تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 12 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

القرن الأفريقي عند الحافة: تيغراي وممرّ عَصَب ومعادلة الردع الأميركي

3 نوفمبر, 2025
الصورة
القرن الأفريقي عند الحافة: تيغراي وممرّ عَصَب ومعادلة الردع الأميركي
Share

على مدى العشرين شهرًا المنصرمة، وبينما تتوالى على الشرق الأوسط موجاتُ حروبٍ متشابكة، تحوّل الطرف الجنوبي من البحر الأحمر إلى بؤرة قلقٍ عالمي. فمطلع عام 2025، أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات على حملة عسكرية كبرى ضد الحوثيين في اليمن، بعدما استهدفوا الملاحة الدولية في واحدٍ من أكثر الممرات البحرية حيويةً في العالم، في سياق تفاعلات الحرب الإسرائيلية على غزة. ومع ذلك، فإن القوى الإقليمية والدولية تجاهلت، إلى حد كبير، أزمةً لا تقل خطورةً على الضفة الأفريقية من البحر ذاته، على امتداد سواحل القرن الأفريقي، يُرجَّح أن تتفاقم سريعًا إلى حريقٍ واسع إذا لم تُعالَج بحكمة وسرعة.

تتمحور الأزمة حول دولة إريتريا الساحلية وجارتها الأكبر إثيوبيا، الدولةِ الحبيسة التي فقدت منفذها إلى البحر الأحمر بعد استقلال إريتريا عام 1993. في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أنّ الحصول على منفذٍ إلى البحر الأحمر "مسألة وجودية" لإثيوبيا، مشيرًا على نحوٍ خاص إلى ميناء عَصَب في جنوب إريتريا بوصفه الميناء الذي "ينبغي" أن تسيطر عليه إثيوبيا أو تتحكم فيه. ومنذ تلك اللحظة ارتفعت حرارة التوتر بين البلدين، وبدا أن أديس أبابا قد تتهيأ لدفع قواتها مباشرةً نحو عَصَب الذي لا يبعد سوى 37 ميلًا تقريبًا (نحو 60 كيلومترًا) عن الحدود الإثيوبية. وبينما ظلّ آبي ينفي نية بلاده خوض حرب، كان الطرفان يمضيان بخطى حثيثة في سباق تسلّحٍ صامت: طائراتٍ مسيّرة هجومية ومنظوماتٍ مضادّة للمسيّرات، وصواريخَ ومنصّاتِ إطلاق، وقوةَ نيرانٍ ميكانيكية، وآلياتٍ مدرّعة ملائمةٍ لقتالِ تضاريسِ الصحراء. في الأسابيع الأخيرة، تحرّكت وحداتٌ عسكرية لكلا الطرفين نحو الحدود المحاذية لعَصَب، وتصاعدت اللغة العدائية والتحريضية على الجانبين.

المعركة على مرفأٍ بحجم عَصَب خطيرةٌ بذاتها، لكن ما يجعل شبح الحرب أشدّ خطورة هو احتمال امتدادها السريع شمالًا إلى إقليم تيغراي، المحاذي لإريتريا، والذي كان مسرح الحرب الكارثية بين عامي 2020 و2022 بين الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. كانت الآمال معلّقةً على أن يجلب اتفاق السلام الذي أعقب تلك الحرب -وقد حصد ما يصل إلى 600 ألف روح، بينهم مئات الآلاف من المدنيين، وخلف نزوحًا هائلًا ودمارًا واسعًا- استقرارًا جديدًا للإقليم ولإثيوبيا كلّها. لكن بنود الاتفاق نُفِّذ منها القليل، فما تزال وحداتٌ إريترية داخل مناطق من تيغراي، فيما ضُمَّت أجزاءٌ واسعة من الإقليم بحكم الأمر الواقع إلى إقليم أمهرة المجاور. وما يزال أكثر من مليون من سكان تيغراي عاجزين عن العودة إلى منازلهم. والأخطر أنّ قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي انقسمت إلى أجنحةٍ متخاصمة، نسج كلٌّ منها تحالفاتٍ متعارضة مع أديس أبابا وأسمرة، وشرعت في تشكيل أذرعٍ مسلّحةٍ منفصلة.

تقع على عاتق قادة تيغراي مسؤولية تفادي التحول إلى بيادق في لعبةٍ أكبر بين أديس أبابا وأسمرة. والواقع أن حياد تيغراي، إن تمسّكت به قيادة الإقليم، سيجعل مغامرة آبي نحو عَصَب شديدة الكلفة، وربما مستحيلة سياسيًا وعسكريًا

إذا اندلع القتال بين إثيوبيا وإريتريا، فستكون تيغراي مجدّدًا ساحة المواجهة الرئيسية، مع ما يحمله ذلك من عواقب كارثية محتملة على الإقليم وعلى القرن الأفريقي بأسره. يملك الطرفان جيوشًا كبيرة ومجهزة جيدًا، وقادة مستعدين لإيقاع الخسائر، وتحمّلها على نطاق واسع. وسيؤدي صراعٌ كهذا إلى نسف ما تبقّى من بنية السلام الهشّة والهندسة الأمنية في المنطقة، وقد يجرّ الصومال والسودان إلى دوّامة عنفٍ إقليمي. وتغذّي القابلية للاشتعال منافساتُ قوى شرق أوسطية نافذة؛ فالإمارات العربية المتحدة تميل إلى مساندة إثيوبيا، فيما تبدو مصر والسعودية وتركيا أقرب إلى مقاربةٍ تراعي مصالح إريتريا وحساباتها.

ومع ذلك، فإن الحرب ليست حتمية. فبقدرٍ ملائم من الضغط الدولي، يمكن دفع الحكومة الإثيوبية إلى تنفيذ اتفاق بريتوريا للسلام الموقّع في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وهو مطلبٌ قديم لأبناء تيغراي. كما تقع على عاتق قادة تيغراي مسؤولية تفادي التحول إلى بيادق في لعبةٍ أكبر بين أديس أبابا وأسمرة. والواقع أن حياد تيغراي، إن تمسّكت به قيادة الإقليم، سيجعل مغامرة آبي نحو عَصَب شديدة الكلفة، وربما مستحيلة سياسيًا وعسكريًا.

قبل سنواتٍ قليلة، كان مجرّد خطر اندلاع حربٍ كبرى في القرن الأفريقي كفيلًا بتحريك الدبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية وفي الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. أما اليوم، فالغرب مشتّت الانتباه والمنظمات متعددة الأطراف منهكة. ويبقى الطرف الوحيد الذي يمتلك من النفوذ ما يكفي لجمع اللاعبين المتعدّدين حول طاولةٍ واحدة هو الولايات المتحدة. ويظلّ الطرف الوحيد الذي يملك -واقعيًا- النفوذ اللازم لجمع اللاعبين المتعددين حول طاولة تفاوض هو الولايات المتحدة.

تصفية حسابات قديمة

تعود مركزية تيغراي في التوتر الإثيوبي–الإريتري الراهن إلى مآلات حرب الإقليم نفسها. حين اندلعت تلك الحرب، اصطفّت إثيوبيا وإريتريا في خندقٍ واحد، هدفهما كسرُ شوكة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. أراد آبي أحمد فرض صيغةٍ سياسية داخلية تُذيب الجبهة، وتدمجها في حزبه الحاكم الجديد. أما الرئيس الإريتري أسياس أفورقي فكان يحمل ثأرًا قديمًا ضد الجبهة، عاقد العزم لا على تفكيكها فحسب، بل على إنهاك تيغراي بما يمنع قواته من تحدّي إريتريا مستقبلًا. وسرعان ما انضمّت إلى التحالف ميليشياتٌ من إقليم أمهرة، مدفوعةً بأطماعٍ في ضم مناطقَ تعتبرها تاريخيًا أراضيَ أمهرية داخل تيغراي.

على مدى عامين من قتالٍ ضارٍ، شمل حصارًا بالتجويع دفع الإقليم إلى حافة المجاعة، رضخ التيغراويون للسلام. نجحت الولايات المتحدة في جمع الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى طاولة مفاوضات في بريتوريا بجنوب أفريقيا برعاية الاتحاد الأفريقي، وتمخّض ذلك عن اتفاقٍ دائمٍ لوقف الأعمال العدائية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. غير أن الاتفاق اتسم بعيوب بنيوية: صيغ على عجل وبآليات رقابة وإنفاذ ضعيفة. وعلى الرغم من الاحتفاء به بوصفه انتصارًا دبلوماسيًا، لم تُمارس الضغوط اللازمة لضمان تنفيذه، فغضّ الطرفان عن معظم بنوده، ولم تُلبَّ حتى الاحتياجات الإنسانية الأساسية لتيغراي في الوقت المناسب.

والأسوأ أنّ مفاوضات بريتوريا استبعدت طرفين محوريين هما: إريتريا وقيادة إقليم أمهرة. افترض الوسطاء أنهما سيتبعان آبي أحمد، لكنهما سرعان ما اختلفا معه. فمطلع 2023، أمر آبي بنزع سلاح ميليشيا فانو في أمهرة، وتخفيض قواتها الخاصة إلى شرطة مكافحة الشغب. رفضت فانو، وبعد أسابيع قليلة فجّرت تمرّدًا واسعًا ضد القوات الحكومية عبر مساحات شاسعة من الإقليم. ومنذ ذلك الحين تتواتر تقارير شهرية عن عشرات، وأحيانًا مئات، القتلى في اشتباكات ومجازر وضربات بطائراتٍ مُسيّرة، فيما تُقدّر الأمم المتحدة أن ما لا يقل عن نصف مليون نازح يحتاجون إلى مساعداتٍ عاجلة.

تغذّي القابلية للاشتعال منافساتُ قوى شرق أوسطية نافذة؛ فالإمارات العربية المتحدة تميل إلى مساندة إثيوبيا، فيما تبدو مصر والسعودية وتركيا أقرب إلى مقاربةٍ تراعي مصالح إريتريا وحساباتها

في المقابل، شعرت إريتريا بأن اتفاق السلام طعنها في الظهر. كان أفورقي يريد مواصلة الحرب حتى التدمير الكامل للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، كما انتابه قلقٌ متزايد في انفتاح أديس أبابا على واشنطن، وخشي أن يكون الاتفاق مصممًا لتهميشه. ومع تدهور العلاقات بين العاصمتين، بدأ كل طرف يبحث عن وسائل ضغطٍ غير مباشرة: دعمت أديس أبابا قوى معارضة داخل إريتريا، وردّت أسمرة بدعم جماعاتٍ مناوئة في إثيوبيا، وزوّدت ميليشيا فانو بالسلاح. في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن آبي أنّ إثيوبيا لا تحتاج إلى منفذ إلى البحر لأمنها الاقتصادي فحسب، بل لها حق تاريخي في ميناء عَصَب. ولم يتضح آنذاك إن كان يناور لانتزاع تنازل إريتري أم يخطّط بجدية لخيارٍ عسكري.

في أوائل 2024، خفّت التوترات قليلًا عندما وقّعت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع صوماليلاند، الجمهورية المعلَنة ذاتيًا على شاطئ خليج عدن. وفق المذكرة، تعترف إثيوبيا باستقلال صوماليلاند مقابل حصولها على منفذٍ بحري هناك، بما يلبّي سعي آبي لإعادة بلده إلى الساحل. لكن الخطة انهارت بفعل معارضة شديدة من الصومال، الذي يعارض استقلال صوماليلاند ويخشى هيمنة إثيوبيا الإقليمية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، رعت تركيا مصالحة بين أديس أبابا ومقديشو، فعاد آبي يوجّه اهتمامه إلى عَصَب.

إذا قرر آبي المضيّ إلى الحرب، يستطيع جيشه، من حيث المبدأ، التقدّمَ مباشرةً نحو عَصَب البعيدة عن أسمرة وعن مراكز الكثافة السكانية الإريترية. لكن أيًّا تكن نتيجة مغامرةٍ كهذه، فالمرجّح أن تَستتبع عملياتٍ عسكرية داخل تيغراي، حيث للطرفين مصالحُ عميقة. محور ذلك هو قوات دفاع تيغراي، الجيشُ الإقليمي الذي نشأ ردًّا على فظائع حرب 2020، ويُقدّر عدده بنحو 274 ألف مقاتل، وتخضع قيادته لحكومة الإقليم التي تهيمن عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. تقود هذه القوة مجموعةٌ من المحاربين القدامى من حرب 1974–1991، وإلى جانبهم ضباطٌ وجنودٌ استُبعدوا من الجيش الإثيوبي على يد آبي، ومتطوّعون جدد. ومنذ شهور، تسعى كلٌّ من أديس أبابا وأسمرة إلى استمالة تيغراي، بما في ذلك التأثير داخل بنية قوات الدفاع نفسها.

وادٍ يتّسع فيه الصدع

في ظل التجاذب الإثيوبي–الإريتري، أخذ الاستقرار الهشّ في تيغراي يتهاوى. وبرغم علل الإدارة المؤقتة التي شكّلها حزب الجبهة في مَقَلِّي بعد اتفاق بريتوريا، فإنها تبنّت إنهاء الحرب ودفع مسار الاستقرار. كانت تركة القتال ثقيلة؛ مدنٌ مُنهَكة وسكانٌ جياع ونازحون ومدارس ومستشفيات متوقفة. كانت المهمة جبارة، ومع ذلك بدا لفترةٍ وجيزة أنّ الإدارة الإقليمية أخذت تضع أقدامها على الطريق الصحيح.

لكن وحدة الصف التيغراوي سرعان ما تكشّفت هشاشتها. فقد تفكّكت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى جناحين: يتزعّم الأول دِبريتصيون قبريميكائيل ويميل إلى أسمرة، ويقود الثاني غيتاتشو رضا ويميل إلى أديس أبابا. وحتى القيادة العليا لقوات دفاع تيغراي، التي نأت بنفسها طويلًا عن تنازع الأجنحة، انقسمت؛ وتقدّم اللواء تادِسِّه وِرِدِه لتولّي رئاسة الحكومة الإقليمية. ويقف خلف الجناح المقرّب من إريتريا رجلُ أعمالٍ تيغراوي مقيمٌ في الخليج، هو داويت قبرغزيابر، الذي تكرّرت زياراته إلى أسمرة. وتشير تقارير إلى اتصالاتٍ يجريها كوادر من الجبهة، وربما بعض جنرالات قوات الدفاع، مع الإريتريين.

إذا نجحت إدارة ترامب في إنجاز ترتيبٍ كهذا، فسيُعَدُّ نصرًا دبلوماسيًا ذا أثرٍ بعيد يعزّز القوة الأميركية ويطلق بدايات ازدهارٍ متجدِّد في إقليم أنهكته الحروب

تبريرات هذا الانفتاح على إريتريا متباينة. فريقٌ يراه خطوةً نحو الانفصال عن إثيوبيا، وتأسيس "تيغراي المستقلة"، وفريقٌ آخر يحتجّ بأنّ أديس أبابا تخلّت عن الإقليم، وأنّ مدَّ جسورٍ مع الناطقين بالتيغرينية في الضفة الأخرى من الحدود خيارٌ براغماتيّ لإسناد أمن الإقليم. أما الرواية الرسمية للجبهة فترى أنّ من حقها التعامل مع أي طرفٍ يخدم مصالح تيغراي الأمنية. من جهتها، رحّبت إريتريا بهذه القنوات لأنها تخدم مصلحتها في إضعاف وحدة تيغراي، وبناء ائتلافٍ عسكريّ جديد ضد إثيوبيا.

تحت وطأة هذا الاستقطاب، تتفكك البنية السياسية والاجتماعية في الإقليم. ويشيع الاعتقاد بأنّ الفساد يغذّي التصدّع. فمنذ نهاية الحرب، اجتاحت "حمّى الذهب" مناطق من تيغراي، وازدهر تعدينٌ أهلي واسع النطاق -مرخّصٌ وغير مرخّص- إلى جانب التهريب والبيع للبنك المركزي الإثيوبي المتلهّف للعملة الصعبة وسط أزمةٍ اقتصادية حادّة. تحوّلت حدود الإقليم إلى فضاءاتٍ منفلتة؛ وثّقت الإدارة المؤقتة، دون نشرٍ علني حتى الآن، دلائل على الاتجار بالبشر. وتقول العيادات الطبية إنها تستقبل عشرات الناجيات من اعتداءاتٍ جنسية يوميًا، كثيراتٌ منهنّ قادمات من مناطق لا تزال قواتٌ إريترية تسيطر عليها داخل تيغراي.

في الوقت نفسه، تُنتهك بنودُ اتفاق بريتوريا علنًا. فالقوات الأمهرية التي تسيطر على معظم غرب وشمال غرب تيغراي ترفض الانسحاب.وتحافظ إريتريا على خطوط دفاعٍ داخل أراضي الإقليم. ويظلّ أكثر من 1.5 مليون إنسانٍ مهجّرين، بين من يعيشون في مخيماتٍ ومن احتموا بمبانٍ عامة. المدارس مغلقة والعيادات وشبكات المياه لم يعَد تأهيلها، ورواتب القطاع العام متأخرة. ولم يحصل أكثر من 200 ألف من مقاتلي قوات دفاع تيغراي على مستحقات التسريح، فيما يفتقر الجرحى إلى خدمات إعادة التأهيل الأساسية. أما الجوع فمستشرٍ، وقد زادته سوءًا الانكماش الحاد في المساعدات الإنسانية الأميركية عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.

في عام 2022، موّلت الولايات المتحدة أكثر من 50 ٪ من إجمالي 2.3 مليار دولار شكّلت حجم المساعدات الدولية لإثيوبيا. أما هذا العام، ومع تفاقم الضيق الإنساني، فلم تتلقَّ البلاد سوى 6.7٪ من نداءٍ أممي متواضع بقيمة 612 مليون دولار، فيما تكاد المساعدات الأميركية تكون في حالة توقّف.

هذه الفوضى تجعل العودةَ إلى السلاح أكثر ترجيحًا. ليس صعبًا أن تعثر في تيغراي على جنودٍ حاليين وسابقين يتطلعون إلى القتال مجددًا للخروج من دوامةٍ تُرى بلا أفق. إلا أن حربًا جديدة ستعني على الأرجح مزيدًا من الدمار والمجاعة وإراقة الدماء، ومن دون مسارٍ واضح إلى سلامٍ وإعمار.

الضغط لمنع حرب جديدة في القرن الأفريقي

برغم ثقل المشهد، فإن تحييد تيغراي عن صراعٍ محتمل ليس مستحيلًا. بمقدور الإقليم، من حيث المبدأ، أن يرفض الانحياز في المواجهة الإثيوبية–الإريترية. لأجنحة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مصلحةٌ مشتركة في تجنّب اقتتالٍ داخلي يُفنيهما معًا. وبرغم تحالفاتهما التكتيكية المتعارضة، يستطيعان صياغة موقفٍ مشترك يجنّب الإقليم الانجرار إلى حربٍ عابرةٍ للحدود.

يمتلك التيغراويون أوراق ضغط معتبرة على أديس أبابا وأسمرة. فليس لأيٍّ من الطرفين مصلحةٌ في إشعال حربٍ بلا ركيزةٍ تيغراويةٍ قوية، ولن يقدر أيهما على إطالة أمدها إذا ظلّ الإقليم محايدًا. بل إن الحرب على عَصَب تُشبه، كما يقول المثل، قتال رجلين أصلعين على مشط. فحتى لو نجحت إثيوبيا في السيطرة على المدينة، فسيكون ذلك خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، وستتجنّب شركات الشحن العالمية التعامل مع الميناء؛ وسيواجه آبي حكومةً مهددةً بالعزلة الدولية، وهو الذي طالما اتّكل على دعمٍ غربي واسع. وليس واضحًا أن السيطرة على الميناء ستقوّي موقفه الداخلي. أما إريتريا، فعلى طرف صحراء داناكيل لا تملك خياراتٍ عسكريةً هجومية تقليدية أكثر من الدفاع؛ ولكن إذا خسرت الميناء فلن تجد صعوبة في تغذية السخط داخل إثيوبيا، ودعم مجموعات ناقمة لتقاتل أديس أبابا، ما يغرق إثيوبيا في اضطرابٍ أعمق وعدم استقرار.

إلى جانب إنقاذ الأرواح بالإغاثة، فإن الحاجة الملحّة لتيغراي ولإثيوبيا عمومًا هي تنفيذ اتفاق بريتوريا أخيرًا. وهذه بنوده ليست عسيرةً ولا معقّدة؛ انسحاب قوات أمهرة، وإعادة الحدود الإدارية لما قبل الحرب، وعودة النازحين إلى مواطنهم، وفتح حوار سياسي يتيح لتيغراي تحديد مكانتها في السياسة الوطنية الإثيوبية. بقيت هذه الخطوات معطّلة لأن الطرف الأقوى، الحكومة الفيدرالية بقيادة آبي، لم يتعرّض لضغطٍ كافٍ للإيفاء بتعهّداته.

يمكن للحكومات الغربية والقوى الإقليمية تغيير المعادلة. فقد تلقت إثيوبيا مليارات الدولارات من المساعدات والتمويلات الميسّرة في 2024 وحده، وبوسع الدول المانحة أن تجعل أي دفعات لاحقة مشروطةً بتنفيذ أديس أبابا لما وقّعت عليه رسميًا. وتحتاج إدارة تيغراي إلى موارد لتلبية مطالب الناس في الإغاثة وإعادة الإعمار. ومع ضغطٍ حقيقي ومنسّق من واشنطن، سيكون بإمكان أديس أبابا والإدارة الإقليمية تحجيم الأجنحة المتهوّرة التي تسعى لاستغلال اللحظة، وكبح جماح القوى الشرق أوسطية التي تدخّلت بلا ضوابط طويلًا في القرن الأفريقي. وإذا نجحت إدارة ترامب في إنجاز ترتيبٍ كهذا، فسيُعَدُّ نصرًا دبلوماسيًا ذا أثرٍ بعيد يعزّز القوة الأميركية ويطلق بدايات ازدهارٍ متجدِّد في إقليم أنهكته الحروب.

ومهما تكن مآلات التوتر الراهن، فإن أمام تيغراي طريقًا طويلًا إلى التعافي. يتطلب ذلك بناء مؤسساتٍ خاضعة للمساءلة ومجتمعًا مدنيًا فاعلًا، وترميم الركائز الاقتصادية التي تضمن الاستقرار. غير أنّ شيئًا من هذا لن يكون ممكنًا إذا اندلعت حربٌ جديدة. إن المهمة الأكثر إلحاحًا اليوم هي منع اندلاعها.