تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

المساعدات الإنسانية كمسألة سياسية في حرب السودان

14 أكتوبر, 2025
الصورة
المساعدات الإنسانية كمسألة سياسية في حرب السودان
Share

يعرّف تسييس المساعدات الإنسانية بتحويلها من أداة محايدة لتخفيف المعاناة إلى أداة لتحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية. في سياقات النزاع المعقدة مثل السودان، يتجاوز هذا الاستخدام مجرد الضغط ليصبح شكلاً من أشكال عسكرة المساعدات، والمقصود بالعسكرة هو الاستخدام المتعمد للحرمان من الغذاء والخدمات الأساسية كسلاح حرب ضد السكان المدنيين. هذا المنهج يشكل انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني، حيث يندرج الحرمان المتعمد ضمن جرائم الحرب إذا كان الهدف منه التسبب في ظروف معيشية قاسية أو التهجير القسري.

تتركز دوافع التسييس في البيئة السودانية حول هدفين رئيسيين: الأول هو السيطرة على المسارات الإغاثية وتوزيعها لضمان ولاء القواعد الشعبية في مناطق سيطرة القوى العسكرية التي تبسط نفوذها على منطقة معينة، وبالتالي تعزيز شرعية تلك الفصائل. أما الهدف الثاني فهو استخدام الحرمان المتعمد وسيلة لـ "التجويع كعقاب" ضد قواعد الخصم أو المناطق التي يُشتبه في دعمها للأطراف المعادية.

أزمات وحروب السودان

شهد السودان تاريخاً طويلاً من الصراعات الممتدة منذ استقلاله عام 1956، وشملت هذه الصراعات حرب الجنوب (التي امتدت على فترين 1972-1955 و 2005-1983)، وحرب دارفور التي بدأت عام 2003، وأخيراً الصراعالحالي الذي اندلع منذ ربيع عام 2023.

ساهمت البنية الهشةللدولة، وضعف المؤسسات المركزية، والتركيز الجغرافي للإنتاج الزراعي في مناطق الصراع، في جعل البلاد تعتمد بشكل كبير على الإغاثة الخارجية عند اندلاع أي حرب. عندما تضرب النزاعات مناطق الإنتاج الرئيسية، ينهار الإنتاج الزراعي، وتتوقف سلاسل الإمداد، مما يؤدي إلى نقص حاد في الغذاء، وهو ما يضاعف من الأهمية السياسية والاستراتيجية للأطراف المتحكمة في المساعدات. علاوة على ذلك، أدت الحروب المتكررة إلى أكبر أزمات نزوح في العالم، حيث أضحى ملايين الأشخاص نازحين داخلياً أو لاجئين، مما يجعل قضية الوصول الإنساني قضية سياسية بامتياز.

إن الصراع الحالي حول المسارات ليس جديداً، بل هو تكرار للمواجهة بين مبدأ السيادة الوطنية ومفهوم السيادة الإنسانية الذي بدأ مع OLS

إن الأزمة الإنسانية الراهنة ليست حدثاً ظرفياً، بل هي نتاج نمط متكرر في تاريخ الصراعات السودانية. إن تكرار هذا النمط في حرب الجنوب ودارفور وعام 2023، يشير إلى أن تسييس المساعدات ليس مجرد تكتيك عسكري طارئ، بقدر ما يمثل استراتيجية صراع راسخة في الحروب السودانية، بل واستراتيجية عسكرية، اتبعتها بعض الأطراف ضد الحكومات المركزية، بجانب الضغط السياسي من أجل الحصول على شرعية دولية. تعامل الأطراف المتحاربة مع الإغاثة الإنسانية على أنها ميزانية تشغيلية أو ورقة ضغط أساسية في الحرب، يضمن أن أي استجابة دولية لا تأخذ هذا التكرار الهيكلي في الحسبان ستفشل في الحد من التسييس.

المساعدات كأداة تفاوض واعتراف إقليمي

تُعد عملية شريان الحياة (Operation Lifeline Sudan - OLS) التي بدأت عام 1989، سابقة مهمة في استخدام الإغاثة في سياق سياسي معقد. فقد نشأت OLS كآلية ضرورية لتوصيل المساعدات عبر خطوط القتال، لإنقاذ ما يقدر بنحو 2.5 مليون شخص كانوا يواجهون المجاعة في جنوب السودان آنذاك.

على الرغم من الجهود المبذولة لضمان تطبيق المبادئ الإنسانية (النزاهة والحياد)، عملت OLS تحت ضغط سياسي هائل، حيث اعتمد البرنامج على موافقة كل من الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) على مسارات محددة. وكان القبول الدولي للعملية بمثابة اعتراف ضمني من قبل حكومة الخرطوم بـ"واقع" سيطرة الحركة الشعبية على مساحات جغرافية واسعة، تتطلب الوصول الإنساني المباشر. وبالتالي، تحول تسهيل الوصول إلى ورقة تفاوض اعترافية.

استغلت الحركة الشعبية لتحرير السودان بذكاء القدرة على تأمين وصول المساعدات لقواعدها كدليل على سيطرتها وقدرتها على رعاية السكان . أُطلق على إنزال المساعدات الجوية، التي كانت جزءاً من جهود برنامج الغذاء العالمي واليونيسف و35 منظمة غير حكومية ، اسم رمزي داخلي "الأمطار الغزيرة" . هذا التسمية تعكس كيف حولت الحركة الشعبية الدعم الخارجي إلى وظيفة شبيهة بوظائف الدولة، مما منحها شرعية في نظر السكان المتضررين وساهم في تقويض شرعية الحكومة المركزية في توفير الدعم الاجتماعي.

تسييس المساعدات ليس مجرد تكتيك عسكري طارئ، بقدر ما يمثل استراتيجية صراع راسخة في الحروب السودانية، بل واستراتيجية عسكرية، اتبعتها بعض الأطراف ضد الحكومات المركزية

استمرت الحركة الشعبية في الضغط لضمان عبور المساعدات من دول الجوار مثل: إثيوبيا أو كينيا بدلاً من الخرطوم. لم يكن هذا الإصرار خياراً لوجستياً بحتاً، بل كان تحدياً صريحاً لسيادة الحكومة المركزية، واعترافاً دولياً ضمنياً باستقلالية الحركة في التحكم بـ "موانئها الإنسانية".

لقد أوجد نموذج OLS سابقة خطيرة للسلطة المركزية؛ إمكانية أن تفتح الضرورة الإنسانية مسارات إغاثية لا تخضع لسيطرة الخرطوم. وهذا النمط هو الأساس الذي تستند إليه المطالبات الحالية (في حرب 2023) بفرض مسارات عبور حدودية من دول الجوار دون موافقة الخرطوم. لذا، فإن الصراع الحالي حول المسارات ليس جديداً، بل هو تكرار للمواجهة بين مبدأ السيادة الوطنية ومفهوم السيادة الإنسانية الذي بدأ مع OLS.

حرب 2023: أزمة المجاعة وتفاقم التسييس

تسبب حرب2023 في تدمير ممنهج للبنية التحتية الاقتصادية والزراعية، مما دفع السودان إلى الاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية. وقد أدى القتال المندلع في أبريل/نيسان 2023 إلى توقف شبه كامل للنشاط الزراعي في مناطق الإنتاج الرئيسية.

كان التأثير الأعمق على انهيار سوقالمدخلاتالزراعية؛ حيث تم نهب أصول الشركات الكبرى وسرقة مخزونها بالكامل، مما أدى إلى خروج عدد كبير من الشركات من السوق، وتوقف عجلة الزراعة. نتيجة لذلك، تضاعفت أسعار المدخلات الزراعية (والأسمدة والمبيدات) بنسبة تتراوح بين 300٪ إلى 400٪. كما أصبحت تكلفة الري باهظة بسبب ارتفاع سعر الديزل، ما أجبر صغار المزارعين على تقليص المساحات المزروعة بشكل كبير؛ فعلى سبيلالمثال، اضطر مزارع في نيالا لتقليص مساحته المزروعة من 15 فداناً إلى 3 فقط.

هذا الانهيار لا يؤدي فقط إلى المجاعة الفورية، ولكنه يضمن استمرارية المجاعة لسنوات قادمة، مما يجعل الطرف الذي يسيطر على المساعدات يتحكم عملياً بالبقاء الاقتصادي للسكان على المدى الطويل. إن هذا الواقع رفع من القيمة الاستراتيجية لورقة المساعدات إلى مستويات أعلى بكثير مما كانت عليه قبل الحرب.

أزمة النزوح والمجاعة

أدت الحرب إلى أكبر وأسرع أزمة نزوح في العالم، متجاوزة حتى ذروة النزوح في سوريا. فقد نزح أكثر من 12 مليون شخص، منهم أكثر من 7,6مليون نازح داخلي، مما ترك 30.4 مليون شخص -أي أكثر من نصف سكان السودان- في حاجة ماسة للدعم الإنساني.

مع استمرار تدهور الأمن الغذائي، أكدت لجنة مراجعة المجاعة التابعة للتصنيف المتكامل لمراحل الزمن الغذائي (IPC) وجود المجاعة (IPC المرحلة 5) في مناطق مثل معسكر زمزم في شمال دارفور منذ يوليو 2024. وبين ديسمبر 2024 ومايو 2025، من توسعت المجاعة لتشمل 5 مناطق إضافية، بما في ذلك أم كدادة، مليط، والفاشر، مع الخطر الجسيم الذي وصل إلى 17 منطقة أخرى. إن هذا الوضع يثبت أن المجاعة ليست حالة طبيعية، بل هي نتيجة مباشرة لعرقلة الوصول المتعمدة، مما يجعل التجويع استراتيجية صراع متوسعة ومستدامة.

إن الأزمة الإنسانية الراهنة ليست حدثاً ظرفياً، بل هي نتاج نمط متكرر في تاريخ الصراعات السودانية

كانت المسألة الإنسانية هي البوابة السياسية الوحيدة الممكنة لبدء المفاوضات بين الجيش وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى التوقيع على "إعلانجدةللالتزامبحمايةالمدنيين" في مايو/ آيار 2023، ركز الإعلان على الالتزام بحماية المدنيين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية الطارئة كهدف رئيسي لوقف إطلاق النار.

مع ذلك، أظهرت الانتهاكات المتكررة للهدنات والعرقلة المتعمدة لوصول المساعدات من قبل قوات الدعم السريع أنه استخدم التوقيع على الاتفاق غطاء سياسيا مؤقتا، بدلاً من كونه التزاماً فعلياً بالقانون الدولي الإنساني. هذا يدل على أن مبدأ الالتزام التلقائي بالقانون الدولي الإنساني ضعيف في هذا الصراع، ويؤكد أن الدعم السريع لا تخشى عقوبات دولية فورية وفعالة.

تُتهم قوات الدعم السريع بعرقلة القوافل، ونهب المستودعات والأسواق، خاصة في مناطق القتال الساخنة (مثل الفاشر المحاصرة). هذا النهب يحقق هدفين: حرمان المدنيين من الدعم، وتأمين الإمدادات للقوات المتحاربة. وقد أسفرت الهجمات المتكررة على القوافل والعاملين في الإغاثة، والعرقلة المتعمدة لوصول المساعدات، عن تعليق بعض المنظمات الدولية لعملها، مما زاد من معاناة السكان.

يؤكد التحليل التاريخي لدور المساعدات الإنسانية في صراعات السودان على أن الإغاثة لم تكن مجرد استجابة لحالات الطوارئ، بل كانت ورقة لعب استراتيجية ضمن تكتيكات الحرب. هذا النمط الذي ظهر في حرب الجنوب، حيث تم استخدام "الأمطار الغزيرة" دليلا على الشرعية والسيطرة الإقليمية، وصولاً إلى استراتيجيات التجويع والعقاب الجماعي في دارفور، والتي أدت إلى ملاحقات جنائية دولية، يرسخ حقيقة أن تسييس المساعدات هو استراتيجية راسخة وغير عرضية.

لقد دفعت حرب 2023، التي خلقت أسرع وأكبر أزمة نزوح في العالم، وأدت إلى انهيار شبه كامل للقطاع الزراعي، بالقيمة الاستراتيجية للمساعدات إلى أقصى مستوياتها. فالمجاعة (IPC المرحلة 5)، التي تتسع لتشمل مناطق جديدة في دارفور وكردفان ، ليست ناتجة عن ظروف طبيعية، بل نتيجة مباشرة لعرقلة الوصول المتعمدة ونهب المستودعات، مما يحول التجويع إلى سلاح فعال ومستدام. وعلى الرغم من التوقيع على "إعلان جدة"، إلا أن الانتهاكات المتكررة تثبت أن الالتزام النظري بالقانون الإنساني لا يوازن بين دوافع القتال والسيطرة على مقدرات المدنيين.