الخميس 23 يناير 2025
شهدت صوماليلاند، الدولة المغمورة في الشرق الأفريقي، أواسط الشهر الماضي، انتخابات رئاسية وحزبية، سمتها التعددية في الرئاسة والبرلمان، حيث تنافس ثلاثة مرشحين على الرئاسة، وعشر جمعيات سياسية على الاعتراف القانوني لنيل صفة الحزب السياسي لعشرة أعوام قادمة. واستطاع الحزب الوطني المعارض "وداني"، بقيادة عبد الرحمن عيرو، كسب الانتخابات الرئاسية، متفوقا على الرئيس الحالي، موسي بيحي عبدي عن حزب كولميه، الذي قضى 14 عاما في السلطة.
كما تغيَّرت تركيبة الجمعيات السياسية الثلاثة التي حازت صفة الحزب السياسي، في تجربة ديمقراطية فريدة بسمات محلية، لا نظير لها شرق إفريقيا ولا في العالم العربي. لكن هذا الانحياز للتفرد لم يفرِغ الديمقراطية من جوهرها، فالصوماليلانديون أتقنوا فن المواءمة بين قواعد اللعبة الديمقراطية وخصوصية البلد.
في الغرب الأفريقي تجربة مماثلة، حيث تكافح السنغال هناك حفاظا على الديمقراطية الناشئة في إقليم تحُفه الانقلابات العسكرية من ناحية، والسلطويات الاستبدادية من ناحية أخرى، فبعد انتخابات رئاسية، شهر مارس/ أذار الماضي، حسمها مرشح المعارضة الخارج توا من السجن لصالحته، منذ الجولة الأولى بنسبة 54٪ من الأصوات، متقدما بفارق كبير على مرشح الحزب الحاكم الذي حاز نسبة 35٪ من الأصوات، منقذة بذلك البلد من السقوط في براتين سلطوية حاول الرئيس ماكي سال الزج بالسنغال فيها.
تجدّدت المواجهة بين المعارضة والنظام بعد تغيير مواقعهما؛ حيث صار النظام السابق معارضة، وأضحت المعارضة السابقة حزبا حاكما، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، لاختيار 165 عضوا في الجمعية الوطنية لمدة خمس سنوات، بعد قرار الرئيس باسيرو فاي حل البرلمان في 3 سبتمبر/ أيلول الماضي. وانتهت نتائجها لصالح الحزب الحاكم بأغلبية مقاعد البرلمان، ما يضع حزب باستيف (الوطنيين) وجها لوجه أمام الواقع للوفاء بوعوده للسنغاليين.
هكذا اختارت أنظمة حاكمة في دول أفريقية من الشرق: صوماليلاند، ومن الغرب: السنغال، تصريف معارك السياسة داخل الحلبة، واستنادا إلى الشعب الذي يبقى له الكلمة الفصل. مقابل ذلك، فضلت أنظمة أخرى الركون إلى أساليب عريقة، أوشكت على أن تصبح مجرد حكايات في التاريخ الإنساني، لإسكات المعارضين، وفرض الصوت الواحد داخل البلد.
ظهر المعارض الأوغندي البارز كيزا بيسيجي، زعيم حزب منتدى التغيير الديمقراطي، أمام المحكمة العسكرية في كامبالا، يوم الأربعاء الماضي، بعد أيام من اختفائه، منذ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني في العاصمة الكينية نيروبي، حيث جرى اختطافه، وفق إفادة زوجته ويني بيانيما على منصة إكس، على هامش المشاركة في حفل تقديم كتاب للمعارضة الكينية مارثا كاروا.
وجهت محكمة ماكيندي العسكرية اتهامات ثقيلة للمرشح الرئاسي الأسبق، رفقته السياسي المعارض أوبيدي لوتالي، تشمل حيازة أسلحة نارية بشكل غير قانوني، والتفاوض من أجل شراء أسلحة من الخارج، والسعي للحصول على دعم لوجستي من أجانب بهدف المساس بالأمن القومي للبلاد، في جلسة عقدت وسط إجراءات أمنية مشددة.
اعترض بيسيجي مع انطلاقة المحاكمة على محاكمته عسكريا، معلنا أن أي اتهامات ضده يجب أن تكون أمام محكمة مدنية، وهو ما رفضه قضاة المحكمة الذين واصلوا الجلسة. كما نفى كافة التهم الموجهة إليه، لكن ذلك لم يحل دون إصدار قرار ببقائه رهن الاحتجاز إلى غاية 2 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
أثارت كيفية اعتقال أو اختطاف المعارض الأوغندي (68 عاما) فوق الأراضي الكينية، انتقادات محلية وإقليمية ودولية، فالكثيرون اعتبروا الأمر اختطافا قسريا. فقد عبّرت منظمة العفو الدولية عن "القلق العميق إزاء عملية اختطاف المعارض الأوغندي كيزا بيسيجي من كينيا"، مضيفة أنه "جزء من اتجاه متنام ومقلق للقمع العابر للحدود الوطنية مع انتهاك الحكومات لحقوق الإنسان خارج حدودها".
اعتبرت شبكة تضامن زعماء المعارضة في عموم أفريقيا من جهتها أن الأمر "مثير للقلق الشديد... فعمليات الاختطاف من قبل قوات أمن الدولة ليست الطريقة القانونية للتعاون بين أوغندا وكينيا". ذلك ما جعل يتغيري شاغوتا، المدير الإقليمي للمنظمة بشرق وجنوب أفريقيا، يصف الحكومة الأوغندية ب صاحبة "سجل حافل من القمع المنهجي للأحزاب السياسية المعارضة من خلال عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي والاحتجاز غير القانوني بتهم ملفقة".
حاولت كينيا تبرئة الذات من أي تورط، فقد صرّح إسحاق موارا، المتحدث باسم الحكومة الكينية، بأنه ليس على علم بأي اختطاف، تفاعلا مع طلب إيرياس لوكواجو، عمدة العاصمة كامبلا، برد من الحكومة الكينية بشأن هذه القضية، "إن الطريقة والظروف المحيطة باعتقاله مزعجة حقا بالنسبة لنا... حكومة كينيا مدينة لنا بتفسير".
تحدث كورير سينجوي، مسؤول بوزارة الخارجية، عن أن "كيزا بيسيجي يزور كينيا عدة مرات، فهو زعيم لديه أصدقاء وعائلة هنا... لم يخبرنا أنه قادم إلى كينيا بصفته معارضا، أو أنه بحاجة إلى أي تسهيل. نحن نفهمه ونقدره ونأمل أن يتم حل وضعه من قبل الدولة المجاورة".
ستحظى تصريحات المسؤولين الكينيين بالمقبولية والتصديق، لو لم يسبقها انخراط في حملة القمع المتصاعدة لأوغندا ضد المعارضة، فقد قامت السلطات في نيروني بعملية ترحيل قسري، شهر يوليو/ تموز الماضي، في حق 36 عضوا في حزب منتدى التغيير الديمقراطي بزعامة بيسيجي، نحو كمبالا، حيث توبع المرحلون أمام القضاء الأوغندي بتهم تتعلق بالإرهاب.
عاد نظام يوويري موسيفيني، الممسك بزمام السلطة، منذ عام 1986، لمطاردة المعارضين داخل وخارج البلاد، لا سميا حزب منتدى التغيير الديمقراطي، من باب التحضير المبكر لانتخابات 2026، رغم أن الزعيم بيسيجي لم يشارك في آخر انتخابات رئاسية عام 2021، بعد أربع محاولات سابقة انتهت كلها بالفشل. لكن النظام يخشى من تفرغه، كما صرح شهر أبريل/ نيسان الماضي، لإصلاح الفوضى داخل الحزب، قبل حلول موعد تقاعده السياسي (70 عاما).
قرار يعتبره النظام في كامبلا بمثابة تهديد لوجوده، لذلك يسارع من أجل اقتناص الأصوات المعارضة بمنطقة شرق أفريقيا، لا سيما كينيا التي كانت حتى وقت قريب ملاذا آمنا للاجئين والمضطهدين من دول الجوار.
لا يزال الجيش النيجري، منذ استيلائه على الحكم في انقلاب 26 يوليو/ تموز 2023، يصارع من أجل بسط سيطرته على البلاد، فشهر أغسطس/ آب الماضي وقع العميد عبد الرحمن تشياني؛ رئيس المجلس العسكري الحاكم مرسوما يحدد قائمة الجرائم التي يحق للدولة بموجبها تجريد المواطن من الجنسية في حالة ثبوتها في حقه.
عمليا، شرع النظام في تفعيل تلك المقتضيات بإعلان الحكومة الانتقالية، في سابقة من نوعها في التاريخ السياسي للبلد، تجريد 9 مسؤولين من نظام الرئيس المخلوع محمد بازوم من الجنسية، بتهم ثقيلة يتابع البعض منهم بموجبها أمام المحكمة العسكرية، منها: "التخابر مع قوة أجنبية" و"التآمر على سلطة الدولة" و"المشاركة في مشروع لإضعاف معنويات الجيش" و"نشر بيانات وتصريحات من شأنها الإخلال بالنظام العام".
أعقب ذلك لائحة ثانية، ضمَّت عشر شخصيات جديدة، منهم وزراء سابقون؛ وزير الداخلية (ألكاش الهدأ) ووزير الخارجية (مسعود حسومي) وزير الدولة للأمن الرئاسي (عيسى أغ بولا)، وقائدين عسكريين (العميد محمدو أبو تركة والعقيد سليمان غازوبي)، وزعماء الحركات المتمردة، وهم: رئيس جبهة التحرير الوطنية (محمود صلاح) ورئيس الجبهة الوطنية للعدالة (محمد توري وحلي)، إضافة إلى نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي المعارضين للمجلس العسكري (بوسعدة بن علي وباغوي حامد عبدو وصفية إخيا المؤمن).
اعتبر مراقبون أن استخدام المجلس العسكري سلاح سحب الجنسية بقدر ما يكشف سعي الجيش إلى إظهار حزمه، وحتى بطشه، ضد الأصوات المعارضة؛ سواء كانت من رموز النظام السابق أم من النشطاء المدنيين، فإنه يظهر بالموازاة مع ذلك مدى عجزه، بعد مرور نحو سنة ونصف من استيلائه على السلطة. فأداة التجريد من الجنسية التي تسخرها الأنظمة الاستبدادية لمواجهة المعارضة، في الداخل والخارج على حد سواء، أثبتت في عدد من التجارب عدم نجاعتها، لا بل إنها تفضح حجم الوهن في الأنظمة التي تلجأ إليها.
يمكن لهذه الخطوة أن تأتي بنتائج عكسية للنظام في نيامي، فهو بمثل هذه القرارات، غير المحسوبة، يدفع نحو توسيع جبهات المعارضة المتعددة، من أحزاب وحركات مدنية وحتى تنظيمات مسلحة، إلى التوحد ضده. فالنظام، بقرار سحب الجنسية التي تجرد الأشخاص من الانتماء الذي ورثوه أبا عن جد، يهدد التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. خصوصا، وأن عددا من الأسماء الواردة في القائمة أو المهددة بمقتضيات المرسوم المذكور، ذات امتداد حزبي ونفوذ قبلي متجذرين في ربوع البلد، ما سوف يلحق أضرارا بالنسيج المجتمعي في النيجر.
مؤكد أن المجلس العسكري بهذه القرارات يرغب في كسب شرعية جديدة بين النيجيريين، ألا وهي شرعية حماية الوطن من "الخونة والعملاء والمتآمرين..." وهلم جرا من الاتهامات التي، وعلى فرض صحتها كما تؤكد أصوات حزبية معارضة، لا ينبغي التعاطي معها بهذه الطريقة، فالانتماء للبلد حق أصيل لأبنائه وبناته، ولا يمكن سحبه إلا على سبيل الاستثناء، وفي حدود ضيقة جدا، وبعد محاكمة أمام هيئة قضائية تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، وهذا مفتقد في حالة النيجر، ما يجعل الأمر أقرب إلى انتقام وتصفية منه إلى حماية حوزة البلد والدفاع عنه.
تؤكد هذه الأحداث، من الشرق كما الغرب الأفريقيين، أن بلدان القارة الأفريقية ليس كلها على قلب رجل واحد، كما تروج لذلك سرديات استعمارية، يرددها أبناء القارة دون وعي بتبعاتها، فالواقع يفيد أن وثيرة الإيقاع، في السياسة كما في الاقتصاد، تختلف بين هذه الدولة وتلك. ويبقى الأمل أن تشكل هذه المنارات في الأقاليم الأفريقية الكبرى؛ الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط، أيقونات تحفز باقي الدول في هذه المناطق على السير على هديها.