السبت 19 أبريل 2025
ظلت الرواية تُكتب في تشاد باللغة الفرنسية التي فرضها المستعمر حتى الألفية الثالثة، حيث ظهر جيل أطلق عليهم اسم "العربوفون" في مقابل "الفرانكوفون"، كتبوا أعمالا أدبية باللغة العربية التي تعلموها من المدارس العربية هناك، وجامعة الملك فيصل التي تشجع طلابها على الإبداع القصصي.
ضيف جيسكا هو روزي جدي؛ أحد هؤلاء الذين أضافوا إلى المكتبة العربية عددا من الأعمال التي نُسجت حول عوالم غير معروفة للقارئ العربي، مسرحها أفريقيا الغنية بتراثها وأساطيرها وحكمتها الشعبية، فهنيئا للغة العربية التي اكتسبت أرضا جديدة، ومن المتوقع أن تتوسع في أفريقيا.
صدرت لروزي جدي عدد من الأعمال منها: "قارب يلاحق مرساه" و"زمن الملل" و"ارتدادات الذاكرة". فاز عام 2024 بجائزة الدولة للتميز الأدبي، وبمنحة بيت التلمسان عن روايته "التاريخ السري المعلن لآدم حواء"، ووصلت روايته "ارتدادات الذاكرة" إلى القائمة الطويلة لجائزة الخطلاء 2025.
روزي جدي: ردا على هذا السؤال، يذكر الروائيون غالبا تلك الجدة التي كانت تحكي لهم، ولهذا أغبطهم. هنالك تأثير للتراث الشعبي على أعمالي، فالكاتب يكتب ما عايشه، وما سمعه من حكايات؛ لأن الكتابة اعتراف في نهاية الأمر؛ أما القراءات المبكرة فلا أذكرها. لكنني أتذكر أول كتاب قرأته وأدهشني، وبسببه أردت أن أكتب الحكايات، وأن أصبح أديبا. لم يكن كتابا أدبيا بالمعنى التصنيفي، لكني أعتبره عملا أدبيا من أروع ما كتب في الأدب العربي، وهو كتاب "الرحيق المختوم" الذي يعد بحثا في السيرة النبوية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. عثرت عليه في مكتبة خالي؛ وهو ولي أمري وتربيت في بيته. انتقلت من هذا الكتاب إلى "ألف ليلة وليلة" ثم "الأيام" لطه حسين الذي قادني إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وقصته "بيت من لحم"، وهكذا صرت قارئا للأدب ثم كاتبا.
جدي: أنا قارئ أولاً وأخيرا. وكما يقول بورخيس: "يكتب المرء ما يستطيع لكنه يقرأ ما يحب". القراءةُ عمليةٌ ممتعة ومفيدة، أما الكتابة، وإن كانت تقدم القليل من المتعة، فهي ليست مفيدة مثل القراءة. أستمتع بالقراءة، أحبها. أحيانا أتساءل من أين يعثر على المتعة أولئك الذين لا يقرأون. أعتقد أننا نحن القراء اكتشفنا شهوة لم يكتشفها الذين لا يحبون القراءة، لكنها متعة يستحق الجميع أن يجربها.
في سنوات العطالة التي ذكرتها لك، قضيت معظمها داخل مكتبة المُنى؛ هناك قرأت وقرأت. كنا نقضي سحابة نهارنا هناك، وفي المساء نعود إلى المقهى للحديث عن الذي قرأناه. غالبا نقرأ كتابا في اليوم. وأحيانا أكثر من ذلك. تخيل ثلاثة رفاق داخل مكتبة مغبرة في مدينة صغيرة، يقرؤون في الأدب والفلسفة حتى تبكي أمعاؤهم، فيخرجون عند الظهيرة ليأكلوا شطيرة صغيرة، ويعودوا إلى كنباتهم للقراءة حتى يعلن أمين المكتبة أنها الخامسة، وأنه يود إغلاق المكتبة. كنا نقرأ لأننا نستمتع، ونقضي أيامنا في المكتبة لأنها تحمينا من نقد المجتمع وعيون الناس، ونشعر فيها بأننا مهمين، وأننا بصدد ممارسة شيء لا يستطيع الجميع ممارسته؛ أعني أن تجلس وتقرأ في كتاب.
اليوم نسبة القراءة انخفضت حتى عند القراء، بسبب الجوال ومواقع التواصل الاجتماعي. لذا علينا السعي إلى نشر ثقافة القراءة باكرا. أقصد أن نجعل الأطفال يقرؤون، وهكذا يمكننا إنقاذ الأجيال القادمة.
جدي: في زمن الملل حاولت أن أتحدث عن الذي عشناه بين سنة 2015 – 2020، كانت سنوات صعبة لجيلنا وللبلاد بشكل عام. حين تخرجنا من الجامعة أعلنت الدولة عن وقف الوظيفة العامة، لتدخل البلاد في حالة من التقشف لأسباب انهيار الاقتصاد وتراجع أسعار البترول؛ تلك الأزمة أخرجت الشركات والمنظمات من البلاد، وتركت الحكومة عاجزة عن قبول خريجين جدد، فعشنا في حالة من اليأس التام.
كنا نقضي أمسياتنا جالسين في مقاهي أنجمينا، نتشارك فنجان القهوة مع الذباب، وعلى حساب الأصدقاء وبالدين أحيانا. كل ما قلته في زمن الملل هو تلك المشاكل التي يمر بها الشاب العاطل الذي يواجه نظرة سلبية من المجتمع؛ وجرح ذاتي بسبب اليأس بعد الحلم، وبذلك الشعور باللاجدوى، وأسئلة معنى الحياة، ومدى فائدتنا لأنفسنا وأهلنا.
الناس لا يعرفون الأذى النفسي الذي يتعرض له العاطل، ما يعانيه مع نفسه أقسى وأكثر ألما من أي شيء يقوله أو يفعله المجتمع. رواية "زمن الملل" هي قصص شباب أنجمينا العاطلين الذي يعيشون بلا أمل.
جدي: حين يتم تعيني في السلك القضائي سأكون مضطرا لمغادرة الصحافة لأسباب قانونية. فالقضاء سلطة والصحافة أيضا، ولا يجوز الجمع بينهما في تشاد. أما الكتابة فهي طريقتي للحديث، لذا لن أتوقف عن التحدث والنشر هو مشروع فكري، والسلك القضائي يسمح لنا بالعمل في المجال الأدبي والفكري. أعتقد أنه يمكنني العمل كقاضٍ في الصباح وكاتب في المساء، ولست الأول فنحن نعرف أن توفيق الحكيم عمل في السلك القضائي، وأن الروائي أشرف العشماوي قاض.
جدي: لا أرى الأمر نوعا من التحرر، فنحن لدينا لغات أخرى غير اللغتين الرسميتين، ونتحدث بها يوميا. لكن العربية على الأقل لم تدخل بالقوة إلى بلادنا. أعتقد أن النفوذ الفرنسي ثقافيا لن يتأثر لأن الإدارة فرنسية والدولة فرنكوفونية، ولا وجود لأي دعم للمثقفين بالعربية كي يتنافسوا مع الدولة والدعم الفرنسي. لكني أعتقد أن الوقت قد حان ليشعر الجميع بأنه حر في كل قراراته.
جدي: مذبحة الكبكب كانت من العوامل الرئيسية لتأخر اللغة العربية. عقب المذبحة التي مات فيها أعلم التشاديين، هرب الكثير من العلماء والطلاب إلى السودان، خاصة دارفور، وهو ما سمح للمستعمر الفرنسي أن يؤسس مدارسه، ويعمل دون أية منافسة.
جدي: أعتقد أن الأدب يلعب دورا مهمًا في تشكيل هوية مجموعة من الناس تعيش في منطقة معينة. فامتلاك تراث واحد وأساطير موحدة هي مشتركات تذهب إلى بناء الوحدة والهوية، وهي الأسس التي تحتاج إليها قارة أفريقيا لبناء سرديتها بمعزل عن الأفكار الاستعمارية والاستشراقيّة، ونظرة التعالي التي ينظر بها الآخر تجاه الغريب، وهنا نتحدث عن رؤية المستعمر تجاه هذه القارة وموروثها وثقافتها.
جدي: اليوم من الصعب جدا أن تصل إلى القارئ الغربي ما لم تكتب بالإنجليزية. لكن نحن لا نكتب الأدب كي نصل إلى القارئ الغربي؛ شخصيا أكتب ما يهم بلادي وما جاورها، والأدب في الأصل قائم على الذاتية، وبعدها تأتي العالمية. السبيل الوحيد كي يصل ما نكتبه من أدب هنا في أفريقيا هو أن نكتب بحرية، وأن نكتب أدبا جيدا وحقيقا؛ والكتابة الحقيقة الحرة ستصل ولو عبر الترجمة.
جدي: الحضارة الغربية هي التي حصدت نتاج القرون الأخيرة من الجهد الإنساني، لذا تظهر وكأنها هي التي تمثل العالمية، وهذا من حقها، ولحسن حظها أنها استفادت من النهضة الكبرى التي حصلت هناك. لكن مصطلح العالمية يجب ألا ينحصر في الذي يحدده الغرب. هل هو مصطلح استعماري؟ نعم بالطبع. لكن هذا لأسباب أخرى يستخدمها الغرب لمصالح معينة، منها بسط الهيمنة وحملنا على الإيمان الراسخ بها.
جدي: نعم نحتاج إلى منصات وأندية وجوائز. ونحتاج إلى منصات تجمع الكتاب الأفارقة عامة لتعزيز مشتركاتنا الثقافية، فنحن للأسف نعرف عن أقاصي الدنيا الكثير، ونجهل الكثير عن جارنا الأفريقي، لكن الأمر صعب جدا. فنحن ننتمي إلى دول استعمرت من قبل العديد من الدول. اليوم نتحدث عشرات اللغات في أفريقيا، ونحن بالكاد نفهم بعضنا.
جدي: صحيح فوز الكاتب بالجوائز يسلط الضوء على أعماله، ثمّة قراء ينتظرون قوائم الجوائز ليقرؤوا. وفوز الكتّاب الأفارقة بنوبل أو المان بوكر أو جونكور أو غيرها من الجوائز يصب في صالح القراء، لاكتشاف عوالم أخرى وقضايا مختلفة.
أعتقد أن علينا كأفارقة تأسيس جوائز خاصة بالقارة في مختلف اللغات، أو على الأقل في بضع لغات هي الأكثر استخداما في القارة، ثم نقوم بعملية الترجمة؛ نحن الأفارقة نجيد معظم لغات العالم. فلماذا لا نستثمر هذا في عملية الترجمة، كي نُعرِّف العالم بما يُكتب هنا، ولكي يكف الناس عن أخذ المعلومات عن قرية صغيرة في وسط أفريقيا من فرنسي عجوز.
جدي: النشر صعب خاصة في البدايات، والكاتب بعيد عن المركز. نحن نكتب بالعربية في بلاد أغلب سكانها المتعلمين يقرؤون بالفرنسية. نحن أقلية في بلادنا، وعلى هامش العالم العربي، كل شيء بالنسبة لنا صعب. يجب أن نكتب أفضل كثيرا من أي كاتب عربي ينشر في إحدى دول المركز حتى يتم قبول عملنا. ثم إن علينا إقناع الناشر بأهمية ما نكتبه، رغم أننا نقدم عوالم مختلفة لا تشبه العوالم التي ألفها القارئ العربي. ما نفعله نحن شيء صعب جدا.
جدي: أعتقد أننا تحدثنا كثيرا عن الحرب، وذلك بسبب الحروب الأهلية، كما تحدثنا عن الأزمات السياسية التي سببت شرخا في مجتمعنا، كما تناولنا كثيرا قضية الهجرة من الريف إلى المدن.
جدي: فكرة رواية تلح عليّ، لكني لم أحدد بعد متى أبدأ. لدي فكرة تزعجني غير أنني أود أن تكتمل في دماغي قبل الشروع في الكتابة، كما أن لديّ رغبة في أخذ راحة قليلة، والتركيز على الجانب الأكاديمي، كي أعود للكتابة بأفكار جديدة وعوالم بعيدة عن تلك التي كتبت عنها، ولغة مختلفة عن التي استخدمتها في جميع أعمالي.
أما بخصوص اللوحة الكبيرة، فلدي مشروع أدبي يقوم على الكتابة حول قضايا وأسئلة تشغلني بيد أنني لا أعرف متى أحقق ذلك، وكم عمل يحتاجه المشروع ليكتمل.