الأربعاء 4 ديسمبر 2024
يحكي الضابط البريطاني لانغتون برينديغاست والش - الذي كان أول مدير للإدارة البريطانية التي تشكلت لإدارة مدينة بربرة - عن صراع الدول من أجل بسط نفوذها على ميناء بربرة منذ القرن التاسع عشر في كتابه "Under The Flag and Somali Coast Stories"، فقد كانت بربرة الميناء الجيد الوحيد على الساحل الإفريقي لخليج عدن.
يعلق لانغتون على واقعة توجه سفينتين حربيتين مصريتين وثلاث سفن بخارية إلى بربرة أواخر عام 1874 بقوله: "إننا لم ننزعج من احتلال المصريين للمدينة، لأن الخديوي إسماعيل باشا في مصر وافق على بروتوكول مقترح يقضي بعدم فرض ضرائب على الأغنام والماشية المخصصة لأسواق عدن، حيث تتواجد القوات البريطانية"، ورغم رفض السلطنة العثمانية لهذا البروتوكول ومطالبتها بالسيادة الكاملة على موانئ الصومال، إلا أنها لم تتخذ أي إجراء لتحقيق ذلك.
حاول السنوسيون في ليبيا من جهتهم تدمير الميناء من خلال إثارة الفتنة والتبشير بمبدأ "إفريقيا للأفارقة" لتحريض الصوماليين ضد البريطانيين. لكن الصوماليين لم يحسموا أمرهم بهذا الخصوص، بل إن التجار انهمكوا في الحفاظ على مصالحهم ولو بالقوة بصورة أدت إلى الاقتتال فيما بينهم.
يحكي لانغتون أيضا كيف اشتبه برجل صومالي في عدن يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان يتسكع بصحبة تاجر ألماني كان وكيلا للقنصل الألماني ليكتشف أنه مترجم ينتظر وصول أسطول يتكون من ثلاث سفن حربية ألمانية قادمة من البحر الأحمر إلى خليج عدن، حيث كانت السلطات الألمانية تأمل في إبرام اتفاقيات مع العديد من السلاطين الصغار في موانئ الساحل الصومال.
حتى لا تتحول اتفاقيات الألمان مع الصوماليين إلى معاهدات تعكر صفو النفوذ البريطاني؛ اهتدى لانغتون إلى حيلة أقنع بموجبها السلاطين الصوماليين بأن بريطانيا لا تعترض على توقيع اتفاقيات مع الألمان، شريطة تضمينها بندا يرجئ البت في أي نزاع مع الألمان إلى الحاكم البريطاني في عدن باعتباره المحكم الوحيد، وأن يكون قرار الأخير نهائيا وملزما لكلا الطرفين.
استطاع لانغتون إقناعهم بذلك بعد إخبارهم أن الألمان أبناء عمومة البريطانيين، وأن "القيصر الألماني كان صهرا للملكة فيكتوريا العظيمة والكريمة، وأنه عندما ترسو سفنه في عدن فإنها ستتلقى كل مساعدة ممكنة من خدم جلالتها في الحصول على الفحم والمؤن والمياه واللحوم".
عندما وضع المبعوثون الألمان الاتفاقيات أمام هؤلاء الزعماء؛ أعرب السلاطين الصوماليون عن استعدادهم لتوقيعها، وحصل كل منهم على مكافأة مقابل موافقته على ذلك، إلا أنه عند التوقيع الفعلي أصر كل سلطان على إضافة بند يرجئ النظر في أي نزاع إلى الحاكم البريطاني في عدن. ومن الطبيعي أن يرفض الألمان الموافقة على شرط كهذا واضطروا لمغادرة الساحل الصومالي رغم النفقات الضخمة التي أنفقوها دون إتمام أية اتفاقية من أي نوع، ولم يعد الألمان إلى الساحل الصومالي قط.
كانت مدينة زيلع بدورها خاضعة لحكم الشيخ إبراهيم أبوبكر الذي يدفع ضريبة سنوية للعثمانيين عن طريق حاكم الحديدة التركي، وحين ضاق ذرعا بهم دبر ابنه برهان مؤامرة مع الفرنسيين لتسليمهم مدينة ساغلو الساحلية (تقع حاليا في جيبوتي ويُقال أن الروس استوطنوها لفترة قصيرة بل وأطلقوا عليها اسم "موسكو الجديدة"). كل ما سبق يشي بحجم النزاع الدولي والإقليمي على موانئ الصومال الذي اتخذ أشكالا عديدة في العصور الحديثة.
لكل ميناء صومالي قصة تحكي صراعا محليا أو نشاطا مخالفا للقانون أو مجدا غابرا أو تسوية سياسية، فمثلا ميناء ماريرو الواقع على بعد 16 كلم من شرق بوصاصو، استخدمه التجار لاستيراد وتصدير السلع والبضائع لقرون، بل وكان جماله يستقطب الزائرين والسياح في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. أصبح الميناء بعد انهيار نظام الحكم المركزي عام 1991 طريقا للهجرة غير الشرعية، فضلا عن كونه منفذا لتهريب الأسلحة من اليمن.
ميناء مركا الذي يقع في جنوب شرق الصومال، أنشأه الحاكم الإيطالي دي مركا في عشرينيات القرن العشرين، وأصبح مركز تصدير الموز إلى خارج البلاد، وكان سببا في ازدهار حركة التجارة في المدينة، لكن حاله تغير بعد الاستقلال، فقد تقلصت أهميته قبل أن تدمره الحرب الأهلية، وتهمله الحكومة الفيدرالية الحالية.
تمَّ بناء ميناء كسمايو الذي يقع في جنوب الصومال بمساعدة الولايات المتحدة عام 1964، وتحول بعد انقلاب عام 1969 إلى قاعدة للبحرية الصومالية والبحرية السوفيتية، وأصبح بعد فوضى الحرب الأهلية تحت سيطرة مقاتلي حركة الشباب، واستخدم لتصدير الفحم بطريقة غير شرعية، ووضعه صراع عشائري تحت سلطة ولاية جوبالاند التي لا زالت عاجزة عن استغلال كامل طاقته الاستيعابية، نظرا لحاجة الميناء إلى إصلاحات شاملة ومكلفة، خصوصا مشكلة السفن الحربية الغارقة التي يجب إخراجها.
يبقى ميناء بوصاصو في شمال شرق الصومال نموذجا حيا لمدن الموانئ التي تساهم في الاستقلال الاقتصادي لسكانها، حيث ألقى الاستقلال الاقتصادي بظلاله على محاولات ولاية بونتلاند تعزيز حكمها الذاتي بعيدا عن الدولة الفيدرالية في مقديشو. تأسس الميناء بموجب تسوية سياسية قام بها الرئيس محمد سياد بري في نهاية ثمانينيات القرن العشرين لاسترضاء زعماء عشائر الإقليم من أجل إلحاق الأذى بالانفصاليين في صوماليلاند.
كان بوصاصو الميناء الآمن الوحيد نسبيا في التسعينيات، وأصبحت مركزا تجاريا رئيسا لصادرات الماشية وواردات السلع الاستهلاكية. اصطدمت محاولات الولاية تطوير مينائها في العقد الأخير بعقبات كثيرة؛ ابتداءً من انتقاد السكان ما اعتقدوه بيعا للميناء إلى جهات أجنبية، مرورا بالخلافات بين زعماء الولاية، وتخوف رجال الأعمال من تأثير ارتفاع رسوم الموانئ سلبا على التجارة المحلية، وانتهاءً بمقتل مدير الميناء على يد مسلحين متمردين، الأمر الذي أدى إلى انسحاب شركة P&O Ports المشغلة للميناء عام 2019. كما أن التحول المستمر في سلاسل التوريد العالمية، والاعتماد المتزايد على الرافعات والحاويات في حركة المرور تسبب بعزل بوصاصو عن شبكات التجارة المهمة. على سبيل المثال؛ تستورد الموانئ التي تعمل بالحاويات البضائع مباشرة من الدول المنتجة مثل الصين، في حين تعتمد بوصاصو على إعادة الشحن عبر الموانئ الوسيطة في اليمن أو سلطنة عمان وغيرهما.
يتمتع ميناء بربرة في صوماليلاند بتاريخ طويل يعود إلى العصور القديمة حين كان بمثابة مركز تجاري مهم على ساحل البحر الأحمر. ويشهد اليوم انتعاشا نتيجة عدة عوامل، في مقدمتها موقعه الجغرافي؛ حيث يتواجد على مفترق طرق الشحن الرئيسة، ويمثل محطة وقوف مناسبة للسفن، مما يقلل من أوقات العبور والتكاليف للشركات، كما أدت تدابير التوسع والتحديث الأخيرة في الميناء إلى زيادة قدرته، وكفاءته بشكل كبير.
لعبت شركة موانئ دبي العالمية في الإمارات العربية المتحدة دورا فعالا في تطور الميناء، حيث استثمرت في البنية التحتية والمعدات والتكنولوجيا. ولم يقتصر الأمر على زيادة الطاقة الاستيعابية للميناء فحسب، بل أدى أيضا إلى تحسين الموثوقية العامة وسرعة العمليات. ونتيجة لذلك؛ أصبح ميناء بربرة خيارا جذابا لشركات الشحن والتجار الدوليين.
تنتهي حكاية الموانئ الصومالية الرئيسة بميناء مقديشو، درة تاج الموانئ الصومالية الذي كان أهم ميناء في شرق إفريقيا. كان الميناء يُسمَّى "سرابيون" قبل مجيء الإيطاليين الذين طوروه وحولوه إلى ميناء حديث لا يقتصر نشاطه على نقل البضائع فقط، بل اشتمل على خط بحري دولي للركاب المسافرين إلى إريتريا وإيطاليا. حاولت الحكومة الفيدرالية بعد الحرب الأهلية تجديده وإعادة تشغيله عبر الاستعانة بالخبراء الصينيين، وبعض الشركات في الإمارات وكينيا. ويبقى أكبر عقد لتشغيل الميناء من نصيب الشركات التركية التي أنجزت القسم الأكبر من مشاريع تحديث الميناء وأرصفته وتجهيزه، حيث بات بمقدوره استيعاب ناقلات تصل حمولتها إلى 30000 طن.
تُعتبر الموانئ عنصرا مهما في التفكير الاستراتيجي لأية دولة تحاول تعزيز أجندتها الاقتصادية والعسكرية فيما يتعلق بأفعال الدول الأخرى، وفي لحظة التحول الجيوسياسي، قد تعزز الدولة مصالحها وتكتسب القوة من خلال بناء الموانئ والسيطرة عليها. يقترح بعض الباحثين خمسة معايير لقياس قوة الموانئ، وهي: تدفق التجارة العالمية عبر هذه الموانئ، والانتماء الوطني لشركات تشغيل الموانئ، والاستثمار الحكومي في هذه الموانئ، وعولمة مدن الموانئ، وتطور شبكات النقل البحري.
يُقاس معيار مدى تدفق التجارة العالمية عن طريق عدد الحاويات أو السفن التي يتسع لها الميناء، ما يوضح قدرة الدولة على الهيمنة أو التأثير بشكل كبير على التجارة البحرية. لكن ازدحام موانئ دولة ما بالحاويات والسفن لا يعني بالضرورة قدرتها على التحكم بالجغرافيا المستقبلية للموانئ والشبكات البحرية، فهذا الأمر خاضع لمدى قوة وطبيعة شركات تشغيل الموانئ التي تبدو ارتباطاتها بالدول متفاوتة على مستويات مختلفة.
يُقاس معيار الانتماء الوطني لشركات تشغيل الموانئ بالنظر إلى هوية ملاكها الكبار، وبالنظر - مثلا - إلى مجموعة PSA السنغافورية (أكبر مشغل للموانئ في العالم والتي لا تمتلكها حكومة سنغافورة)، وشركة Cosco Shipping الصينية، وشركة EPM الدنماركية، وشركة CS Ports Mediterranean في اليونان وغيرها من شركات تشغيل الموانئ الضخمة؛ فمن الملاحظ أنه يصعب اعتبارها جهات فاعلة على الصعيد الجيوسياسي، لأنها لا تحظى دائما برعاية الدولة، وتنبع قيمتها من قوة أسهمها، وهذا يقودنا إلى التفكير في الدور الذي يلعبه الاستثمار الحكومي في هذه الموانئ.
يبدو معيار الاستثمار الحكومي في الموانئ مقياسا موضوعيا لإبراز أبعاد الهيمنة الجيوسياسية في التنافس الدولي. إذا كانت الرغبة في السيطرة على حركة التجارة البحرية تفسر مشاريع ظاهرة الاستعمار قديما، فإن الرغبة في الاستحواذ على سلاسل القيمة تفسر مشاريع تمويل البنية التحتية للموانئ عبر القارات. هنا يمكن الحديث عن ملامح حرب باردة جديدة تنخرط فيها الصين وأمريكا من خلال شركاتهما الرائدة في مجال تشغيل الموانئ، وقد استثمرت الصين بشكل كبير في مشاريع البنية التحتية في موانئ آسيا وإفريقيا والأمريكيتين في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تهدف ظاهريا إلى تحسين الاتصال الدولي من خلال التعاون مع الدول الشريكة، ولكنها في الحقيقة تخدم أهدافا جيواستراتيجية لتعزيز القوة الوطنية.
في عام 2006 اقترح مشغل الموانئ التابع لدولة الإمارات العربية المتحدة - موانئ دبي العالمية - الاستثمار في محطة بحرية في أمريكا الشمالية وخمسة موانئ أمريكية، لكن الكونغرس الأمريكي منع الصفقة بسبب المخاوف بشأن الاستثمار الأجنبي في الموانئ الأمريكية، وسحبت موانئ دبي العالمية عرضها. كما استثمرت موانئ دبي العالمية بكثافة في موانئ في القارة الإفريقية، وكذلك فعلت الشركات القطرية والتركية.
عكست هذه الإجراءات توازن القوى المتغير في الشرق الأوسط، فالاستثمار في الموانئ هو أحد جوانب قوة الموانئ التي تلفت انتباهنا إلى تأثيرها البالغ في التجارة، وهنا تظهر أهمية الإشارة إلى دور العاملين الأخيرين - الطابع المعولم الكوزموبوليتي للمدينة التي يتواجد فيها الميناء، ومدى تطور شبكات النقل البحري - في التأثير على مسار التغيير الجيوسياسي العالمي.
يُلاحظ أن المدن التي بها أكبر الموانئ ليست فقط أكبر المدن داخل دولها، بل هي أيضًا أكبر المدن العالمية، من بين 148 دولة متصلة بالبحار والمحيطات؛ يوجد 93 دولة حواضرها الكبرى هي مدن موانئ التي تعمل كحلقات وصل رئيسة من حيث التجارة المحلية والدولية وحركة رأس المال والعمالة. مدينة الميناء هي أحد أشكال النطاق الحضري الذي يعمل كعقدة محلية داخل دوائر منظمة عالميا لتراكم رأس المال، في حين يتكون النطاق العالمي بدوره عبر شبكات من المدن المترابطة والمناطق الحضرية ومدن الموانئ. إن جغرافيا الموانئ المتغيرة هي شكل من أشكال النشاط الذي يعكس التحول الجيوسياسي العالمي، وتطوير الموانئ هو عامل مهم في طبيعة هذا التحول الذي يصعب استيعابه دون الالتفات إلى دور شبكات النقل البحري.
تاريخيا؛ كانت القوى العالمية العظمى قوى بحرية كبرى، والنقل البحري ليس مجرد أداة مساعدة للتجارة، بل إنه العنصرالأساسي في بنية الرأسمالية العالمية التي تركز على الموانئ. يتطلب إبراز القوة البحرية بناء شبكة نقل بحري من الموانئ، التي تعمل كنقاط التقاء للسفن البحرية وخدمتها، وكذلك كمحطات نقل للتجارة من البحر إلى اليابسة.
لذا تعتبر شبكات النقل البحري أهم ركائز قوة الموانئ، وقد ظهر ذلك جليا في تفوق منطقة شرق آسيا التي تتواجد فيها سبع شبكات نقل بحري من أصل عشر شبكات هي الأضخم في العالم، وللصين فيها نصيب الأسد، بشكل يؤكد أنها القوة السياسية العالمية المهيمنة على حركة التجارة البحرية.
إننا نعيش فترة انتقال جيوسياسي حيث تحاول الدول القوية تحسين وضعها مقارنة بالدول الأخرى، وتلعب الموانئ دورا مهما في هذه المنافسة الجيوسياسية، لأنها تسهل توسيع الامتداد الاقتصادي والاستراتيجي عبر المحيطات والقارات، وقد يؤدي بناء الموانئ وشبكات النقل البحري إلى تغيير جذري في التوزيع الجغرافي للقوة في النظام الدولي. إن الدولة التي تعد القوة المهيمنة في الموانئ، باستخدام المقاييس الخمسة التي تحدثنا عنها، لديها أكبر الإمكانات لدفع التحول الجيوسياسي الحالي، والمساهمة في تشكيل النظام العالمي المقبل.
تعتبر الصين الفاعل الرئيس في معظم هذه المقاييس الخمسة، وتعتبر كذلك فاعلا مهيمناً بمقياس مدن الموانئ كمدن عالمية. وبالتالي، فإن الموانئ هي الوسيلة والغاية التي تجعل الصين مرشحا مثاليا لتغيير المشهد الجيوسياسي.
بالنظر إلى الأداء الحالي للموانئ الصومالية؛ فإننا نلاحظ وجود فجوة بين الميزات التي تتولد من مواقعها الاستراتيجية، بوصفها حلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا، بصورة تمكنها من لعب دور مهم في تحسين كفاءة سلاسل التوريد، وتعزيز الاتصال الدولي بشكل يمنحها القدرة على تغيير المشهد الاقتصادي للمنطقة، وبين تجهيزاتها وكفاءتها الحالية. وهذا يظهر في تصنيف هذه الموانئ في تقرير مؤشر أداء موانئ الحاويات CPPI الصادر من البنك الدولي عام 2023، حيث لا وجود سوى لميناء بربرة وميناء مقديشو - ترتيبهما في المؤشر106 و 166 على التوالي. بينما جاء ترتيب ميناء صلالة في المرتبة رقم 2، وهي تقع في سلطنة عمان التي تعتبر دولة قريبة من الصومال، وتملك نفس الميزات من حيث الموقع الاستراتيجي.
الموانئ الصومالية تصلح بلا جدال كمعابر وبوابات رئيسة للتجارة والتبادل الدولي، فضلا عن كونها بوابة إلى البلدان غير الساحلية في القرن الإفريقي، مثل: إثيوبيا وجنوب السودان. لكنها لم تستطع حتى الآن الارتقاء بأدائها إلى المستوى الذي يؤهلها لتوفير مسار بديل لشحن البضائع بشكل يقلل الاعتماد على طرق التجارة التقليدية وتنويع خيارات النقل، وهذا عائد إلى حالة انعدام الاستقرار السياسي والاقتتال الداخلي، ونموذج الدولة الفاشلة التي لا تعرف كيف تستثمر إمكاناتها ولو كانت كنزا استراتيجيا، مثل مدن الموانئ على السواحل الصومالية.
إن إمكانية قوة الموانئ في دفع التحولات الجيوسياسية تعني أن العديد من الدول - وليس فقط الدول الأكثر قوة و/أو الساحلية - ستضع الموانئ في مرمى أهدافها الجيوسياسية الكبرى، واستخدام الصين لقوة الموانئ من شأنه أن يدفع الدول الأخرى إلى النظر في استراتيجيات توازن القوى التي ستركز أيضا على الموانئ.
لذا يمكن القول بأن أفضل خيار للحكومة الصومالية هو التفكير في تحالف استراتيجي قصيرالأمد مع الصين، تقوم بموجبه حكومة بكين بالاستثمار في موانئ الصومال وتشغيلها وإدارتها لفترة زمنية يتم الاتفاق عليها، وتحديد كيفية تقسيم أرباحها بين الطرفين، وبعدها يتم توطين عمليات تشغيل هذه الموانئ تدريجيا، بعد انقضاء زمن الاتفاق، وبعد ظهور مؤشرات تؤكد قدرة الصوماليين على إدارة هذه الموانئ بطريقة فعالة.
من الوارد أن تضغط الدول غير الساحلية بشكل متزايد من أجل حق الوصول إلى الموانئ الساحلية، من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الساحلية المجاورة. ويمكن ملاحظة ذلك في مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا لتوفير منفذ بحري على ساحل البحر الأحمر، والزوبعة التي أثارتها بخصوص تأثيرها على سيادة الصومال. ومؤخرا عرضت جيبوتي مقترحا جديدا لتخفيف التوتر، يتضمن السماح لإثيوبيا بإدارة ميناء يقع على ساحل تاجورا بشكل حصري.
كل ما سبق يجعلنا نفترض عددا من المبادرات - في حال تمَّ الأخذ بعين الاعتبار التحول الجيوسياسي الذي تقوده الصين - من قبيل دعم الدولة الصومالية لمشغلي الموانئ على المستوى الوطني، وجذب الاستثمار الأجنبي من مشغلي الموانئ الأجانب. وقد يؤدي التركيز على الموانئ كمراكز جيوسياسية إلى نتائج، مثل: خلق الرخاء الاقتصادي والتنمية المستدامة للموانئ التي قد يكون لها تأثير على الجغرافيات الاقتصادية الإقليمية داخل الدولة.
والسؤال البارز هنا هو: إلى أي مدى يمكن عسكرة الموانئ في شبكات النقل البحري في الصومال، بحيث تعمل كنقاط وصول للسيطرة العسكرية والمنافسة الدولية والإقليمية، وما هو حجم الضرر الذي سيتسبب به ذلك لاستقرار الصومال؟ إن قوة الموانئ ستكون ذات تأثير نوعي في تعريف النظام العالمي الجيوسياسي الجديد، وسواء كانت البضائع التجارية أو الأسلحة والقوات العسكرية هي التي تنتقل عبرها، فذلك سؤال مُلحٌّ ووثيق الصلة.