تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

المثقف الماركسي سمير أمين

11 مارس, 2025
الصورة
Samir Amin
Samir Amin (Photo by Anshuman Poyrekar/Hindustan Times via Getty Images) illustration by Geeska
Share

تم تعيين محمود ممداني، في يونيو/حزيران 2010، مديرًا لمعهد مكريري للبحوث الاجتماعية في العاصمة الأوغندية كمبالا، والذي طوره منذ ذلك الوقت حتى أصبح المركز الرئيس للتعليم ما بعد الجامعي في العلوم الاجتماعية والإنسانيات في القارة. ألقى ممداني، خلال الاجتماع السنوي لجمعية الدراسات الأفريقية في أتلانتا بولاية جورجيا الأمريكية، محاضرة هورمود في الفاتح ديسمبر/ كانون الأول 2018. كان موضوع المحاضرة "القضاء على الاستعمار والتعليم العالي: تجربة معهد مكريري للبحوث الاجتماعية". وقد ظهرت أجزاء من محاضرة ممداني –حول تاريخ السجالات الفكرية بخصوص طبيعة الجامعة الأفريقية- في هذا المقال المنشور بمجلة "London Review of Books".

يمكن اعتبار المفكر المصري الراحل سمير أمين (توفي في 12 أغسطس/ آب 2018) أهم المؤثرين في مهمة ممداني في معهد مكريري. وبعد سماع ممداني مستدعيًا ذكرى أمين، اقترح عليه ناشر موقع أفريقيا دولة واحدة، تسجيل هذه الانطباعات. ارتئ جيسكا نشر هذا القسم من ملاحظاته حول سمير أمين، وأنجز الفريق ترجمة المقالة للعربية نظرا لأهميتها في تكريم الراحل سمير أمين.

نص المقال

كان مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا "كودسريا" (CODESRIA) من مصادر الإلهام الأخرى لبرنامج ما بعد الدكتوراه في معهد مكريري. وقد تأسس المجلس عام 1973، الذي كان سمير أمين أول مدير له. توفي سمير في أغسطس/ آب 2018، لكن المناقشات استمرت عن حياته وعمله في دوائر كودسريا. في المقابل، لم تكن ثمة مناقشات مماثلة، حسب علمي، يمكنني ملاحظتها في جمعية الدراسات الأفريقية. وأعتقد أن السبب يشير إلى اختلاف هام بين الأخيرة وكودسريا. وهنا سأقدم أفكارًا قليلة حول ذلك الأمر، لأنني كنت عضوًا نشيطًا في كودسريا منذ عام 1975، ولأن كودسريا كانت مؤثرا هامًا في معهد مكريري، فإنني أود قول بعض الكلمات القليلة تقديرًا لمؤسس كودسريا، سمير أمين. وسأركز على عمله الفكري.

كانت أطروحة دكتوراه سمير أمين، المعنونة "التراكم الرأسمالي على النطاق العالمي" (في جزأين)، قد كتبت بشمول واضح. وقدمت أجندة موجزة طموحة، وهي الأجندة التي قضى سمير حياة كاملة في استكمالها وتحقيقها. كان إنتاج سمير العلمي خصبًا بشكل هائل. ومن بين كل كتاباته، كان ثمة موضوعين واصلا التحدي الذي تمت صياغته في أطروحته للدكتوراه: أولهما المركزية الأوروبية، وثانيهما التنمية غير المتكافئة.

رغم قناعة سمير بأن كتابته قائمة على الماركسية، فإنه بات معروفًا بشكل أكبر بأعماله عن نظرية التبعية. وقد عرَّف سمير جيلًا كاملًا من العلماء الشباب، وكنت أحدهم، على التفكير في التخلف بمنطق تاريخي

لقد قمت بتدريس كتاب المركزية الأوروبية عشرات المرات على الأقل في العقدين الماضيين. وفي كل مرة تنتابني دهشة من دقة الفهم التاريخي العالمي الذي أظهره المؤلف، فسمير كان رجل تاريخيا لا يمكننا تقييده بمكان محدد، والأماكن التي ترد على الذهن غالبًا هي القاهرة وداكار وباريس. ورغم تنقل سمير فيما بينها فقد كان هدفًا متنقلًا، ورجل دون مستقر ثابت. تذكر حياته بماركس، إذ كان رجلا دون موطن، لكن كان موطنه التزام طوعي بمشروع تاريخي. ومثل ماركس، كان سمير رجل ينتمي لزمن ثابت، العصر الحديث.

أتذكر كم توقفت أمام نقد سمير "للاستشراق"؛ عمل إدوارد سعيد الهام سياسيًا. وقد استهدف سمير ما اعتبره نقدًا عبر- تاريخي "trans-historical critique". وأكد أنه بدلًا من تزويدنا بخطاب غير تاريخي حول الثقافة الغربية، كما لو أنها غير خاضعة لزمن تاريخي واضح، فإن كان لزامًا على إدوارد سعيد أن يقدم لنا نقدًا للخطاب الغربي الحديث حول الشرق. وأوقن أن سمير هو أول من صاغ مثل هذا النقد (لإدوارد سعيد)، والذي كرره آخرون كثر مرارًا وتكرارًا بعد ذلك.

رغم قناعة سمير بأن كتابته قائمة على الماركسية، فإنه بات معروفًا بشكل أكبر بأعماله عن نظرية التبعية. وقد عرَّف سمير جيلًا كاملًا من العلماء الشباب، وكنت أحدهم، على التفكير في التخلف بمنطق تاريخي. وفي رأيي، يُعد مؤلفه "التنمية غير المتكافئة"، والمجلد المرافق له "فك الارتباط"، من أهم الأعمال الآسرة. ويقدم أحدهما رصدًا تاريخيًا للحاضر، فيما يمضي الآخر في رؤية تقدمية للأمام.

لم يحاول ماركس على الإطلاق تكرار كتاباته، لأن اختبار النظرية يكمن في الممارسة فحسب. وإنني لأتذكر سمير وهو يخبرنا عندما تلقى مكالمة من توماس سانكارا طالبًا منه السفر على وجه السرعة إلى بوركينا فاسو لمناقشة أحد التحديات، وعند وصوله أخبره سانكارا: "لقد أخبرتنا أنه علينا استجماع الشجاعة لفك الارتباط. وقبل تمكننا من ذلك أقدم الفرنسيون على المبادرة وفكوا ارتباطهم معنا".

أعتقد أن القصة تشير إلى قضية أكبر. وتبدو الادعاءات الموضوعية بالبنيوية أقل إقناعًا عند إخضاعها لوجهة نظر تاريخية. وتبدأ الخصوصية التاريخية بتمييز حالة عن حالة أخرى. ورغم أنه لم تتح لي فرصة ما لمناقشة ذلك مع سمير، فإنني أعتقد أن تاريخ العقود القليلة الفائتة يثير سؤالًا محوريًا بالنسبة لنظرية التبعية، وخلاصتها بأنه لا يمكن ألا تكون ثمة "تنمية" في سياق عالم يخضع للهيمنة الإمبريالية. وما الذي ينبئنا به ظهور الصين كتحدٍ اقتصادي جديد للقوة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، بخصوص مقولات نظرية التبعية؟ وماذا عن صعود قوى أخرين مثل: الهند والبرازيل، وكلها ذات ماضٍ استعماري ودون ماضٍ اشتراكي؟ 

تصدر الجدل إزاء التوجه النظري الغالب لكودسريا نحو الاقتصاد السياسي والتفضيلات السياسية لنموذج النمو بقيادة الدولة، أجندة الجمعية العامة عام 1984. وقاد ذلك إلى صدور مبادرة جديدة لتكوين مجموعة بحثية متعددة الجنسيات حول الحركات الاجتماعية والديمقراطية.

أراد رؤية واضحة للعدو، وخيارا واضحا بين البدائل. لكن الربيع العربي لم تكن لديه مثل هذه البدائل السهلة. وكان الخيار الذي فرضه بين علمانية يقودها الجيش وديمقراطية نيابية تقودها جماعة الإخوان المسلمون. وقاد السعي أحادي التفكير إلى انقلاب عسكري

لقد سار سمير "على ساقين سليمتين"، بتعبير ماوتسي تونغ، وانتقل باستمرار بين النظرية والتطبيق والعكس. وكان عالم الاقتصاد السياسي بداخله مشغولًا دومًا بمهمة انخراطه المستمر في سياسة الحياة الواقعية. واعتقد أن أصعب لحظاته جاءت مع الربيع العربي في مصر، فقد اختلفنا حول الإسلام السياسي مرات عديدة. وكانت الأولى قبل عقود خلت في مجموعة عمل كودسريا حول قضية النوع. وأتذكر أن سمير كان معارضًا بحسم وبشكل كامل للإسلام السياسي بكافة أطيافه. وقد قدم أسبابه، وهي: أن الإسلام السياسي قمعي من الجانب الاجتماعي إزاء قضية النوع، وأن فكره الاقتصادي المتسق مع أفكار السوق لا يتجاوز حد أفكار الزكاة والصدقات. وتجدد الجدل عام 1991 خلال انعقاد ندوة الحرية الأكاديمية في كمبالا، لكنه كان هذه المرة جدل حول الديمقراطية. ماذا كان فكرنا عن القرن الماضي من العلمانية التي فرضتها الدولة مقابل حقيقة الاحتشاد الإثني والديني في المجتمع؟

كان سمير صاحب عقلية واحدة، وصاحب قناعات وتركيز وتصميم. أراد رؤية واضحة للعدو، وخيارا واضحا بين البدائل. لكن الربيع العربي لم تكن لديه مثل هذه البدائل السهلة. وكان الخيار الذي فرضه بين علمانية يقودها الجيش وديمقراطية نيابية تقودها جماعة الإخوان المسلمون. وقاد السعي أحادي التفكير إلى انقلاب عسكري. واحتدم الجدل الذي كان مسببًا لشقاق داخل كودسريا لأكثر من ربع قرن، مرة أخرى في جمعيتها العامة الأخيرة.

كان سمير مفكرًا ومثقفًا عامًا. وكان الأب المؤسس لكودسريا مصممًا على وجوب ألا تصبح مجرد مجموعة من الأفراد أو الفرق الصغيرة من الباحثين المعتمدة على التمويل، والذين يتم تزويدهم بالمياه، كما حال النباتات المتفرقة في الصوب الزراعية

ينقسم التيار الإسلامي اليوم بين توجهين رئيسيين: وكلاهما رجعي اجتماعيًا، وموجه للسوق الحر اقتصاديًا. والاختلاف بينهما خلاف سياسي: يدعو أحد التوجهين، والذي تتبناه (في الوقت نفسه) داعش والقاعدة، ويحظى بدعم من السعودية والإمارات وتواطؤ أمريكي كامل، إلى نضال مسلح من أعلى لأسفل. ويرتاد التوجه الآخر طريقًا برلمانيًا. ويعكس هذا التوجه، الذي يميل أكثر لمقاربة من القاعدة للقمة، التجربة التاريخية الفعلية لتركيا وإيران. وتصبح الرهانات أوضح مع ثبوت العواقب الشاملة للتعبئة الوهابية بقيادة السعودية ضد الإخوان المسلمين.

لقد كان سمير مفكرًا ومثقفًا عامًا. وكان الأب المؤسس لكودسريا مصممًا على وجوب ألا تصبح مجرد مجموعة من الأفراد أو الفرق الصغيرة من الباحثين المعتمدة على التمويل، والذين يتم تزويدهم بالمياه، كما حال النباتات المتفرقة في الصوب الزراعية. وكان مقتنعًا بوجوب أن تظل كودسريا مفتوحة على الضجيج والغضب، الرياح والمطر، العاصفة والبرق. كما يجب أن توفر، فوق كل ذلك، موضعًا لمناقشة قضايا محورية في مستقبل الشعوب الأفريقية. وفي ظل غياب برلمان أفريقي حقيقي، يجب أن تقوم كودسريا بهذا الدور.

على نقيض ذلك، فإن جمعية الدراسات الأفريقية جهة متخصصة، كرست نشاطها في المقام الأول لبناء كوادر ومراقبة حقل "الدراسات الأفريقية" في الولايات المتحدة. وباعتبارها بيت للمثقفين في أفريقيا ومنتديًا علميًا، فإن كودسريا لا تقصر مناقشاتها على أفريقيا. وفي الجمعية العامة لكودسريا لا يحظر مناقشة شؤون أي جزء في العالم. وبدلًا من التركيز على مكان يسمى أفريقيا، فإن النقاش يكون موضوعاتي ومركزًا على القضايا، ويجذب خبرات من مختلف أرجاء العالم.

كلمة أخيرة عن سمير أمين. لقد جاء سمير من عهد فكري خلال عهد النضال لنيل الاستقلال، وكان ذلك زمن فهمنا فيه الاستقلال، وفق مبادئ سيادة الدولة، وتخليص الاقتصاد من الاستعمار. لكن النجاح على امتداد هذا الدرب فرض تحديات جديدة: من أهمها العنف المتطرف. ما يدعونا إلى التفكير في الجانب الداخلي لسيادة الدولة، لكن دون التخلي عن مكاسب الاستقلال. ويدعونا هذا التحدي أيضا لتوسيع فهمنا للحداثة السياسية وتعميقه، وللتفكير نقديًا في فكرة السيادة في قلب هذه الحداثة- عن كنا بصدد تطوير فهم أغنى وأعمق للتخلص من الاستعمار.