تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

القارئ بلا جريدة: حين فقد السودانيون طقس الصباح اليومي

6 أكتوبر, 2025
الصورة
القارئ بلا جريدة: حين فقد السودانيون طقس الصباح اليومي
Share

في صباحات الخرطوم قبل اندلاع الحرب كان المشهد مألوفا فبائع الجرائد يفرش الصحف على الرصيف، يتجمع حوله موظفون وطلاب، ويلتقط أحدهم نسخته المفضلة، ويقلب آخر الصفحات مسرعا قبل أن يدفع ثمنها. حتى في المقاهي الشعبية، توضع الصحف على الطاولات لتُقرأ جماعيا، ويمر هذا على خبر سياسي، ويعلق ذاك على عمود رياضي، فيما يتجادل آخرون حول مقالة ثقافية، كما أنه لم تكن الجريدة الورقية مجرد ورق وحبر، بل جزءا من الطقس اليومي وذاكرة المجتمع.

اختفى هذا المشهد مع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023، حين توقفت الصحف الورقية عن الصدور حتى اليوم، فالحرب شردت الملايين، وجمدت الحياة العامة، وكان توقف الصحف واحدا من أبرز تجليات ذلك التوقف فغيابها لم يكن مجرد توقف وسيلة إعلامية، بل كان فراغا إنسانيا وثقافيا انعكس على المجتمع الذي اعتادها جزءا من روتينه اليومي ومنبرا لتبادل الأفكار.

طقس مفقود في حياة الناس

يربط الكثيرون بداية يومهم بقراءة الجريدة مع كوب شاي أو قهوة بعد توقفها صار اليوم يفتقد ذلك الطقس الصباحي، وفق شهادة جمال عبد الله «53 عاما» لــ «جيسكا بالعربي»، حيث اتجه معظم الناس إلى هواتفهم لمتابعة الأخبار عبر التطبيقات ومواقع التواصل، فالملمس الورقي ورائحة الجريدة وأسلوب التصفح البطيء واللحظة التي تطوى فيها الجريدة بعد الانتهاء... كلها تفاصيل نفتقدها.

ويضيف، كان هناك شعور بالثقة والرصانة في المعلومة أكثر من منصات التواصل المليئة بالإشاعات، وأغلب الناس اتجهوا إلى منصات مثل: فيسبوك واتساب إكس، وبعض المواقع الإلكترونية. لكن هذا البديل لم يعط نفس التجربة؛ فالتصفح الرقمي سريع ومجزأ، بينما الجريدة كانت تقدم محتوى مرتبا وملخصا، وبدل أن يحمل شخص الجريدة، ويشارك خبرا مع من حوله، أصبح يرسل رابطا أو صورة في مجموعات خاصة، حيث صارت الأخبار تنتقل أسرع لكن أقل تدقيقا، مما زاد من انتشار الشائعات.

الصحيفة ذاكرة جماعية وثقافة يومية

ارتبطت الصحف الورقية في السودان، لعقود، بالذاكرة الجماعية، فهي لم تكن مجرد ناقل أخبار، بل مدرسة للقراءة والكتابة، وميدانا للنقاش الثقافي والاجتماعي، وكان كثير من القراء يتعلمون القراءة من الصحف التي كانت تصل إلى البيوت عبر الآباء.

هذا البديل لم يعط نفس التجربة؛ فالتصفح الرقمي سريع ومجزأ، بينما الجريدة كانت تقدم محتوى مرتبا وملخصا، وبدل أن يحمل شخص الجريدة، ويشارك خبرا مع من حوله، أصبح يرسل رابطا أو صورة في مجموعات خاصة

يصف الكاتب والشاعر محمد إبراهيم سعد الله تجربته مع الصحف الورقية قائلا: "أنا تعلمت القراءة عن طريق الصحف التي يجلبها أبي إلى المنزل حيث كانت مثل ملتقى اجتماعي، لأن كشك الجريدة في أي مدينة كان معروفا، والناس ترجع إلى منازلها بعد أن تأخذ نسخها، فالصحف شجعت على الملمات الثقافية، وتثير النقاش حول ما كتب بالأمس، لذلك كانت تمثل أهمية ثقافية واجتماعية واقتصادية".

وفي حديثه لــ «جيسكا بالعربي» يؤكد أن غيابها ترك أثرا سلبيا، لأن الصحف مسؤولة عن كل كلمة تنشر. أما المعلومات الآن عبر وسائل التواصل فهي بلا تحر دقيق، فانعكس ذلك سلبا على الآراء، حتى في المجال الرياضي حيث صار التعصب شديدا، فالأفكار أصبحت أكثر تطرفا، وفقد المجتمع بوصلة نقاشاته المعتدلة حتى ظهر بديل في دول أخرى تخلت عن الورقية، لكن في السودان حتى الإصدار الإلكتروني توقف مع الحرب فكان الفراغ مضاعفا.

شكلت الصحف السودانية كشكولا مفتوحا للحياة، وملتقى للناس في الأحياء والمدن، مع غيابها نشأ فراغ ثقافي واجتماعي يصعب ملؤه. مع توقف الصحف، لم يخسر المجتمع وسيلة إعلامية فحسب بل فقد أيضا أداة أساسية لتشكيل التوازن الفكري، وضبط إيقاع النقاش العام، الذي اعتادت الصحف أن تضبطه، وانفلت التعصب وتحول إلى صخب غير مسبوق على منصات التواصل الاجتماعي.

منصات ثقافية غائبة

إن غياب الملفات الثقافية في الصحف أحدث فراغا لا يمكن تجاوزه، فالصحافة الثقافية في السودان مثلت نافذة مهمة جدا للكتاب والمثقفين، ومن خلالها نكتشف أصواتا جديدة وتسلط الضوء على المنتج الإبداعي حيث كانت أشبه بسلطة ثقافية، فمن يريد أن يصل بفنه أو كتاباته إلى الآخرين كان لابد أن يمر عبرها.

رغم أنها تعامل أحيانا هامشية، إلا أن دورها كان كبيرًا. ومع ظهور الإنترنت بدأت سلطة الورقية تتراجع، لكن مع توقفها التام بسبب الحرب خسرنا شرطا أساسيا في إدارة الحوار الثقافي، وفقدنا أداة رئيسية في تشكيل الذاكرة الجمعية، والآن الصوت الطاغي هو خطاب الكراهية والصراخ في وسائل التواصل، بينما نحتاج إلى منصات ثقافية جادة تعيد التوازن، فالعالم كله يتجه نحو الصحافة الإلكترونية، لكننا نتمنى عودة الورقية ولو في شكل مجلات.

الصحفيون بين التهجير وفقدان الهوية

تقول الصحفية الشابة مآب الميرغني أن الحرب في ذاتها كانت صدمة كبيرة لنا، فمنذ إطلاق الرصاصة الأولى توقفت الصحف الورقية عن النشر. أثر التوقف لم يكن على الصحفيين فقط، بل على الإدارات العاملين، وسوق الإعلانات أيضا، فالجريدة التي كنت أعمل فيها ضمت حوالي 15 صحفيا، ومثلهم إداريون ومطبعيون بعضهم لم يسترد عافيته المهنية حتى الآن، وبعضهم اتجه لمهن أخرى، وآخرون أقعدتهم ظروفهم الصحية.

لم يخسر المجتمع وسيلة إعلامية فحسب بل فقد أيضا أداة أساسية لتشكيل التوازن الفكري، وضبط إيقاع النقاش العام، الذي اعتادت الصحف أن تضبطه

وتضيف لــ «جيسكا بالعربي» فقدنا المنبر اليومي المباشر للتواصل مع القراء، والبيئة التحريرية التي تساعد على تبادل الخبرات وصقل المهارات. كما فقدت الأجيال الجديدة فرصة التكوين المهني داخل المؤسسات. حاولت العمل عبر المنصات الرقمية كصحفية مستقلة رغم أن العائد قليل، لكنه أبقاني حاضرة كصحفية. شخصيا، غياب الجريدة لم يكن مجرد فقدان وظيفة، بل فقدان جزء من هويتي اليومية، لكن التجربة أعطتني مرونة ودافعًا لاكتساب خبرات جديدة، وفتح مسارات لم أكن أتخيلها.

يرى عثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة التيار، أن التدهور سبق الحرب فقد انحسرت النسخ الورقية منذ عام 2018 بسبب الأزمة الاقتصادية والمظاهرات وإغلاق الطرق. وبعد الحرب توقفت المطابع، وسيطرت قوات الدعم السريع على دور الصحف ونهبتها. ويضيف أن غياب الصحف كان له أثر كبير، ففي صحيفة التيار مثلا كنا نعقد منتدى أسبوعيا يستقطب جمهورا واسعا، ونستضيف فعاليات ثقافية.

يقول لــ «جيسكا بالعربي» مع توقف الورقي واصلنا بإصدارات إلكترونية، ولم نتوقف إطلاقا، بل نستعد للعودة بالنسخة الورقية قبل نهاية العام، فالصحافة لا تزال مؤثرة على الرأي العام. لكن مع الأسف تأثرت بالاستقطاب السياسي، فالبدائل الرقمية عززت الانتشار، لكنها لم تعوض البيئة التحريرية الحقيقية.

لم يكن غياب الصحف الورقية في السودان حدثا عابرا، بل تحول إلى جرح مفتوح في جسد الذاكرة الجمعية حيث فقد المجتمع مساحة للنقاش الرصين، وخسر الكتاب والمثقفون منابرهم

أما فيصل محمد صالح، وزير الإعلام الأسبق، فصرح لــ «جيسكا بالعربي» بأن الصحافة السودانية كان لها دور كبير جدا في حياة الناس، وغيابها يعني غياب التأثير، لأن البدائل الجديدة مختلفة في طريقتها. الحرب لم تكن السبب الوحيد؛ فالصحف كانت في أضعف حالتها اقتصاديا، فعائدات البيع والإعلانات لم تكن تغطي التكلفة، وجاءت الحرب لتطلق رصاصة الرحمة.

ويضيف الصحافة الورقية كانت وسيلة مهمة في تكوين الوعي والوجدان، وغيابها أضر بالجميع فالصحفيين الذين فقدوا دخلهم، القراء الذين فقدوا وسيلة موثوقة، والمجتمع الذي خسر أداة لصناعة الرأي فالصحافة الرقمية حاولت سد الفجوة لكنها قامت على مجهودات فردية، بتمويل محدود أو سياسي، مما جعل المستقل منها قليلا وضعيف الإمكانيات فالبدائل الرقمية لم تستطع تعويض الصحافة الورقية، والمستقبل يتطلب بناء مؤسسات وتدريب وتمويل مستدام حتى تستعيد الصحافة دورها.

يرى خبراء الإعلام أن الحرب لم تكن السبب الوحيد لتوقف الصحف، بل كانت القشة الأخيرة في سياق أزمة طويلة انحسار المبيعات، أزمة الإعلانات، وتراجع البنية الاقتصادية منذ 2018 حتى جاءت الحرب لتطلق رصاصة الرحمة على صناعةٍ كانت تعاني أصلا من الهشاشة، وكانت بعض الصحف واصلت الصمود عبر الإصدارات الإلكترونية، لكن دون بيئة تحريرية جامعة أو إمكانيات مالية كافية.

لم يكن غياب الصحف الورقية في السودان حدثا عابرا، بل تحول إلى جرح مفتوح في جسد الذاكرة الجمعية حيث فقد المجتمع مساحة للنقاش الرصين، وخسر الكتاب والمثقفون منابرهم، وتشتت الصحفيون بين المهن والهجرة، فالصحافة الرقمية منحت بدائل سريعة، لكنها لم تعوض الطقس الإنساني للجريدة الورقية، ولا عمق الحوار الثقافي الذي كانت تؤطره، فالحرب وضعت حدا قاسيا لتاريخ طويل من الورق والحبر في السودان، لكن أصوات الصحفيين والمثقفين لا تزال تتشبث بأمل العودة، ولو في شكل جديد يعيد للجريدة مكانتها كذاكرة ووجدان ومجال عام.