الأحد 20 أبريل 2025
تسعى موسكو لتمديد نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي في أفريقيا، في الوقت الذي يتنامى فيه التنافس العالمي على أسواق وموارد القارة. يحظى إقليم القرن الأفريقي بمكانة كبيرة في الإستراتيجية الروسية، وتعمل على تحقيقها من خلال الشراكات الاقتصادية والعسكرية والمساعدات الإنسانية والدعم السياسي في المحافل الدولية.
أظهرت وثيقة السياسية الخارجية الروسية لسنة 2023 مدى محورية أفريقيا في النظام العالمي الجديد، الذي تروج له منذ حربها ضد أوكرانيا. نشرت مجلة " Russia in Global Affairs" الروسية تقريرًا حول ضرورة جعل العودة إلى أفريقيا أولوية روسية، لأهمية القارة من حيث كونها قوة ديموغرافية واقتصادية صاعدة زاخرة بالموارد الطبيعية، فضلًا عن الصورة الذهنية الجيدة لروسيا عند الأفارقة، ودعم دول القارة لروسيا في المحافل الدولية أو ما وصفته المجلة بـ"الولاء الأفريقي".
كما أنّ روسيا في حاجة إلى أفريقيا لمواجهة العقوبات الغربية على اقتصادها، وكسر العزلة السياسية المتنامية ضدها، منذ ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وصولًا إلى غزو أوكرانيا في 2022. توظف موسكو العلاقات الاقتصادية والتجارية والتعاون العسكري ومبيعات السلاح، والانخراط في قوات حفظ السلام المشتركة لتحقيق كل ذلك، وتقدم نفسها شريكا فاعل في مكافحة خطر الإرهاب والتطرف. كما تلعب دور الحليف الإستراتيجي الموثوق لعديد من دول القارة في مواجهة غطرسة الولايات المتحدة وفرنسا في المحافل الدولية، أو بمعنى أدق توفر الدعم والغطاء السياسي للأنظمة التي تريد الإفلات من الضغوط الغربية.
ترتبط أهمية إقليم القرن الأفريقي بموقعه الإستراتيجي المطل على واحد من أهم ممرات التجارة الدولية، فضلاً عن قربه من المجال الحيوي لروسيا في منطقة الشرق الأوسط. كما يمثل وجود قواعد وموانئ باستثمارات روسية في البحر الأحمر فرصة لتعزيز التجارة مع دول القرن الأفريقي، وإمكانية التمدد لتنشيط الصفقات التجارية مع دول وسط أفريقيا. وبوصفها لاعبًا عالميًا، ولديها مصلحة اقتصادية في قطاع الطاقة بأفريقيا، تتجه موسكو لخوض سباق التنافس على الاستكشافات النفطية في دول القرن الأفريقي، خاصة مع وجود تقديرات مقبولة عن ثروات نفطية وغازية في الصومال وإثيوبيا.
بداية، تعد إريتريا محط اهتمام موسكو، وتهدف من خلالها إلى توسيع شبكة تحالفاتها في القارة، من خلال نسج شبكة إقليمية تمتد من ساحل البحر الأحمر مرورًا بالسودان وأفريقيا الوسطى، وصولًا إلى دول الساحل في غرب القارة. لهذا تعددت المسارات التي انتهجتها موسكو لتوسيع نفوذها في إريتريا مستفيدة من طبيعة نظامها السياسي وعدائه للغرب.
كانت البداية بالتقارب السياسي منذ إعلان استقلال إريتريا في عام 1993، ومن ثم تبادل الزيارات الدبلوماسية بين الطرفين، والتي تسارعت منذ ضم شبه جزيرة القرم في 2014. وقع الطرفان مذكرة تفاهم مشتركة مطلع 2023 بهدف ربط مدينة مصوع الساحلية بقاعدة "سيفاستوبول" على البحر الأسود، تمهيدًا لبناء قاعدة عسكرية بحرية في ميناء مصوع بالقرب من مضيق باب المندب، لتعزيز الحضور الروسي في البحر الأحمر عسكريًا. وبالتالي تجاريًا من خلال إنشاء مناطق حرة في إريتريا لخفض تكاليف السلع الروسية في الأسواق الأفريقية. ودلالة على زيادة النفوذ الروسي تنظيم مناورات عسكرية مشتركة بين قطع بحرية في الربع الأول من العام الجاري.
إلى الجارة إثيوبيا، شقت موسكو طريقها مستغلة توتر علاقاتها مع حلفائها الغربيين، بعد اندلاع حرب تيغراي أواخر العام 2020. قبيل الحرب بعام، وبعد فترة قصيرة من تنصيب أبي أحمد رئيسًا للوزراء أعفت موسكو إثيوبيا من نحو 163.6 مليون دولار من الديون، وشهد العام نفسه الكشف عن احتياطات غازية كبيرة في الإقليم الصومالي الغربي. وعقب اندلاع الحرب في تيغراي، وفرت موسكو الدعم العسكري، ووقع الطرفان اتفاقية تعاون عسكري، كما تعد إثيوبيا أكبر مشتر للسلاح الروسي في القرن الأفريقي، بقيمة 71 مليون دولار في عام 2019.
كما وقع البلدان على خارطة طريق لتطوير التعاون المشترك في مجالات الطاقة النووية السلمية منتصف العام 2023. وفي إطار آخر استضافت أديس أبابا منتدى الأعمال الدولي "روسيا – إثيوبيا" لبحث تطوير التعاون التجاري والاقتصادي بينهما. تسعى روسيا من خلال المنتدى إلى وضع خارطة طريق للتعاون في مجالات عدة، منها: النقل والبناء وتكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني والصناعة الزراعية والسياحة، كما دعمت انخراط إثيوبيا؛ سادس أكبر اقتصاد أفريقي، في مجموعة البريكس.
لا تملك موسكو علاقات قوية مع الصومال مقارنةً بجارتيها إريتريا وإثيوبيا، فبين البلدين تاريخ من العداء منذ حرب أوغادين عام 1977، التي دعم فيها الاتحاد السوفيتي وكوبا إثيوبيا ضد الصومال. دامت القطيعة الدبلوماسية بين البلدين أكثر من ثلاثة عقود، منذ طرد سياد بري الخبراء السوفييت من مقديشيو في عام 1978.
عملت موسكو مع التحول الروسي تجاه القارة السمراء، إثر العقوبات الغربية في 2014، على استعادة العلاقات مع مقديشيو بداية من 2016، ودعت إلى دعمه في مواجهة خطر الإرهاب. كما استخدمت موقعها في مجلس الأمن الدولي لدعم القيادة الصومالية، فامتنعت عن التصويت في 2022 للإبقاء على قرار حظر الأسلحة على الصومال.
وقع الطرفان وثيقتين في 2023 لتسوية ديون ضئيلة على مقديشو. وبشكل عام تعددت القاءات الرسمية بين مسؤولي البلدين، وكان آخرها في منتصف 2023، خلال لقاء وزير خارجية الصومال مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، وقامت روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 بتقديم 25 ألف طن من القمح كمساعدة إلى مقديشيو، بعد الفيضانات الشديدة التي شهدتها البلاد.
يملك الصومال احتياطيات محتملة من النفط والغاز المكافئ تقدر بنحو 30 مليار برميل، وفي ظل إحجام الشركات الغربية عن استئناف استثماراتها أو ضخ أخرى جديدة، فهناك فرصة للشركات الروسية للتنافس على الامتيازات المطروحة. لكن بالمقارنة بين ما تقدمه روسيا ومنافسيها الغربيين، فليس من مصلحة الصومال توتير علاقته بالحلفاء الغربيين الذين قدموا مليارات الدولارات لإعادة بناء مؤسسات الحكومة الفيدرالية، منذ عام 2004.
على الجانب الآخر تختلف سياسة دول القرن الأفريقي تجاه روسيا، فقد صوت الصومال لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقابل رفض إريتريا إدانة روسيا، وفي الوسط جاء الموقف الإثيوبي بالتغيب عن الجلسة.
هناك عدة عوامل ستؤثر على الحضور الروسي في القرن الأفريقي؛ أولها عدم تجانس دول الإقليم، مما يتطلب مقاربات مختلفة لتحقيق حضور يناسب كل دولة على حدة، وثانيها مدى ارتباط دول الإقليم بالدول الغربية، وثالثها ما يمكن لروسيا تقديمه لكل دولة في ظل التنوع الكبير في الإقليم.
تبعًا لهذا، تأتي إريتريا في مقدمة الدول التي ترحب بالحضور الروسي، تليها إثيوبيا التي تجيد اللعب في ساحة العلاقات الدولية وتوظف مكانتها كواحدة من كبريات دول القارة في الاستفادة من الجميع، ثم الصومال الذي يرتبط بعلاقات قوية مع الدول الغربية، لا يمكن لروسيا منافستها حتى في المدى المتوسط. بالإضافة إلى هذا، ستتأثر الطموحات الروسية في الإقليم بالموقف من صراعات دوله البينية، خاصة أنّ الآليات الروسية لتحقيق النفوذ لا تزال تعتمد على قوتها العسكرية، وهو ما يجعل خياراتها ضيقة أمام قضايا الإقليم المعقدة.
مع ذلك، تمثّل الإستراتيجية الروسية تجاه دول الإقليم تحولًا إستراتيجيًا يعكس طموحات موسكو في إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحها، والذي يتضمن الاستفادة من موارد القارة الطبيعية خاصة الطاقة الأحفورية، وكسب حلفاء من القارة ككل في مواجهة النظام الذي تهيمن عليه الدول الغربية. يبقى على دول القارة والقرن الأفريقي انتهاج سياسة خارجية توظف التنافس الدولي من أجل تحقيق مصالح شعوب المنطقة، وهو الأمر الذي يتطلب في المقام الأول تسوية الصراعات الداخلية والبينية من أجل قطع الطريق على التدخلات الأجنبية التي تستثمر في الأزمات للحفاظ على النفوذ.