الأربعاء 19 فبراير 2025
ظل الإنسان دائمًا محاصرًا بين الفوضى والنظام، بين ميله إلى العنف وانجذابه للغرور، وبين جنوحه إلى السِلم ورغبته في التهذيب. وكانت اللغة بكل تأكيد محاولة من محاولات الإنسان اليائسة لإيجاد نقطة توازن ما، وقد استطاع هذا الكائن أن يخدم بفعالية غريزته الأولى، والتي أثبتت كفاءة منقطعة النظير، ألا وهي البقاء على قيد حياة قد لا تبدو ذات جدوى في كثير من الأحيان.
تمكنت هذه الغريزة من المساهمة في التغلب على تهديدات عظيمة، ناتجة عن عوامل متعلقة بظروف الكوكب الذي يعيش فيه. الكوكب الذي جعله يواجه أخطارًا نوعية، مثل: البراكين والكوارث البيئية والأوبئة، لكنه تمكن من التغلب عليها، رغم تحيز الظروف الفجة لهذه التهديدات، وتضافر المؤشرات لتحتم فناء الإنسان. ورغم وجود هذه القدرات المتفردة لدى الإنسان، إلا أنه أخفق في أن يتغلب، بالكفاءة نفسها، على خطر يبدو أنه أقل الأخطار شأنًا، ألا وهو التهديد الذي يشكله الإنسان على نفسه، مع وجود اللغة التي وصفها الفيلسوف وعالم النفس سيغموند فرويد بأنها "أعظم اختراعات الحضارة".
وجد الإنسان في اللغة قوة مكّنته من فهم طبيعة الحياة الغامضة، وأظهرت قدرة عالية في التواصل الفعال والتفكير بكفاءة، وصارت أداته الأولى التي يطوّع بها الظروف المستعصية، ويؤسس بها حضارة أجاد في ترميمها، وإن كنت أشكك دقة كلمة "التأسيس" لوصفها. مع ذلك، هناك سؤال ملحٌّ يراودني: لماذا عجزت اللغة عن حماية الإنسان من نفسه بالكفاءة نفسها التي تغلبت بها على أخطار بدت أعظم بكثير من خطر الإنسان ذاته؟ وما جدوى اللغة عندما يتعلق الأمر بتخليص الإنسان من شر نفسه، والوصول إلى حل أبدي ينهي قلقه المتلاطم، ويلجم طبيعته العدوانية؟
كانت هذه التساؤلات تدور في خلدي وأنا منزو في زاوية في مقهى هادئ، بالقرب من رجلين يجلسان في الطاولة المقابلة، يتبادلان الحديث بهدوء تام. بدا الأمر وكأن اللغة تؤدي وظيفتها الطبيعية في بناء جسور التفاهم بشكل فعّال، حتى تلك اللحظة على أقل تقدير. وبشكل غير متوقع، ولسبب لم يتضح لي على الأقل، اشتعل فتيل الغضب سريعًا ليصنع من كانا يتجاذبان أطراف الحديث مشهدا جعلني أطمئن بالجهد التراكمي للإنسان في بناء الحضارات، وذلك بشكل أشعرني بأن البشرية ارتقت لتصل إلى نقطة أعلى من أن تنحدر منها في غضون لحظات معدودة. وسرعان ما خاب ظني كعادته، وتحول المشهد إلى صراع عنيف ووحشي، كأنهما يعيشان في عصر ما قبل اكتشاف اللغة. أردت تشبيههما بأسدين في البرية، لكن سرعان ما أدركت أن ذلك ليس تشبيهًا منصفًا للأسود.
ما أثار تفكيري حقًّا هو كيف تحولت اللغة، تلك الأداة التي ظننا أنها ترفعنا فوق طبيعتنا البدائية، إلى شرارة تعمّق الهوة بدلاً من ردمها. تحولت نبرة الحوار إلى صرخات متلاحقة، ثم إلى اشتباك بالأيدي، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تعداه إلى عدوانية فجة، حيث استعان الرجلان بكل ما طالته أيديهما من أدوات، كأنهما يجسدان حقبة مبكرة جدًا من تاريخ البشرية. كان المشهد صادمًا إلى حدٍّ جعلني أعيد التفكير في حضارتنا ذاتها: هل اللغة، تلك التي نخالها أداة البناء، هي ذاتها أداة الهدم؟
قد يبدو الأمر مسليًا بعض الشيء، لأكون صادقًا مع نفسي وإياك أيها القارئ، أعني مراقبة الأمور التي لا شأن لك بها عن بعد، كنت متمسكًا بمكاني، أتأمل المشهد بحياد رغم ما يساورني من شكوك حول قدرة الإنسان على التزام الحياد بشكل كامل. كنت أفكر في تلك اللحظة، كيف يمثل هذا النزاع انعكاسًا لحقيقة الإنسان؛ ضعفه عند "عجزه عن استخدام الكلمات عندما تستيقظ طبيعته الخاملة"، لا أخفيكم سرًّا أنني، ولسبب لم أفهمه بعُمق، وددت أن تكون نتيجة هذا الشجار في مصلحة أحد الرجلين.
زجاجة طائشة تحطمت قرب مقعدي، كانت تسخر من الحياد الذي كنت أتظاهر به، فأيقظت في داخلي إحساسًا غريزيًا بالخطر. جعلتني أشهد مثالًا حيًا يظهر مدى سذاجة أسباب الحروب، وكادت شظايا تلك الزجاجة أن تؤدي إلى توسيع دائرة النزاع، لتشمل الآخرين الذين لم تكن لديهم أدنى نية في التورط، للحظة، شعرت بأن هذا "الاقتحام" يهدد حدودي الشخصية، تلك الحدود التي يشعر الإنسان فطريًا بأهمية قصوى للدفاع عنها حتى الموت، إن لزم الأمر، ما يبدو لي أنه مجال آخر من المجالات التي تخفق فيها اللغة في تحقيق هدفها، وذلك باعتبار أحد الاحتمالات الكثيرة بأنه الاحتمال الصحيح بالنسبة لهذا الكائن المتفرج. وقد لا يكون بالضرورة صحيحًا، إلا أن ذلك لا يهم ما دامت اللغة تخذل أصحابها منذ فجر التاريخ إلى الحروب العالمية؛ اندفع في داخلي شعور مفاجئ، مزيج من الغضب والرغبة في الاعتراض أو الدفاع عن النفس.
إن عزوفي عن المواجهات الشرسة -كما اصطلح عليها- حال دون تصاعد الموقف، بينما يعتقد كثيرون، "ممن أحسبهم لا يفقهون شيئًا من الحياة"، بأن شعوري هذا ما هو إلا الجبن، ويعتبرون ذلك الشعور مشينًا وجالبًا للعار، ويا للعار من نكران الإنسان لشعور عظيم كالجبن؛ مع أن "الجبن" و"الشجاعة"، كما يبدو لأول وهلة، نقيضان لا يجتمعان. لكنني أحب أن أعتقد أن الشجاعة ليست إلا جبنًا متقدمًا يختار الهجوم قبل أن يُهاجَم، والجبن ليس إلا شجاعة تؤجل المواجهة في سبيل حفظ الذات. كلاهما ينبع من منطق الخوف نفسه، ذلك الشعور الجوهري الذي أظنه الابن البكر للغريزة الأم، ذات الشعور الذي أظن أنه يقف وراء حضارة الإنسان، وهو الأمر ذاته الذي كان يحاول الشاعر أبو الطيب المتنبي وصفه، حينما تمكن من تطويع اللغة قائلا:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه / حريصًا عليها، مستهامًا بها صبًّا
فحب الجبان النفس أورده التقى / وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد / إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا.
تعبير المتنبي نفسه جعلني أشعر أن اللغة غالبًا ما تنحاز إلى الشعراء، كونهم يتمكنون من قول الكثير بالقليل من الكلمات. وها أنا الآن أكتب الفقرات الطويلة، دون أن أشعر بأن اللغة راضية عني، لتمنحني القدرة الكاملة لأقول ما أريد قوله. ويا لسخرية الاقتباس من شاعر متنبٍ مكّنته اللغة من نفسها، في حين أنها تتمنَّع عن نبي في أكثر لحظاته حاجة إليها. مهلاً، ربما ذلك الشعور الذي تملكني في تلك اللحظة يشبه شعور الرب وهو يشهد صلب المسيح، لحظة صرخته: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (إنجيل متى 27:46).