الأحد 16 نوفمبر 2025
منذ سقوط نظام عمر البشير في أبريل/ نسيان 2019 دخل السودان مرحلة انتقالية معقدة، تداخلت فيها العوامل الداخلية مع التدخلات الإقليمية والدولية. وبينما بدا أن المجتمع الدولي موحد خلف دعم التحول الديمقراطي، سرعان ما ظهرت التباينات، الدولية منها والإقليمية في مشهد يكشف حقيقة أن العلاقات الدولية لا تحكمها النوايا الطيبة أو الخطب الرنانة، وهذا أبلغ درس ربما لم يفهمه السودانيون حتى الآن، وسيدفعون ثمنه غاليا في المستقبل.
توافقت القوى الدولية على دعم حكومة مدنية انتقالية بقيادة عبد الله حمدوك، حيث لعبت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي دورًا في دعم الوثيقة الدستورية لعام 2019، وتقديم مساعدات اقتصادية، وتشجيع الإصلاحات القانونية والمؤسسية. لكن هذا الدعم كان مشروطًا، وارتبط بمطالبات متزايدة بإصلاح الجيش، ما أثار توترًا مع المكون العسكري.
بعد واقعة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ثم اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في أبريل/نسيان 2023. برزت "الرباعية الدولية" لاعبا رئيسيا في قلب هذا المشهد، لكنها تحولت من أداة دعم إلى عامل تعقيد، بفعل تضارب مصالح أعضائها.
تعود جذور الأزمة السودانية إلى عقود من النزاعات السياسية والاجتماعية التي أدت إلى تدخلات دولية متعددة. في السبعينات، تركزت الجهود الدولية على حل النزاع بين الشمال والجنوب، حيث تم توقيع اتفاقية السلام عام 1972 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في أديس أبابا، ما أسهم في إنهاء الحرب الأهلية لفترة قصيرة. لكن، مع اندلاع الحرب مجددًا عام 1983، اتخذت الصراعات منحى أكثر تعقيدًا، وظهرت تدخلات دولية جديدة، بهدف التوسط بين الأطراف المتنازعة. في هذا السياق، سعت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) إلى إيجاد حل للحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، مما أسفر عن اتفاق نيفاشا عام 2005 الذي أوقف الحرب بين الطرفين، وقاد إلى انفصال الجنوب في 2011.
برزت "الرباعية الدولية" لاعبا رئيسيا في قلب هذا المشهد، لكنها تحولت من أداة دعم إلى عامل تعقيد، بفعل تضارب مصالح أعضائها
في الوقت نفسه، كانت هناك أزمة أخرى في دارفور، حيث اندلعت حرب بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة عام 2003، والتي تسببت في نزوح مئات الآلاف من المواطنين، وأثارت موجات من الإدانة الدولية ضد حكومة الخرطوم بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، مما دفع المجتمع الدولي إلى فرض عقوبات على السودان، وإرسال بعثات حفظ سلام بقيادة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي إلى دارفور. كما كانت المحكمة الجنائية الدولية من أبرز الفاعلين في الأزمة، حيث أصدرت مذكرات توقيف ضد الرئيس السوداني عمر البشير بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، مما زاد من الضغط الدولي على النظام السوداني.
في سنوات ما بعد 2005، كانت المبادرات الدولية موجهة إلى تثبيت السلام في السودان بعد انفصال الجنوب، ولكن أزمة دارفور ظلت مستمرة. كذلك، كانت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة منذ عام 1997 تلعب دورًا رئيسيًا في الضغط على الحكومة السودانية بسبب تورطها في دعم الإرهاب في التسعينيات، وفي عام 2017 تم رفع بعض العقوبات على السودان في خطوة دبلوماسية لتشجيع التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب، وذلك في إطار التغيير التدريجي في السياسة الأمريكية تجاه السودان.
في أعقاب الربيع العربي عام 2011، تعرض السودان إلى موجات من الاحتجاجات الشعبية بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. على الرغم من أن هذه الاحتجاجات لم تكن بنفس حجم تلك التي شهدتها دول أخرى في المنطقة، إلا أن الحكومة بدأت في مواجهة ضغوط داخلية للمطالبة بالإصلاحات السياسية والاجتماعية. وكان المجتمع الدولي يراقب الوضع عن كثب، حيث طالب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الحكومة السودانية بتحقيق إصلاحات سياسية.
بحلول عام 2018، تعمقت الأزمة الاقتصادية في السودان، وبدأت الاحتجاجات الشعبية التي عمت معظم أنحاء البلاد، مطالبة بتغيير النظام. وكانت المجموعة الدولية قد دعمت الحكومة السودانية على مدار السنوات السابقة، قبل أن تبدأ في الدعوة إلى مرحلة انتقالية، وإصلاح سياسي شامل استجابة للغضب الشعبي.
بعد عام واحد، أفضت هذه الاحتجاجات إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير بعد 30 عامًا من حكمه، ما فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من التفاوض على الانتقال السياسي تحت إشراف دولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، فالجميع قام بدعم هذه العملية الانتقالية، التي تهدف إلى الوصول إلى حكومة مدنية ديمقراطية بحسب البيانات التي صدرت من جميع الدول والفرقاء الدوليين.
خلال هذه الفترة الطويلة، تباينت المبادرات الدولية ما بين محاولات للحفاظ على الاستقرار، ورغبة في تحقيق السلام، وأحيانًا الضغط على النظام السوداني لتحقيق إصلاحات. ومع ذلك، ظلت الأزمة السودانية متعددة الأبعاد، حيث تداخلت القضايا السياسية مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مما جعل تحقيق الاستقرار بعيد المنال لفترة طويلة.
بعد الإطاحة بنظام البشير بدأت الجهود الدولية لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، حيث أبدت القوى الدولية الكبرى اهتمامًا كبيرًا بمساعدة السودان في بناء نظام سياسي مدني بعد سنوات من الدكتاتورية والصراعات. وبالفعل، تشكلت الرباعية الدولية في يناير/كانون الثاني 2022 بعد اجتماع "أصدقاء الرياض" الذي دعت له بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في جمهورية السوادن (يونيتامس)، وكان الهدف من هذا التجمع هو دعم جهود البلاد في استعادة مسار الانتقال الديمقراطي، بما في ذلك دعم الحوار بين القوى السياسية المختلفة والضغط على الأطراف للوصول إلى تسوية سياسية.
تضم الرباعية كلا من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكل منها هذه الدول كانت تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، وهو ما شكل تحديًا كبيرًا لتنسيق المواقف والمبادرات الدولية تجاه السودان.
ظلت الأزمة السودانية متعددة الأبعاد، حيث تداخلت القضايا السياسية مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مما جعل تحقيق الاستقرار بعيد المنال لفترة طويلة
في البداية، كانت الولايات المتحدة تدعم الانتقال المدني في السودان بشكل كامل، وكانت تعتبر أن سقوط البشير يشكل فرصة لإعادة بناء نظام سياسي. كانت الولايات المتحدة تُقدم دعماً للسودان، فضلاً عن دعمها للجهود التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار كما يتضح. لكن مع حدوث الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي قاده عبد الفتاح البرهان، تغيرت المواقف الأمريكية بشكل جذري. واشنطن أدانت الانقلاب فور وقوعه، وأعلنت تعليق مساعداتها للسودان، وأصدرت عقوبات على الأطراف العسكرية. كما كانت من الداعمين الرئيسيين لـ الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الإيقاد) التي سعت لإعادة الأطراف السودانية إلى طاولة المفاوضات.
مع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في 2023، فرضت الولايات المتحدة مزيدًا من العقوبات على الأطراف المتورطة في النزاع، بما في ذلك قيود على الموارد الاقتصادية التي يمكن أن تساعد في تمويل الحرب. ولكن بالرغم من هذه الإجراءات، لم تتمكن الولايات المتحدة من فرض وقف إطلاق النار دائم أو تحقيق تسوية سياسية شاملة، بسبب التباين في مواقف الدول الأعضاء في الرباعية.
أما المملكة المتحدة، فقد كانت في البداية داعمة لمسار الانتقال السياسي في السودان، مثلها مثل الولايات المتحدة. وفق شروط محددة رسمتها تجاه موقفها من الانتقال حيث ساندت بشكل قوي عملية التحول السودان، سواء على صعيد التحولات السياسية أو على مستوى الدعم الاقتصادي. بعد الانقلاب العسكري عام 2021، اتخذت لندن موقفًا مشابهًا لواشنطن بإدانتها خطوة البرهان وعلقت مساعداتها المالية. مع اشتداد الأزمة في السودان، وتزايد العنف عام 2023، انحصر موقف المملكة المتحدة، حيث اقتصرت جهودها على الضغط الدبلوماسي مع تقديم دعم إنساني، لكن دون أي تأثير حاسم على الأرض.
في المقابل، كانت المملكة العربية السعودية أكثر توازنًا في مواقفها، وذلك بنجاحها في الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف في السودان، خاصة في ظل المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. كانت تعتبر أن وجود جيش قوي في السودان ضروري لضمان استقرار البلاد والحفاظ على أمنها القومي، خصوصًا في سياق التوترات الإقليمية والتهديدات الأمنية في المنطقة. وبعد اندلاع المواجهات في أبريل/نسيان 2023 لعبت دور الوسيط في منبر جدة، بهدف وقف إطلاق النار.
أما الإمارات العربية المتحدة، فقد كانت موقفها من السودان أكثر تعقيدًا، بل أثارت الكثير من الجدل، على الرغم من أنها كانت جزءًا من الرباعية الدولية، إلا أنها كانت مؤيدة بشكل مباشر للدعم السريع، وهو ما يعود إلى مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. كانت تهتم بشكل كبير بتوسيع نفوذها في السودان، خاصة في قطاع الذهب والزراعة، حيث استثمرت في عدد من المشاريع الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، كانت تتبنى سياسة دعم القوى العسكرية في المنطقة، حيث تقوم بمساندة الدعم السريع لوجستيًا. سياسات أثارت تساؤلات كبيرة حول مصداقية المبادرات الدولية التي تشارك فيها الإمارات، وتسببت في انقسامات داخل الرباعية.
في ضوء هذه المواقف، كانت الرباعية الدولية غير قادرة على التنسيق الفعّال، حيث كانت كل دولة تنظر إلى الوضع السوداني من منظور مصالحها الخاصة. الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سعتا إلى دعم الانتقال المدني وتحقيق تسوية سياسية، تؤدي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، في حين كانت السعودية والإمارات تميلان إلى دعم المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل المصالح الاقتصادية والجيوسياسية في السودان.
هذا التباين في المواقف جعل الرباعية تتحول إلى منصة بيانات دون تأثير فعلي على الأرض، كما أن غياب التنسيق بين الدول الأعضاء في الرباعية، فضلًا عن تضارب المصالح، جعلها غير قادرة على فرض حلول شاملة للأزمة السودانية. ومع استمرار الحرب في 2023، بدا أن المصالح الإقليمية والدولية تتغلب على المبادئ الإنسانية، ما يعكس أزمة أعمق في النظام الدولي نفسه، حيث أصبحت المبادرات الدولية جزءًا من المشكلة، وليس الحل.
إجمالا، يمكن القول بأن هناك مأخذا على المبادرات الدولية تجاه الأزمة السودانية، مما يجعلها عرضة للعديد من الانتقادات التي تحد من فعاليتها. أولاً، كانت معظم هذه المبادرات تركز على الحلول السياسية دون أن تعالج الأسباب الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي أدت إلى النزاع، مثل: الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي. وذلك ما يضعف من قدرتها على إيجاد حلول دائمة وشاملة للأزمة السودانية. كما أن المبادرات الدولية غالبًا ما كانت تؤدي إلى إضعاف السلطة الوطنية، وتعزيز التدخلات الخارجية، مما يعتبر تهديدًا للسيادة السودانية، ويعزز من مشاعر الرفض لدى بعض المواطنين.
إضافة إلى ذلك، كان هناك إغفال لواقع التعددية الثقافية والسياسية في السودان، حيث لم تأخذ هذه المبادرات في الحسبان التنوع العرقي والديني في البلاد، ما أدى إلى إقصاء بعض المجموعات المهمشة أو تقليص دورها في عملية صنع القرار. بعض الوساطات الدولية أيضًا افتقرت إلى التوازن، حيث كانت تميل إلى دعم الأطراف الكبرى أو الحكومة السودانية على حساب الحركات المسلحة أو المعارضين، مما أثار تساؤلات حول نزاهتها. كما أن تنفيذ الاتفاقيات الموقعة كان يعاني من صعوبات كبيرة، فالكثير من الاتفاقات، مثل: اتفاقية نيفاشا أو اتفاقات دارفور، لم يتم تنفيذها على الأرض بشكل فعّال.
التباين في المواقف جعل الرباعية تتحول إلى منصة بيانات دون تأثير فعلي على الأرض، كما أن غياب التنسيق بين الدول الأعضاء في الرباعية، فضلًا عن تضارب المصالح، جعلها غير قادرة على فرض حلول شاملة للأزمة السودانية
ناهيك عن تركيز المبادرات على الجوانب الإنسانية بشكل مفرط دون الاهتمام الكافي بالجوانب السياسية التي تشكل الجذور الحقيقية للأزمة، ما جعلها عاجزة عن إيجاد حلول دائمة تمنع تكرار الأزمات. ورغم التغيير السياسي الكبير الذي شهدته البلاد، مثل الإطاحة بالرئيس البشير في 2019، لم تكن المبادرات الدولية قادرة على ضمان الاستقرار السياسي أو الانتقال السلس نحو حكم ديمقراطي، مما خلق حالة من عدم اليقين في المستقبل.
أخيرًا، كان هناك انقسام دولي في المواقف تجاه السودان، حيث كانت بعض الدول تدعم الحكومة السودانية بينما كانت دول أخرى تدعو إلى عزلها. هذا التباين في السياسات الدولية جعل من الصعب التنسيق بين الأطراف الفاعلة، ما أدى إلى ضعف التأثير الفعلي لهذه المبادرات.