تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 23 يناير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

اللغات الأصلية في أفريقيا.. المعركة المنسية

2 ديسمبر, 2024
الصورة
اللغات الأصلية في أفريقيا.. المعركة المنسية
Share

تعتبر أفريقيا ثاني أكبر قارة العالم من حيث السكان والمساحة، ما جعلها موطنا لتعدد لغوي لا نظير له في بقية القارات. تتحدّث الأرقام عن احتضانها ثلث اللغات المتداولة في العالم التي تقدر بنحو 6604 لغة، فنجد أن جل الأفارقة، في 54 دولة ذات سيادة، يتكلمون أكثر من لغة، وأحيانا ثلاثة لغات في آن واحد. وتذهب دراسات مقارنة إلى أن عدد اللغات في دولة مثل نيجريا (520 لغة) يتجاوز اللغات المستخدمة في القارة الأوروبية بأكملها (287 لغة).

يمزج التنوع اللغوي الهائل في أرجاء أفريقيا الذي يتعدى 2140 لغة؛ بين اللغات الأصلية لقبائل القارة، التي اندثر الكثير منها، واللغات الوافدة مع الاستعمار الأوروبي، وما لبثت أن صارت لغات رسمية في عدد من البلدان، لدرجة أن بعض المستعمرات تحولت إلى حامِل وحامٍ لهذه اللغات، كما هو حال اللغة البرتغالية مثلا؛ فالناطقون بها في أنغولا أكثر من ضعفي سكان البرتغال (10 ملايين نسمة)، كذلك ومثال في موزمبيق (35 مليون نسمة).

تاريخيا، تُعرف أفريقيا بأولى الأماكن التي شهدت مراسلات مكتوبة، وكانت الحروف الهيروغليفية إحدى أقدم أنظمة الكتابة التي تم اكتشافها. إلى جانب حروف تيفيناغ التي تعود إلى 5000 سنة قبل الميلاد، واستخدمها الأمازيغ المنتشرين في النصف الشمالي للقارة. لكن وبالرغم من أقدمية الكتابة بالقارة، يبقى السائد أن أغلب اللغات الأفريقية الأصلية المستخدمة في القارة منطوقة دون صيغة مكتوبة.

استبداد اللغات الوافدة 

تُحدد المادة 11 من برتوكول القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي اللغات الرسمية للاتحاد في اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والسواحيلية، وأي لغة أفريقية أخرى. لكن لغات العمل داخل النادي الأفريقي محصورة في: العربية والإنجليزية والفرنسية والبرتغالية. هكذا يتحول الثراء اللغوي داخل القارة إلى فقر لدى الآباء المؤسسين، يُحتم استدعاء لغات أجنبية؛ وافدة على القارة، لضمان التوصل بين أبناء القارة.

يستند توزيع اللغات في القارة إلى تقسيمها بين القوى الاستعمارية، باستثناء اللغة العربية التي اقترنت بالدين الإسلامي، ما يفسر انتشارها في مناطق مختلفة، فهي لغة رسمية؛ أولى أو ثانية، في 12 دولة أفريقية، بتقديرات تصل إلى زهاء 200 مليون متحدث، مع الإشارة إلى صعوبة التدقيق بسبب انحصار لغة الضاد لدى شريحة واسعة في ممارسة الشؤون التعبدية المرتبطة بالإسلام (الصلاة وقراءة القرآن).

تتصدر الإنجليزية قائمة اللغات الوافدة الأكثر انتشار في القارة، فهي اللغة الأساسية لأكثر من 700 مليون نسمة في الغرب والشرق الأفريقيين (بوتسوانا والكاميرون ونيجريا وليبيريا ورواندا وتنزانيا وأوغندا...)، فلدى بريطانيا تاريخ استعماري عريق في القارة. مع توقعات بتضخم العدد مستقبلا، ويعزى ذلك إلى نسب النمو الديمغرافي المرتفعة في هذه البلدان من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى إقبال دول أفريقية على القطيعة مع الفرنسية لصالح اعتماد اللغة الإنجليزية. 

يبقى انتشار اللغة الفرنسية، في 26 دولة، باعتبارها لغة ثانية في دول أفريقيا (المغرب والجزائر وتونس والكاميرون وجيبوتي ...) أكبر من انتشارها لغة أولى في وسط وغرب أفريقيا (السنغال وساحل العاجل وبوركينافسو ومالي وتشاد...). مع توقعات ببلوغ مستخدمي لغة موليير، بحلول عام 2050، نحو 500 مليون شخص، ما يعادل قرابة ثلثي الناطقين بها عالميا، مع التنبيه إلى تأثر اللغات الأفريقية المحلية البالغ على اللغة الفرنسية.

البرتغال تلك الدولة "المنسية" في أقصى غرب القارة العجوز، لا تزال لغتها لسان التخاطب الرسمي لست دول، تعرف باسم اللوسوفونية (أنغولا وموزمبيق وغينيا الجديدة وغينيا الاستوائية والرأس الأخضر وساو تومي). كما تُعد، إلى جانب اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لغة رسمية في مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية.

انجلى الاستعمار المباشر (السيادة) عن أفريقيا مخلفا استعمارا غير مباشر يصعب الانعتاق منه، فتداعيات الاستعمار اللغوي والثقافي أعقد من الاستعمار السياسي، لأن الأول يساهم في صناعة وتشكيل هوية الإنسان. وما استعانة أفريقيين من قطرين متجاورين، بينهما الكثير من القواسم المشتركة (قلبيا وعرقيا وجغرافيا)، بلغة استعمارية مستوردة، سوى دليلا على هذا الأمر.

تهميش للغات الأصلية

تتعدد اللغات الأصلية في إفريقيا بتعدد العرقيات، وإن كانت أبحاث إثنولوجيا حاولت رد هذه التعددية إلى عائلات كبرى، وهي: 

أولا؛ الخويسانية التي تبقى أصغر هذه الفصائل اللغوية التي اشتهرت باسم لغات البوشمان. تضم 30 لغة، أغلبها مهدد بالانقراض، فالناطقون بها في تراجع مستمر؛ أقل من 200 ألف فرد، مع انتشار محدود في الثلث الجنوبي للقارة الأفريقية. 

ثانيا؛ النيل صحراوية التي تتراوح اللغات المنحدرة منها، بحسب الباحثين، ما بين 108 لغة و195 لغة، ويتداولها زهاء 30 مليون فرد. تنتشر على نطاق جغرافي واسع في 15 دولة، بوسط القارة وشرقها مع امتدادات قليلة حوض النيجر في الغرب.

 ثالثا؛ الآفروآسيوية التي تضم 382 لغة، يستخدمها نحو 250 مليون أفريقي، ينتشرون في شمال وشرق القارة وأجزاء من الغرب، وتمتد بعض لغاتها، كما يظهر من اسمها، نحو القارة الآسيوية، وتنحدر منها اللغة المصرية القديمة واللغة الأمازيغية.

رابعا؛ النيجر كونغوية التي تبقى أكبر عائلة لغوية في القارة، وربما في العالم، بعدد لغاتها الذي يصل إلى 1552 لغة، يتحدث بها أزيد من 400 مليون فرد، يتوزعون في وسط وغرب وجنوب القارة، فنطاق تداول لغاتها في القارة يكاد يساوي نطاق انتشار باقي العائلات الأخرى.

بالعودة إلى اللغات، تتصدر اللغة السواحيلية قائمة اللغات المحلية الأكثر تداولا في القارة، بأزيد من 200 مليون متحدثا، تحتضنهم 14 دولة في شرق ووسط إفريقيا، وهي لغة التعليم الرسمية في تنزانيا قبل الجامعة، وثاني لغة رسمية في كينيا، ووافق مجلس الوزراء في أوغندا على اعتبارها لغة رسمية للبلد. كُتبت بالحرف العربي قبل تدوينها باللاتيني، فهي للعربية أقرب حيث يتغير المعنى بحسب أول الكلمة وليس آخرها. كما أن التحديد الزمني فيها متأثر بالثقافة السواحلية، فشروق الشمس لديهم تقابل الساعة الواحدة، لتصبح الثامنة هي الساعة الثانية.

تأتي لغة الهوسا المنتشرة في أقصى غرب أفريقيا في المركز الثاني، فإجمالي الناطقين بها؛ لغة أولى أو ثانية، يُقدر بنحو 80 مليون أفريقي، معظمهم في النيجر وتشاد ونيجيريا التي تعترف بها لغة وطنية، فعرقية الهوسا تمثل حوالي 20٪ من السكان.      

 في القائمة أيضا لغات متداولة في أكثر من دولة، وعلى ملايين الألسن، كما هو الحال مع لغة اليوربا (30 مليون) الواسعة الانتشار في كل من نيجريا والتوغو والبينين وسيراليون، ولغة الأورومو (25 مليون) التي لا تعترف بها أي دولة لغة رسمية، رغم انتشارها في إثيوبيا ومناطق في شمال كينيا، والأمهرية اللغة الرسمية في إثيوبيا، ولغة اللينغالا (65 مليون) المنتشرة بين قبائل وسط أفريقيا في الكونغو والكونغو الديمقراطية، ولغة الإيغبو (40 مليون) المتداولة في نيجريا وغينيا الاستوائية والكاميرون.

مساعي لإحياء لغات محلية

أدرك الأفارقة في السنوات الأخيرة مركزية اللغة في مسيرة الشعوب والأمم التي حققت الإقلاع، فقرر الاتحاد الأفريقي في القمة 35 بأديس أبابا، شهر فبراير/ شباط 2022، اعتماد اللغة السواحلية لغة عمل رسمية في الاتحاد إلى جانب اللغات الأوروبية، أخذا بعين الاعتبار الانتشار الواسع لها بأكثر من إقليم في القارة، وتخصيصها من قبل اليونسكو بيوم عالمي (7 يوليوز/ تموز). 

أعلنت جامعة أديس أبابا في نفس العام عن الشروع في تدريس اللغة السواحلية، وكانت جنوب أفريقيا قد قررت، عام 2020، تضمين اللغة السواحلية في البرنامج التعليمي، كمادة اختيارية في المدارس. من جهتها، تبنَّت أوغندا السواحلية لغة رسمية، وفرضت الزاميتها في التعليم حتى المرحلة الثانوية؛ قرار أثار مخاوف لدى الكثيرين بالنظر لماضيهم العنيف مع هذه اللغة التي تحضر في الذاكرة مقرونة بحقبة الحكم العسكري (1971-1979).

تكرّرت نفس القصة مع اللغة الأمازيغية في دول شمال أفريقيا، بعدما عمدت الحكومات في المغرب والجزائر، في العشرية الأولى من القرن الحالي، إلى الاعتراف بهذه اللغة ضمن مكونات الهوية الوطنية، بعد عقود من الحراك الشعبي تكلَّلت بتأسيس المحافظة السامية للأمازيغية عام 1995، ثم اعتبارها لغة وطنية في التعديل الدستوري لعام 2002، لترفع بعد ذلك إلى لغة رسمية للبلاد في دستور 2016.

سار المغرب على ذات المنوال في تعاطيه مع قضية الأمازيغ في البلد، فبعد التهميش والاقصاء منذ الاستقلال حتى بدايات الألفين التي كانت بداية مسار جديدة، حيث أعلن ملك البلاد في خطاب أجدير (2001) عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية للنهوض بالقضية الأمازيغية، ثم جاء قرار تدريس الأمازيغية في بشكل جزئي، في التعليم الابتدائي، في أفق التعميم، وبالموازاة مع ذلك فتح شعب للدراسات الأمازيغية ببعض الجامعات المتواجد في المناطق الأمازيغية (سوس  والشرق والريف). ثم جاء الاعتراف الرسمي بالأمازيغية لغة رسمية في دستور عام 2011، بعد الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد على غرار باقي دول شمال أفريقيا.

أفريقيا قارة غنية بطبيعتها وسكانها، فالثقافات الإفريقية تراث زاخر يستدعي الدود عنه، لذلك يجب على الأفارقة اليوم السعي لكسب معركة اللغة التي خسرها الآباء المؤسسون، فاللغات أكبر من قناة للتواصل، كما قال الكاتب فرانتز فانون، "التحدث بلغة يعني أن تتبنى عالمها وثقافتها"، ما يستدعي بدل الجهد لاستيعاب المزيد من لغات السكان الأصليين، فهذه اللغات من كنوز القارة المهددة بالاندثار... هكذا يجوز وصف اللغات الأصلية في القارة ب"المعركة المنسية".