تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
كتب

القرن الأفريقي: بين سيطرة المال وحروب النفوذ

14 سبتمبر, 2025
الصورة
القرن الأفريقي: بين سيطرة المال وحروب النفوذ
Share

في قلب الصراعات المتشابكة والتحديات العميقة التي يوجهها القرن الأفريقي، يقف كتاب "السياسة الحقيقية للقرن الأفريقي: المال، الحرب وصناعة القوة" لأليكس دي وال مرآة تعكس واقعًا لا تظهره البيانات الرسمية، ولا تكشف عنه الأخبار اليومية. يكشف الكاتب بحنكة تحليلية كيف تحولت السياسة إلى مساحة تتقاطع فيها مصالح المال والعنف، وتتبدل معاني السلطة والدولة لتصبح لعبة معقدة من التوازنات الهشة والأسواق السياسية التي تحكم التفاعلات في المنطقة.

يتجاوز الكتاب السرد التاريخي ليقدّم رؤية فريدة تلهم القارئ للتفكير في جذور الأزمات والآليات الخفية التي تشكل مستقبل القرن الأفريقي. في صفحات الكتاب، يسافر القارئ إلى عوالم مختلفة من النفوذ والتضاد، حيث تتصارع القوى بشراسة على النفوذ والهيمنة، ليجد نفسه أمام لوحة سياسية معقدة تفرض عليه إعادة قراءة معنى السياسة والدولة.

الأسواق السياسية وعمليات السلطة في القرن الأفريقي

يرى أليكس دي وال أن السياسة في القرن الأفريقي لا تسير وفق النماذج التقليدية للدولة الحديثة، بل تشبه إلى حد كبير سوقًا تجارية تتنافس فيها الأطراف المختلفة. في هذا السوق، المال والعنف هما العملتان الأساسيتان، حيث يسعى الفاعلون السياسيون إلى توسيع ما يسميه "ميزانيتهم السياسية". تمكّنهم هذه الميزانية من شراء الولاءات وتوزيع النفوذ، سواء عبر الانتخابات الشكلية أو عبر القوة المسلحة. هكذا تصبح السياسة أقرب إلى عملية تبادل مصلحي مفتوح، بعيدًا عن القواعد المؤسسية أو القوانين الثابتة.

هذا الإطار التفسيري يتضح بجلاء في حالات مثل: السودان وإثيوبيا والصومال، حيث تذوب الحدود بين الدولة والمجتمع، وتتحول المؤسسات الرسمية إلى واجهات ضعيفة لا تمنع الصراع الداخلي. ففي السودان وجنوب السودان مثلاً، لم تُستثمر موارد النفط في بناء دولة قوية، بل وُجهت نحو تغذية شبكات المحسوبية والولاءات السياسية. الأموال تُوزع بين قادة الميليشيات ومراكز النفوذ، مما يؤدي إلى تفاقم الفساد واستمرار النزاعات المسلحة. هكذا تصبح الثروة الطبيعية مصدرًا للانقسام بدل أن تكون أداة للتنمية والاستقرار.

السياسة في القرن الأفريقي لا تسير وفق النماذج التقليدية للدولة الحديثة، بل تشبه إلى حد كبير سوقًا تجارية تتنافس فيها الأطراف المختلفة

أما في إريتريا ودول أخرى بالمنطقة، فيظهر الحكم القائم على القوة السلطوية والاستغلال الاقتصادي، حيث تتحول السياسة إلى مزيج من السيطرة الأمنية والتلاعب بالموارد. هذا النموذج يوضح لماذا تفشل محاولات إعادة بناء الدولة وفق المقاييس الغربية، لأن البنية السياسية هناك تتأسس على تفاوض دائم بين زعماء سياسيين وعسكريين أشبه بـ "عصابات" سياسية. هؤلاء يستخدمون المال والعنف وسائل للترهيب والتسويات، فيغدو النظام السياسي ساحة لتقاسم النفوذ أكثر من كونه مسرحا للتنافس الديمقراطي أو لبناء مؤسسات راسخة.

العنف والتمويل السياسي: أدوات السيطرة والتفاوض

يكشف الكتاب أن العنف في القرن الأفريقي لا يقتصر على كونه أداة للصراع المسلح، بل يمثل جوهر النظام السياسي ذاته. فهو يُستخدم كوسيلة للتفاوض السياسي وصياغة التوازنات بين الفاعلين، حيث تتحول ساحات المواجهة إلى جزء من عملية تبادل معقدة. العنف هنا لا يقتصر على السيطرة العسكرية، بل يحمل رسالة سياسية تعيد تشكيل التحالفات والمصالح. وهكذا يغدو العنف أحد أعمدة الحياة السياسية، وليس مجرد عرض جانبي أو نتيجة ظرفية.

تتأسس البنية السياسية على تفاوض دائم بين زعماء سياسيين وعسكريين أشبه بـ "عصابات" سياسية

أما التمويل، فيُعد المحرك الموازي للعنف في هذا المشهد. فالموارد الطبيعية مثل النفط في السودان أو التعدين في إريتريا والصومال، تتحول إلى مصادر تمويل خارج الأطر الرسمية للدولة. هذه الموارد تُستخدم لبناء "ميزانيات سياسية" خاصة، يستغلها القادة المحليون لشراء الولاءات وتعزيز قدراتهم على ممارسة العنف. النتيجة أن الاقتصاد الرسمي يتراجع، بينما يترسخ اقتصاد سياسي بديل يقوم على الفساد، ويُبقي الدولة رهينة لشبكات النفوذ غير المؤسسية.

في ظل هذا التداخل، يصبح العنف والتمويل السياسي وظيفتين مترابطتين يعزز أحدهما الآخر. العنف يتيح تحقيق مكاسب مالية عبر السيطرة على الموارد، بينما الأموال تُستخدم لتقوية شبكات مسلحة مستقلة عن سلطة الدولة. هذا التفاعل يرسخ حالة من عدم الاستقرار المزمن، حيث تغدو الدولة واجهة شكلية، بينما تكمن السلطة الحقيقية في إدارة سوق السياسة العنيفة. وهكذا ينشأ نظام سياسي مشوه، تتحكم فيه التحالفات المرحلية أكثر من القواعد القانونية أو المؤسسات الديمقراطية.

نزيف الدول وركود الدولة الوطنية: إعادة هندسة الحدود والسيادة

في سياق الاضطراب المزمن الذي يعيشه القرن الأفريقي، تبرز إشكالية تفكك الدولة الوطنية وإعادة تشكيل مفهوم الحدود والسيادة. أليكس دي وال يرى أن الدول في هذه المنطقة لم تعد كيانات صلبة، بل أقرب إلى "هياكل متخيلة" تنتجها سوق سياسية مضطربة وشبكات قوى متحركة. الحدود السياسية المرسومة على الخرائط لم تعد تعكس حقيقة السلطة، إذ تتوزع هذه السلطة فعلياً بين زعماء محليين وقبليين وعسكريين. بذلك تتراجع الدولة الحديثة كمفهوم كلاسيكي أمام واقع تفرضه الولاءات الجزئية والسلطة اللامركزية.

تظهر هذه المعضلة بوضوح في حالات مثل إقليم صوماليلاند، الذي يتمتع بحكومة ومؤسسات خدمية منظمة، لكنه يفتقد إلى الاعتراف الدولي، ما يوضح تعقيد مفهوم الدولة الحديثة وسيادتها. كذلك فإن استقلال إريتريا عن إثيوبيا، وانفصال جنوب السودان عن السودان، يمثلان شواهد على انقسام الدول الوطنية إلى كيانات أصغر ذات طبيعة غير رسمية. هذه الكيانات لا تبنى على أسس مؤسسية متينة، بل تعتمد على شبكات نفوذ تستند إلى "ميزانيات سياسية" وموارد اقتصادية يتم استغلالها لإدامة السيطرة والسلطة المحلية.

الدول في منطقة القرن الأفريقي لم تعد كيانات صلبة، بل أقرب إلى "هياكل متخيلة" تنتجها سوق سياسية مضطربة وشبكات قوى متحركة

هذا الواقع يعزز فرضية أن النظامين الدولي والإقليمي لا ينظران إلى دول القرن الأفريقي ككيانات ذات سيادة مكتملة، بل كمساحات نفوذ تخضع لتوازنات القوى الكبرى والأجندات الاقتصادية العالمية. فالمصالح الدولية تتقاطع مع القوى المحلية لتعيد تشكيل خريطة النفوذ باستمرار. وبدلاً من أن تنشأ دول وطنية مستقرة تقدم الأمن والتنمية لشعوبها، تتفاقم النزاعات وتترسخ التبعية. وهكذا يصبح مستقبل الدولة في المنطقة محكوماً بعوامل خارجية وداخلية متشابكة تعيق بناء مؤسسات قوية مستقلة.

لا يقتصر طرح أليكس دي وال على سرد الوقائع أو استعراض النزاعات، بل يتجاوز ذلك نحو تحليل يكشف البنية العميقة للسلطة في القرن الأفريقي. السياسة هنا لا تُبنى على مؤسسات وطنية راسخة، بل على "سوق دموي" يتداول فيه المال والعنف كأدوات أساسية لإنتاج النفوذ وتثبيت السيطرة.

تمثل هذه الرؤية نقدًا صريحًا لمحاولات المجتمع الدولي إعادة بناء الدولة، وفق النموذج الغربي التقليدي، وتفرض إعادة التفكير في آليات الفهم والتحليل بعيدًا عن التصنيفات السطحية للدول "الهشة" أو "الفاشلة".

من هذا المنطلق، يقدم الكتاب دعوة جريئة لقراءة السياسة في القرن الأفريقي باعتبارها عملية تجارية معقدة، تتداخل فيها المصالح والتحالفات بقدر ما يتشابك فيها العنف والمال. المستقبل السياسي للمنطقة لن يصاغ عبر مشاريع الدولة الكلاسيكية، بل عبر إدراك ديناميات القوى الفاعلة الحقيقية والتعامل معها بواقعية. إنها رسالة فلسفية بقدر ما هي تحليل سياسي، تفتح المجال لإعادة التفكير في مفهوم الدولة والسيادة والسلطة في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا، وتحث على صياغة حلول مبتكرة تستجيب لتعقيدات الحاضر وتحديات العقود القادمة.