإنسان على تماسٍّ مع إنسانيته، وكما قال أرسطو: من دون أصدقاء، لا أحد يختار أن يعيش، حتى لو امتلك كل خيرات الدنيا. وهي ضرورة إنسانيّة تمنحنا القدرة على احتمال ذواتنا والعالم، تقول الفيلسوفة أندريه غيز: الأصدقاء هم الذين يعطونك الشجاعة لتكون نفسك، ويجعلون العالم أكثر احتمالًا.

فالصداقة هي المساحة التي يُسمح فيها للذات أن تكون على طبيعتها، بلا أقنعة ولا ادّعاء، حيث يُصبح الآخر مرآةً تكشف لنا وجوهنا التي لا نراها في وحدتنا، وفيها نُمارس الإصغاء، ونختبر فكرة أن النمو يكون في التبادل، في الحوار، في دفء الحضور الإنساني.

وهي كذلك توفّر مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر، سواء كانت فرحًا أو حزنًا، أو شكًّا داخليًّا، ففي كثيرٍ من المجتمعات، يُتوقّع من النساء تحمّل الضغوط بشكلٍ صامت، والصداقة تمنحهنّ قدرة على تخفيف التوتر النفسي وتعزيز الثقة بالنفس، والدعم المتبادل يخلق إحساسًا بالانتماء، ويُقلّل شعور الوحدة أو العزلة التي قد تفرضها البُنى الاجتماعية.

العلاقات الصحيّة بينهنّ تُشجّع على النمو الشخصي وتبادل المعرفة والخبرات، فمن خلال الحوارات المتبادلة، تتعلّم أساليب جديدة للتفكير، لحل المشكلات التي تخص وحدتهن، وبناء الثقة بنفسها وبالآخرين، وكثير من المبادرات الاجتماعية والثقافية تنشأ من هذه الصداقات، لأنّها تُعزّز روح التعاون والإبداع.

عندما تنشأ صداقة عميقة بين امرأتين في مجتمعٍ شُكّلت النساء فيه ليُعادين بعضهنّ ويفتقدن الثقة ببعض، تتحوّل إلى فعل مقاومة ضدّ بنيةٍ كاملة من الخوف والتفريق.

وهذا أجمل ما وجدته في حياتي؛ عشتُ صداقاتٍ رائعة تمتد أكثر من نصف سنوات عمري، وكانت بالنسبة لي بمثابة أعمدة دعمٍ نفسيّ وعاطفيّ ساعدتني على استعادة توازني في أكثر لحظات حياتي حساسيّة وهشاشة، في الحمل والولادة، وفي اللحظات التي يُثقلها الأرق والقلق، ومع أنّني صادفتُ كذلك علاقات وافقت -للأسف- تصوّرات المجتمع، إلا أنّني اعتبرتها شكلًا مجروحًا من أشكال التواصل، وغير نابع بالضرورة من طبيعة الأنثى، ولم أُعد تقييمي للنساء بسبب تفاعل الناقص، كذلك لم أشكّك في قدرتي على بناء علاقة صحيّة ناضجة، قائمة على الندّيّة والثقة المتبادلة.

أرى أن الصداقة -في جوهرها- تشبه نهرًا خفيًّا يسقي أرواحنا من حيث لا ندري، إنها حاجة وجودية تُبقي الإنسان على تماسٍّ مع إنسانيته

أذكر تلك الأمسيات الطويلة مع صديقتي الحميمة، حين كنّا نحتسي الشاي المنكّه بالهيل والقرنفل، ونتحدّث كما لو أنّ الوقت توقّف احترامًا لاجتماعنا، كنّا نشعر بالحرية في فتح نقاش حول كل المواضيع التي تثير اهتماماتنا، عن الحب وعن الموت، عن الفن والحياة، كانت ولا تزال مرآتي وصوتي الآخر، ونافذة أرى منها نفسي بوضوح.

تجربتي معها علّمتني أنّ الصداقة بين النساء ليست استثناءً نادرًا كما يُقال، بل احتمالًا إنسانيًّا عظيمًا حين نكفّ عن ترديد سرديّات الخوف والغيرة التي تربّينا عليها.

الصداقة تُحرّرنا من التمركز حول ذواتنا، وتُعيدنا إلى إنسانيّتنا، إلى ذلك الاحتياج "الفطري" لأن يفهمنا أحدٌ دون أن نحاول شرح كل شيء، يقول مونتينى: في الأصدقاء نجد روحنا الثانية، ولقد وجدتُ في صداقاتي روحًا ثانية تُساعدني على أن أكون أكثر صدقًا مع نفسي، وأكثر تفهّمًا للحالات التي أمرّ بها كامرأة، وأكثر إيمانًا بأنّ النضج العاطفي يُولد من مشاركة الرحلة مع من يُشبهوننا في الحُلم والوجع والبحث عن المعنى.

ولعلّ هذه "الروح الثانية" هي ما يجعلنا أكثر قدرةً على الصمود، وعلى حبّ أنفسنا والعالم من جديد.

أؤمن بأنّ الصداقة -وبالأخص بين النساء- رابطٌ اجتماعيٌّ مقدّس، وممارسةٌ للحرّية، ومقاومةٌ للانقسام، وتجسيدٌ لمعنى الوجود المشترك، وبينهن تكون احتفاء بالأنوثة في أكثر صورها إنسانية وتفهّمًا.