تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 15 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

المرتزقة في الحرب السودانية: معضلة جديدة ومخاطر محدقة

3 يناير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

استمرت الحرب السودانية الممتدة منذ أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بتحدياتها وتهديداتها، وتفاقمت الأزمة الإنسانية، وفشلت المحاولات السياسية للحد منها، وصرف العالم اهتمامه عن المأساة نحو قضايا أخرى. فيما انشغل طرفي النزاع السوداني باستقدام مرتزقة خارج البلاد، من أجل ضمان استمرار المواجهات والاشتباكات.
يبدو أن انخراط المرتزقة في الصراعات المسلحة السودانية ليس جديدا، فالمعضلة قديمة، لكنها ارتبطت في الشهور الأخيرة باعتذار كولومبيا عن تورط مواطنيها، بعد اكتشاف وثائق ودلائل تؤكد مشاركتهم إلى جانب الدعم السريع في هذه الحرب، مما يزيد من تعقيد مسارات النزاع، وينذر بإمكانية توسيعه إلى الجوار الإقليمي.

المرتزقة في السودان

لا يرتبط الارتزاق بالحروب المعاصرة، فهو يعود لألاف السنين، لكن الأعراف الدولية اتجهت منذ عقود لحظر الظاهرة، التي توجت باعتماد الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبه، ونصت على تجريم وحظر أنشطتهم وحرمانهم من صفة المقاتل وأسير الحرب. يعرف المرتزق بأنه أي شخص مجند للقتال في نزاع مسلح، ويتقاضى أجرا مقابل القيام بعمليات عسكرية، فيستند الارتزاق على القتال بمقابل مالي، دون أي ارتباط بالقضية المقاتل من أجلها. كما تم اعتماد اتفاقية الاتحاد الأفريقي بشأن القضاء على المرتزقة في أفريقيا، لتتوخى حظر هذه الأعمال بالمنطقة، لكن في إطار خصخصة الحروب تحول المرتزقة إلى شركات منظمة، تستوجب إعادة تعزيز النقاش القانوني حولها.
انخرط المرتزقة في النزاعات المسلحة بالقارة الأفريقية، وبرزت عدة تقارير تشير إلى تورطهم في الحرب الأهلية السودانية. لكن يصعب التكهن بأعدادهم، ومدى تغلغلهم في هذا النزاع، غير أن دلائل ووثائق كثيرة تتثبت وجودهم، فتحولت السودان إلى ساحة استقطاب للمرتزقة.
في تعقب مساراتهم، ارتبط وجود المرتزقة في السودان بحرب دارفور، التي اندلعت في فبراير/شباط 2003 بين الحركات المتمردة؛ حركة "العدل والمساواة" وجيش "تحرير السودان" والحكومة السودانية/السلطة المركزية بالخرطوم، التي ساهمت في ارتفاع أسهم الجنجويد؛ وهي مليشيا قبلية عربية تقاتل إلى جانب الحكومة ضد "المتمردين" الأفارقة، واتهمت بارتكاب تجاوزات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، حيث كانت المليشيا تستعين بهم. وقد برزت بعض الأدلة عن تورط مقاتلين سودانيين من هذه المليشيات في الصراع اليمني، لتعويض انسحاب السودان من التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بقيادة السعودية.
بعد توقيع الحكومة السودانية اتفاق وقف إطلاق النار مع الحركات المتمردة، ومن أجل تفكيك مليشيا الجنجويد تم إصدار قرار بإعداة هيكلتها في صفوف القوات المسلحة السودانية، توجت بتأسيس قوات الدعم السريع. ساهمت التحولات اللاحقة في بروز أدوارها، وصعود نجم محمد دقلو (حميدتي) قائدا للقوة، وفاعلا سياسيا وعسكريا، يحظى بتقدير الرئيس السابق عمر البشير، وما وصفه "بحمايتي"؛ أي القادر على حمايتي، سوى دليلا على ذلك. كما تشير التقارير إلى الاستعانة بهم خلال الاحتجاجات ضد النظام السابق؛ فقد اتهم الدعم السريع "بمجزرة القيادة العامة" في 3 يونيو/حزيران 2019.
عاد الحديث بقوة عن أدوار قوات الدعم السريع بعد سقوط نظام البشير، وتعقدت العلاقة بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع وحلفائهم من الداخل والخارج، لتنتهي بالصراع المباشر بينهما، بعد أن فشلت المواجهات الميدانية في حسم النزاع، وبعد أن استثمروا في كافة الأسلحة، بما فيها الطائرات بدون طيار. برزت ملامح اتجاههم إلى الاستعانة بالمرتزقة، مما ساهم في تعقيد طبيعة النزاع ومالاته. 
يتهافت المرتزقة إلى ساحات الصراعات المسلحة بحثا عن الأموال، لكن ما يعضد حضورهم في الحالة السودانية ليس الأموال، إنما الحدود الممتدة بين السودان ودول الجوار؛ فشكلت هذه المعابر منصة للتقاطع بين الامتدادات القبائلية والتقاطعات الثقافية؛ كالشبكات القبلية والمجموعات المتمردة والمنظمات العابرة للحدود. أضحى تحدي أمن الحدود من التهديدات المشتركة بين السودان وجواره، إذ يصعب ضبطها والتحكم في محاورها، فتحولت إلى محطة لتدفق المهاجرين والسلع والأموال والأسلحة، وفيما بعد تسرب هؤلاء المرتزقة من محاور عديدة. 
زيادة على ذلك، ارتبط حضور المرتزقة في المنطقة بالتفاعلات مع الأطراف الخارجية، فقد ساهمت الحرب الأخيرة في إعادة بناء تحالفات الأطراف السودانية الداخلية والخارجية، وبرزت العلاقات بين قوات الدعم السريع مع الإمارات ومع روسيا، وقوى إقليمية كالجمهورية المصرية. كما تعززت علاقاتها بمنظمات شبه عسكرية، مثل قوات الفاغنر، فقد تحدثت تقارير عن أدوارهم في المنطقة، وكذا حمايتهم لمناجم الذهب، ورهانهم على الدعم السريع. وتجدد مؤخرا البحث عن دور لهذه القوات، وتكهنات حول مستقبل الوجود الروسي بالمنطقة، بعد سقوط أبرز حليف لموسكو في الشرق الأوسط، وحديث عن توجه موسكو لتطوير وجودها في السودان لحماية مصالحها بالقارة الأفريقية.
يبقى ارتباط تدفق المرتزقة بالأموال أكثر من أي رابط أخر، مما يؤشر على دور أساسي للأطراف الخارجية في التمويل والتوجيه، فكانت هذه الاستراتيجية الحافز الأساسي وراء انتشار شبكات محلية وإقليمية لاستقطابهم، مما ساهم في تنوع وتزايد أعدادهم بالحرب الأخيرة.

مصادر المرتزقة في السودان

 تعقدت مسارات المواجهات المسلحة في السودان، وانضاف لها تحدي التدخل الخارجي، وتجاوزت هذه التدخلات رسم معالم هذه المواجهات والدعم بالأسلحة والعتاد، لصالح دعم غير مباشر، لكن بالاعتماد على المرتزقة، الوافد الجديد على المنطقة.
كشف النائب العام السوداني الفاتح محمد عيسى طيفور عن تقارير لم يؤكد مصدرها، تتحدث عن دخول أكثر من 200 ألف مرتزق إلى السودان للقتال بجانب الدعم السريع، وأكد إلقاء القبض على 120 شخصا من المرتزقة من جنسيات مختلفة. وتعتبر دول الجوار؛ تشاد ومالي والنيجر وأفريقيا الوسطى وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان من المصادر الأساسية للمرتزقة. فيما تفيد تقارير صحفية عن تورط الفاغنر دعما وتدريبا، ومساهمة بالأسلحة والمقاتلين في الحرب السودانية.
يصعب تقدير حجم ومصادر هؤلاء غير أن التقارير تؤكد أنهم يتدفقون على السودان من محورين أساسيين، تعتبر الحدود الليبية أولاهما، حيث يعد الجنوب الليبي منطقة تجمعهم قبل انسلالهم نحو السوادن، ويتهم خليفة حفتر بالمساهمة في هذه التدفقات، كما أن المنطقة تعتبر مصدرا لإرسال مرتزقة سودانيين لصالح الجيش الليبي. ويتقاطع الجنوب الليبي في المثلث الحدودي مع التشاد والسودان، لتعتبر تشاد المحور الثاني لتدفقهم إلى الأراضي السودانية، وتستغل أطراف الصراع التقاربات القبلية وهشاشة أوضاعهم الاجتماعية من أجل تجنيد الأشخاص للقتال في السودان.
كشفت الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش السوداني، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن تنفيذها في المثلث الحدودي الليبي التشادي السوداني كمينا لقافلة امدادات للدعم السريع، أسفر عن قتلى وجرحى وأسرى، تبين أنهم مقاتلون من جنسيات أجنبية، بحيث كشفت الوثائق عن مئات المقاتلين لصالح الدعم السريع من جنسية كولومبية.
أعلنت الخارجية الكولمبية عن استنكارها لمشاركة مواطنيها في هذه الحرب إلى جانب قوات الدعم السريع، مؤكدة عدم وجود علاقات بين القوات والحكومة الكولومبية، واعتذرت عن ذلك مؤكدة احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية السودانية، ورحبت السودان بهده التصريحات.
اتهمت قوات الدعم السريع من جانبها، الجيش السوداني بالاستعانة بمرتزقة أجانب، بعد مزاعم عن إلقاء القبض على مرتزقة مصريين، وجددت اتهامها للجيش المصري بدعم تلجيش السوداني بالأسلحة، وتنفيذ عمليات عسكرية في الأراضي السودانية، وكانت مصر قد نفت هذه الاتهامات، وأكدت حيادها حيال الصراع.
في سياق متصل، كشفت تقارير عن وجود قوات خاصة أوكرانية في السودان تدعم الجيش السوداني، فبرزت أدلة عن استعانة الجيش بطائرات انتحارية أوكرانية اعتبرت دلائل تؤكد وجود الأوكرانيين بالسودان. وراهنت على تعزيز حضورها بالمنطقة لمنافسة الوجود الروسي، فلمح المتحدث باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية في تصريحات لمجلة "بوليتيكو" إلى أن بلاده لديها دور في الصراع السوداني. 
يبدو أن تورط المرتزقة الأجانب في الحرب السودانية عامل رئيسي في استمراراها، إذ يراهن أطراف النزاع على خدماتهم من أجل ديمومة المواجهات، والدفاع عن مناطق سيطرتهم. تستمر عمليات استقطاب هؤلاء المرتزقة من محاور شتى، كما يرجح أن تتجاوز تحدياتها جغرافيا السودان، فقد تتوسع تهديداتهم إلى الجوار الإقليمي.

تحديات ومخاطر المرتزقة

يؤجج تدفق الأسلحة والمرتزقة الحرب في السودان، لكن تحدياتها تتجاوز الحدود، مما يؤكد تزايد مخاطر توسيع نطاق الحرب إلى خارج البلاد، وتفاقم حالة عدم الاستقرار بالمنطقة، بعد عودة المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية. مما يجعل الاستقرار الإقليمي على المحك، لاسيما أن الجوار المباشر غير مستقر (ليبيا والتشاد)، وإمكانية توسعها إلى الجوار الإقليمي غير المباشر؛ لاسيما منطقة الساحل والصحراء، التي تشهد أوضاعا هشة، وتحولات سياسية وأمنية معقدة. لكل ذلك، يمكن أن تساهم عودة المرتزقة في انجراف المنطقة بمجملها إلى تحديات غير محسوبة العواقب.
يؤكد التاريخ هذه المخاوف؛ فالترابط بين القبائل والعرقيات التشادية-السودانية، وانخراطهم في الصراعات المحلية، كما يساهم التداخل القبلي في النزاعات بينها أو بين الحكومات في تأكيد هذه المخاوف. مما يجعلها من العوامل التي قد تدفع هذه القبائل نحو الانخراط في الحرب الحالية بالسودان. لكن وفي السياق ذاته، يمكن أن تتأثر نجامينا بالأمر في حالة عودة المقاتلين إلى بلادهم، بخبراتهم الميدانية وبعتادهم. قد يبدو هذا السيناريو مبالغا، لكن التقديرات تؤكد بأن المنطقة لم تتعافي بعد من تحديات سابقة؛ فبعد سقوط نظام القذافي غادر الاف المقاتلين بأسلحتهم الخفيفة والثقيلة عائدين إلى بلدانهم (النيجر ومالي...)، وقد كانوا سببا في التحولات غير الديمقراطية ببلدهم والتدخل الفرنسي.
أخير، يؤكد التوازن للقوى العسكرية والبشرية بين طرفي النزاع استحالة الحسم العسكري، ولو كان بالرهان على المرتزقة والدعم الخارجية، ليبقى الحل السياسي أفقا لنهاية الحرب بالسودان. لكن يجب أن يتم استدراك دور الفاعلين الخارجين في هذه الحرب الممتدة، فتحييد مشاركتهم وتأثيرهم على القرار السوداني الداخلي، سيشكل مفتاحا لإنجاح المبادرات السياسية، ودون ذلك، ستستمر هذه الحرب في حصد أرواح السودانيين، كما ستستمر التقارير المتتبعة لمسارات وأدوار المرتزقة في هذه الحرب.