تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

المدينة التي فضحتهم: القرارات الدولية ومدينة الفاشر

31 أكتوبر, 2025
الصورة
  المدينة التي فضحتهم : القرارات الدولية ومدينة الفاشر
Share

لقد أصبحت الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، العنوان الأبرز للمأساة السودانية الراهنة، ليس فقط لأنها شكّلت مركزاً حضرياً وتاريخياً مهماً في غرب السودان، بل لأنها تحوّلت في غضون شهور قليلة إلى مسرح مفتوح لأبشع الجرائم ضد الإنسانية. لم يكن سقوط الفاشر حدثاً عسكرياً فحسب، بل كان انهياراً كاملاً لمنظومة الحماية الإنسانية، وانكشافاً للضعف البنيوي في منظومة الأمن والسلم الدوليين. فحين انهارت خطوط الدفاع عن المدينة، وبدأت قوات "الدعم السريع" في اجتياحها، شهد العالم مجازر واسعة النطاق طالت المدنيين العُزّل، وعمليات القتل الجماعي والنهب والاغتصاب وتدمير متعمد للبنية التحتية الصحية والتعليمية، في مشهد يذكّر بمآسي الإبادة في رواندا والبوسنة.

في الوقت الذي كانت فيه الدماء تسيل في شوارع الفاشر، كان المجتمع الدولي منشغلاً بالتصريحات الدبلوماسية والمداولات البطيئة في أروقة الأمم المتحدة. هذا البطء الفادح في التحرك، رغم وضوح حجم الكارثة، أعطى الانطباع بأن العالم إما عاجز عن التدخل أو متواطئ بصمته. ومن هنا تأتي أهمية تناول القرارات الدولية التي صدرت بشأن السودان ودارفور، وتحليل طبيعتها الإنسانية، وفهم دعاوى الأمم المتحدة ومجلس الأمن المتعلقة بالفاشر، ثم مناقشة موقف قوات الدعم السريع من هذه القرارات، وردود الأطراف المختلفة، وصولاً إلى تحليل الموقف الدولي من مجازر الفاشر وما يمثله من فشل أخلاقي وقانوني مدوٍّ.

القرارات الدولية بخصوص حرب السودان

على مدار العقدين الماضيين، شكّل إقليم دارفور نقطة اختبار دائمة لجدية المجتمع الدولي في حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. فمنذ اندلاع حرب دارفور الأولى، توالت القرارات الدولية التي هدفت إلى وقف العنف ومحاسبة مرتكبيه، إلا أن الواقع ظلّ يشير إلى قصور واضح في التنفيذ. ومع اندلاع حرب 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، استعاد العالم ذاكرة المآسي السابقة، غير أن استجابته كانت أضعف من أي وقت مضى.

إنّ أحد أبرز مظاهر الفشل تمثّل في عجز المجلس عن تفعّيل آلية العقوبات حتى بعد أن وقعت المجزرة، ما جعلها بلا معنى. لقد باتت قرارات مجلس الأمن أشبه ببيانات تعزية متأخرة تصدر بعد موت الضحايا، لا أدوات لمنع مقتلهم

ركّزت القرارات الدولية التي تناولت الحرب في السودان في معظمها على وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، لم تتضمن آليات واضحة للإلزام أو الردع، فبقيت كلمات منمقة دون أدوات تنفيذية. لم يكن في نصوصها ما يردع ميليشيا مسلحة تمتلك تسليحاً ضخماً ودعماً إقليمياً، ولا ما يلزم الأطراف المتحاربة بفتح الممرات الإنسانية. ومع كل قرار جديد كانت الانتهاكات تتضاعف، وكأن المجتمع الدولي اكتفى بممارسة الطقوس الشكلية لقلقه الإنساني.

حين بدأت الفاشر تسقط تدريجياً في قبضة الدعم السريع، لم يصدر أي قرار عاجل أو تدخّل مباشر لوقف المجزرة. لقد أعطى تلكؤ المجتمع الدولي في التحرك الانطباع بأن مصير المدينة لم يكن أولوية حقيقية، وأن القرارات السابقة كانت أشبه بإعلانات نوايا أكثر منها أدوات تدخل فعلي.

عن طبيعة القرارات والجوانب الإنسانية

اتسمت القرارات الدولية الخاصة بالنزاع السوداني بطبيعة مزدوجة: قانونية وإنسانية في ظاهرها، لكنها سياسية في جوهرها. فهي تحمل لغة القانون الدولي وحقوق الإنسان، لكنها تُدار وفق حسابات المصالح والتوازنات الدولية. من الناحية النظرية، ركّزت القرارات على حماية المدنيين، وعلى حظر استخدام التجويع كسلاح، وعلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة. لكن من الناحية العملية، لم يتجاوز تنفيذها مرحلة التوصيات، بل إن بعضها صدر بعد فوات الأوان.

تظلّ الجوانب الإنسانية لهذه القرارات بلا قيمة، ما لم تُترجم إلى إجراءات ملموسة على الأرض. ففي الفاشر، لم تُحمَ المستشفيات ولا المدارس ولا مخيمات النازحين، رغم أن القانون الدولي يوجب ذلك. ولم تُرسل بعثة مراقبة فعّالة قادرة على ردع القتل الجماعي. وحتى النداءات الإنسانية التي أطلقتها وكالات الأمم المتحدة كانت تصطدم بعجز لوجستي وسياسي، وبغياب إرادة دولية حقيقية للضغط على الأطراف المتحاربة.
إن جوهر المأساة يكمن في التناقض بين اللغة الرفيعة للقرارات الأممية والواقع الدموي على الأرض. ففي الوقت الذي كانت البيانات تتحدث عن "القلق العميق"، كانت الفاشر تُقصف والنساء تُغتصب والأطفال يموتون جوعاً. وهنا يفقد القانون الدولي الإنساني معناه، عندما لا يجد من يدافع عنه بالسلاح الشرعي أو بالتدخل الحاسم.

دعاوى الأمم المتحدة نحو الفاشر

مع تزايد حجم الكارثة الإنسانية في دارفور، بدأت الأمم المتحدة تطلق سلسلة من التحذيرات العاجلة بشأن الوضع في الفاشر. فقد دعى الأمين العام إلى وقف فوري للقتال، وحذر المفوض السامي لحقوق الإنسان من احتمال وقوع إبادة جماعية جديدة، فيما دعت وكالات الإغاثة إلى فتح الممرات الإنسانية وإجلاء الجرحى. لكن هذه النداءات بقيت صرخة في وادٍ، لأن الأمم المتحدة لم تملك الإرادة ولا الوسائل لفرض أي إجراء فعلي.

كان موقف "الدعم السريع" من القرارات الأممية تجسيداً احتقار فكرة المساءلة الدولية. فهي تعلم أن العالم لن يتحرك، وأن القرارات ستبقى حروفاً بلا قوة تنفيذية

كانت الفاشر في تلك المرحلة مدينة محاصَرة بالكامل: لا طعام لا دواء ولا ماء كافٍ، فيما القصف المدفعي والجوي يطوّقها من كل جانب. وفي ظل هذا المشهد، اكتفت الأمم المتحدة بالدعوات إلى التهدئة. ومع أن العالم كان يشاهد صور الجثث في الشوارع، إلا أن مجلس الأمن لم ينعقد بصورة عاجلة إلا بعد فوات الأوان. لم تُرسل بعثة طوارئ، ولم يُفرض حظر طيران، ولم تُتخذ أي خطوة جادّة لحماية السكان.

إن دعاوى الأمم المتحدة كانت متأخرة زمنياً، محدودة المضمون، عاجزة عن فرض أي تغيير فعلي. وبذلك تحوّلت من مؤسسة يفترض أن تحمي السلم والأمن الدوليين إلى شاهد على انهيارهما. لقد خذلت الأمم المتحدة الفاشر كما خذلت من قبل رواندا وسربرنيتسا، حين فضّلت الحياد البارد على التدخل الأخلاقي.

قرارات مجلس الأمن بخصوص الفاشر

مجلس الأمن، بوصفه الجهاز الأعلى المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، كان يفترض أن يتحرك بسرعة وصرامة لمنع الكارثة. لكن الواقع أن المجلس اكتفى بقرارات صيغت بلغة فضفاضة، تدعو إلى "وقف الحصار" و"حماية المدنيين"، دون أي إجراء تنفيذي أو تهديد بالعقوبات الفورية. فبينما كانت قوات الدعم السريع تتوغل في المدينة، كانت الدول الأعضاء تتجادل حول صياغات البيانات، وتوازنات النفوذ بين القوى الكبرى.

لقد سقطت الفاشر، لكن سقوطها ليس مجرد حدث محلي في حرب بل هو سقوط أخلاقي عالمي. إنه سقوط لفكرة العدالة الدولية، وسقوط لمفهوم الحماية الإنسانية الذي تتباهى به الأمم المتحدة

إنّ أحد أبرز مظاهر الفشل تمثّل في عجز المجلس عن تفعّيل آلية العقوبات حتى بعد أن وقعت المجزرة، ما جعلها بلا معنى. لقد باتت قرارات مجلس الأمن أشبه ببيانات تعزية متأخرة تصدر بعد موت الضحايا، لا أدوات لمنع مقتلهم.

هذا العجز كشف خللاً بنيوياً في منظومة الأمم المتحدة نفسها، إذ إن الدول الخمس الدائمة العضوية تستخدم حق النقض كأداة لحماية مصالحها، حتى وإن كان الثمن إبادة جماعية جديدة. في النهاية، سقطت الفاشر ليس فقط بفعل رصاص الميليشيات، بل أيضاً بفعل صمت المجلس الذي يُفترض أنه أعلى سلطة للردع في العالم.

موقف قوات "الدعم السريع" من القرارات الدولية

منذ بداية النزاع، تعاملت قوات "الدعم السريع" مع القرارات الدولية بازدراءٍ واضح. فقد رفضت الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، واستغلت ضعف الإرادة الدولية لتكريس سيطرتها على الأرض. في الفاشر، لم تكتفِ قوات الدعم السريع بالسيطرة العسكرية، بل مارست انتقاماً منظّماً ضد السكان، خاصة الفئات المنتمية إلى قبائل بعينها. جرى قتل مئات المدنيين رمياً بالرصاص، وأُحرقت أحياء بكاملها، وتعرّضت النساء لانتهاكات جسيمة. لقد تحوّلت المدينة إلى مسرح للعقاب الجماعي في ظل غيابٍ تام لأي رقابة دولية أو محلية.

كان موقف "الدعم السريع" من القرارات الأممية تجسيداً احتقار فكرة المساءلة الدولية. فهي تعلم أن العالم لن يتحرك، وأن القرارات ستبقى حروفاً بلا قوة تنفيذية. ومع مرور الوقت، أثبتت الأحداث أن هذا التقدير كان صحيحاً؛ إذ لم تُفرض أي عقوبات حقيقية على قياداتها، ولم يُفعَّل أي أمر قبض دولي بحقّها، الأمر الذي شجّعها على المضي في ارتكاب مزيد من الجرائم دون خوف أو رادع.

لقد خذلت الأمم المتحدة الفاشر كما خذلت من قبل رواندا وسربرنيتسا، حين فضّلت الحياد البارد على التدخل الأخلاقي

في المقابل، تعاملت الحكومة السودانية مع موقف الدعم السريع على أنه إعلان تمرد شامل وتهديد وجودي للدولة. إلا أن ضعفها العسكري والسياسي حال دون قدرتها على حماية المدن الغربية، بما فيها الفاشر. ومع أن الحكومة حاولت توثيق الجرائم وإيصالها إلى المنظمات الدولية، إلا أن الصوت الرسمي ظلّ عاجزاً عن إحداث أي تأثير فعلي.

أما الفاعلون الدوليون، فقد اكتفوا بالإدانات اللفظية والبيانات المكرّرة. لم تُتخذ إجراءات عاجلة لوقف الدعم الخارجي الذي تتلقاه قوات الدعم السريع، ولم يُمارس ضغط حقيقي على الأطراف الإقليمية المتورطة.

هكذا أصبح تعامل الأطراف الدولية نوعاً من التواطؤ الصامت: تنديدٌ علني يقابله تراخٍ عملي.
حتى المنظمات الإنسانية، التي يفترض أن تكون المحايدة، وجدت نفسها عاجزة عن دخول المدينة أو إيصال المساعدات. ومع مرور الأيام، بدا وكأن الجميع قرر أن يترك الفاشر لمصيرها، وأن يسمح بتصفية سكانها تحت شعار "عدم التدخل في الشؤون الداخلية". لقد كشف هذا الموقف عن ازدواجية المعايير في السياسة الدولية، حيث تتحرك القوى الكبرى سريعاً في أماكن، وتتجاهل المآسي في أماكن أخرى لأسباب لا علاقة لها بالقانون ولا بالإنسانية.

الموقف الدولي من مجازر الفاشر

المجزرة التي وقعت في الفاشر مثّلت لحظة اختبار قاسية للمجتمع الدولي. فالصور التي خرجت من المدينة أظهرت أحياءً محروقة، ومستشفيات مدمرة، وجثثاً في الطرقات، وأطفالاً يموتون جوعاً. ومع ذلك، جاء الردّ الدولي فاتراً. اكتفت العواصم الكبرى بالتعبير عن "القلق" و"الإدانة"، دون أي خطوات ملموسة على الأرض.
هذا البطء في التحرك جعل كثيرين يصفون الموقف الدولي بأنه شكل من أشكال التواطؤ غير المعلن. فحين يُترك المدنيون للموت رغم التحذيرات المسبقة، وحين يمتنع مجلس الأمن عن التدخل رغم علمه المسبق بوقوع المجازر، فإن الصمت يصبح مشاركة في الجريمة. لقد تحوّل "عدم الفعل" إلى "فعل سلبي" يرسّخ الجريمة، ويغطيها.

سقطت الفاشر ليس فقط بفعل رصاص الميليشيات، بل أيضاً بفعل صمت المجلس الذي يُفترض أنه أعلى سلطة للردع في العالم

إنّ الفاشر اليوم تقف دليلاً دامغاً على فشل المنظومة الدولية في حماية الإنسان. فالمجازر التي ارتكبت فيها لم تكن مفاجئة، بل كانت متوقعة ومعلنة سلفاً. ومع ذلك، لم يتحرك العالم إلا بعد أن تحوّلت المدينة إلى رماد. هذه المأساة تثير أسئلة عميقة حول جدوى القانون الدولي، ومعنى الإنسانية، وحدود المسؤولية الأخلاقية للدول والمنظمات.

لقد سقطت الفاشر، لكن سقوطها ليس مجرد حدث محلي في حرب بل هو سقوط أخلاقي عالمي. إنه سقوط لفكرة العدالة الدولية، وسقوط لمفهوم الحماية الإنسانية الذي تتباهى به الأمم المتحدة. ما حدث هناك يعرّي هشاشة النظام الدولي، ويكشف أن دماء الأبرياء في الأطراف لا تثير القلق إلا بعد أن تجف.
قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم مروعة تُعدّ في جوهرها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وربما إبادة جماعية. لكنها لم تكن لتفعل ذلك لو علمت أن العالم سيتدخل فوراً، وأن العدالة ستلاحقها. إلا أن البطء، والتردد، والمصالح السياسية جعلت من المجتمع الدولي شريكاً صامتاً في الجريمة. لقد تواطأ بالصمت، وتواطأ بالتقاعس، وتواطأ بالتأجيل.

إن مأساة الفاشر ليست فقط مأساة مدينة سودانية، بل مأساة ضمير إنساني عالمي. فهي تذكّرنا بأن الحماية الحقيقية لا تتحقق بالنصوص، بل بالإرادة. وأن القرارات، مهما كانت سامية، تفقد قيمتها حين لا تصحبها قوة تنفيذ. فالفاشر اليوم ليست مجرد جغرافيا منكوبة، بل مرآة يرى فيها العالم وجهه الحقيقي: وجهٌ مُلطّخ بدماء الأبرياء، وصمتٌ يُساوي الجريمة نفسها.

إن الدرس الأكبر من سقوط الفاشر هو أن الإنسانية لا تُحمى بالكلمات، وأن القانون الدولي بلا قوة هو وعدٌ كاذب. ولعلّ التاريخ سيذكر هذه اللحظة باعتبارها إحدى أسوأ خيانات العصر الحديث، حين وقف العالم متفرجاً على مدينة تُباد، ثم اكتفى بالأسف والبيانات. إن واجب الضمير العالمي أن يعترف، على الأقل، بأن ما حدث في الفاشر لم يكن مجرد تقصير، بل تواطؤ أخلاقي كامل مع القاتل ضد الضحية.