الاثنين 17 مارس 2025
يعود التواجد الفعلي للبنانيين في وسط وغرب أفريقيا إلى القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1850، كما أرخ لها، ر. بيلي وايندر في مقاله (اللبنانيون في أفريقية الغربية)، ويحصرها بصورة عامة في ثلاثة أنواع: أولا؛ هجرة اللبنانيين إلى أمريكا ومجابهتهم لنظام عمراني أكثر عصرية، نجم عنه شعور بالضعة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، نتج عنه أمرين: ضياع اللغة العربية، وتمثل مستمر للحضارة الجديدة. ثانيا؛ هجرة اللبنانيين إلى البرازيل واصطدامهم بحياة لا تزيد عصرية عن لبنان، حينها اعتبروا حضارتهم أرفع شأنا وعصرية من هذه الحضارة، فاحتفظوا باللغة العربية وحضارتهم الخاصة. ثالثا؛ هجرتهم إلى أفريقيا الغربية والوسطى التي وجدوها أكثر تعقيدا، وهذه النظرة جعل الجاليات اللبنانية في أفريقيا في البداية أقل ديمومة، وهو الأمر الذي تغير لاحقا بالضرورة، وسرعان ما اعتاد اللبنانيون في أفريقيا أن يصفوا أنفسهم بأنهم صلة الوصل بين الأفريقيين والأوروبيين.
تعد الجالية اللبنانية في أفريقيا من أكثر الجاليات العربية في القارة الأفريقية، ولهم تأثير قوي على المستوى الاقتصادي المتمثل في الباعة المتجولين حتى أرباب التجارة والمصانع المركزية، وحاول الكثير منهم العمل في سوق السيارات، والاستثمار في مجال المناجم والنفط، وحتى في مجالات غير شرعية، مثل: تجارة الأسلحة والألماس وسرقة النفط الخام.
انتقل هذا التأثير إلى الإطار السياسي الذي تمثل في كسب ود السلطات الأفريقية، والترشح للمناصب الوزارية والبرلمانية، والتبرع للمشاريع الخيرية، والأنشطة التبشيرية. تشير الإحصائيات الأولية إلى أن عددهم بلغ حوالي 350 ألف لبناني، بين السنغال ونيجيريا وساحل العاج وغانا ومالي، أغلبهم يمثلون الطائفة المسيحية المارونية، من هنا يتجلى تأثيرهم الذي تجاوز مستوى الهيمنة التجارية والسياسية إلى غزو المجتمع الأفريقي عبر بوابة الدين.
أشارت السجلات اللبنانية بدولة غانا، إلى أن وليام إبراهيم شبيب وإلياس الخوري، كانا من أوائل اللبنانيين الذين وصلوا إلى غانا سنة 1884. بينما وصل آخرون إلى سيراليون عام 1893، واستقروا في مدينة بورت لوكو "Port Loko" في الشمال، وفي مويامبا "Moyamba في الجنوب، وبوجيهون "Pujehun" في الشرق، واستقر بعضهم في شرق فريتاون. يقدر عددهم بحوالي 41 لبنانيا بحلول عام 1901، بينما نزح البعض الآخر إلى موانئ الدول المجاورة، مثل: غينيا وليبريا. أما السنغال فقد وصلوا إليها عام 1860، بتعداد يقدر بحوالي 100 لبناني، معظمهم كانوا من مدينة صور، ووصل عددهم إلى 500 في عام 1917، وتزايدت إلى 2300 بحلول عام 1936.
تعد الجالية اللبنانية في أفريقيا من أكثر الجاليات العربية في القارة الأفريقية، ولهم تأثير قوي على المستوى الاقتصادي المتمثل في الباعة المتجولين حتى أرباب التجارة والمصانع المركزية، وحاول الكثير منهم العمل في سوق السيارات، والاستثمار في مجال المناجم والنفط
منذ تلك الحقبة التاريخية وأعدادهم في تزايد مستمر، وقد أشارت البيانات بأنهم بلغوا 5233 في السنغال ومالي وسيراليون وغينيا، حسب ما ورد في إحصاء عام 1975. وبلغ عددهم في سيراليون لوحدها2246 في عام 1985، وارتفع إلى 7000 بحلول عام 2014، ما يجعلهم يمثلون 0,13٪ من التعداد السكاني للدولة.
في السنغال ووصلوا إلى 30 ألفا، وفي ساحل العاج حوالي 100 ألف. أما في نيجيريا فبلغوا حوالي 30 ألفا في عام 2008، وارتفع العدد إلى 50 ألفا بحلول عام 2012، وحوالي 250 في النيجر عام 2023. يقطن حوالي 15 ألف لبناني في الغابون عام 2023، وذلك على لسان رئيس الجالية اللبنانية في الغابون، السيد حسن مزهر، في الكاميرون زهاء 150 مواطنا. ويقل انتشارهم في الدول الأخرى، فأعدادهم قليلة نسبيا في جمهورية تشاد وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية، حيث قدرت بحوالي 300 لبنانيا حسب البيانات المتاحة.
والجدير بالذكر، بأن المهاجرين اللبنانيين استفادوا كثيرا من الدول الأفريقية المستضيفة، وأفادوا بلدهم لبنان، بعكس حكومات الدول الأفريقية التي لم تستغل هذا الكم الديموغرافي المقيم على أراضيها، فمن الضروري رسم سياسات وطنية للاستفادة من هذه الخبرات في كافة الأصعدة.
نشر موقع "The Africa Report" قائمة لأبرز العائلات اللبنانية الرائدة أفريقيا في مجالات متباينة، مثل: عائلة عبد المحسن بيضون التي تعد من أغنى العائلات التي تقطن العاصمة أبيدجان بساحل العاج، منذ عام 1977، وترأس مجموعة "Yeshi" التي وصل حجم مبيعاتها إلى 47 مليار فرنك أفريقي، ما يعادل 71,7 مليون يورو عام 2017.
استوعبت البيئة الأفريقية الغربية والوسطى كما هائلا من رجال الأعمال اللبنانيين، ما شجع العديد من العائلات اللبنانية في الاستثمار هناك
كما نجد انتشارا واسعا لعائلة معروف الساحلي في الكاميرون، وهي صاحبة شركة "Sefca" الرائدة في صناعة المشروبات، في كل من الكاميرون وأنغولا والكونغو برازافيل وزامبيا وأفريقيا الوسطى. وعائلة حجيج في العاصمة الغابونية ليبرفيل، لها علاقات قوية مع الرئيس عمر بونغو، وتعمقت العلاقة من خلال التعاون البيني عبر شركة عائلة حجيج الرائدة في عملية البناء، وهي مالكة بنك الشرق الأوسط وأفريقيا، وغيرها من المشاريع التجارية في الدول الأفريقية.
حققت هذه العائلات نجاحا كبيرا وانتشارا واسعا في الدول الأفريقية، كما هو الحال مع عائلة جلال قعوار المولود عام 1960 في العاصمة السنغالية داكار، والتي تنشط في مجال الأثاث والديكور، وتدير شركة "Orca"، ولها 25 متجرا في العديد من الدول الأفريقية، مثل: وبوركينا فاسو والكاميرون وغامبيا ومالي وموريتانيا وبنين.
استوعبت البيئة الأفريقية الغربية والوسطى كما هائلا من رجال الأعمال اللبنانيين، ما شجع العديد من العائلات اللبنانية في الاستثمار هناك. وقد ساهم ذلك في تحويلات العائدات التجارية إلى الخارج، ما أثر سلبا على الاقتصادات الوطنية للدول المستضيفة للجالية اللبنانية.
في بدايات الهجرة اللبنانية إلى القارة الأفريقية، لم تكن الجالية اللبنانية في وسط وغرب أفريقيا منفتحة على المجتمع الأفريقي الذي تعيش فيه، على الرغم من كونهم لم يتعرضوا للتمييز العنصري من المجتمع المحلي الأفريقي، إلا أنها ظلت فئات اجتماعية مغلقة ومنعزلة وغير مندمجة، وذلك بسبب توجسهم منهم. ولكن لاحقا تغير هذا الوضع وزال التحفظ، واندموا في المجتمعات الأفريقية.
ظلت مسألة التجنيس والمواطنة من أهم التحديات التي واجهت الجالية اللبنانية في وسط وغرب أفريقيا، قبل أن تسمح الحكومات الأفريقية بمنح اللبنانيين الجنسية، واشترطت بعض الدول مثل: سيراليون بناء على دستور عام 1961 منح الجنسية للأشخاص ذوي الأصول المختلطة، شرط أن يكون الأبناء من أب أجنبي وأم أفريقية، والإقامة بالبلاد لمدة خمس سنوات مستمرة. لكن التعديل الدستوري لعام 2006 فضل اللبنانيين المنحدرين من أصل أفريقي، دون اللبنانيين من أب غير أفريقي، وحظرت على المواطنين المزدوجين الجنسية تولي المناصب العامة.
أما الحكومة السنغالية فقد أجبرت اللبنانيين الذين تقدموا بطلب الحصول على الجنسية بعد عام 1972، بالتخلي عن جنسيتهم الأصلية، وأعفى القانون أفراد العائلات اللبنانية الغنية، التي قدمت مساعدات مالية كبيرة للسنغال، ووصل نسبة اللبنانيين الحاصلين على الجنسية في ساحل العاج حوالي 10٪، مارسوا العديد من الأنشطة السياسية على مستوى السياسات المحلية.
كما أتيحت لهم الفرصة لتقلد مناصب مرموقة في الدول الأفريقية، فعلى سبيل المثال: فاز أول لبناني في الانتخابات التشريعية في أفريقيا الوسطى كمرشح مستقل في الدورة الأولى، بنسبة 50٪ من الأصوات، من أصل 160 نائبا، 20 منهم نجحوا في الدورة الأولى، وهو النائب حسان علي بسام الأخرس البالغ من العمر 29 عاما.
بحسب موقع "DiasporaOn"، يشير الكاتب ألبرت بورغي "Albert Bourgi" في مقال له بعنوان"Libanais en Afrique, ou d'Afrique?" بأن عدد اللبنانيين الذين يمتلكون الجنسية المزدوجة في أفريقيا حوالي 500 ألف، موزعين في معظم دول وسط وغرب أفريقيا، ويعملون في مختلف القطاعات داخل القارة الأفريقية.
التأثير الاقتصادي
نجح اللبنانيون في وسط وغرب أفريقيا في مأسسة جسر ثقافي ممتد يربط بين أفريقيا والعالم العربي من جهة، وأفريقيا وأوروبا من جهة أخرى، وذلك بعد أن تشربوا الثقافة الأفريقية، وأتقنوا عدة لغات كالفرنسية والإنجليزية، وعدد من اللغات المحلية الأفريقية، ما سهل لهم الانخراط في المجتمع الأفريقي، وتوسيع الروابط الأسرية في العديد البلدان الأفريقية، على الرغم من كونهم ينتمون إلى طوائف متباينة.
وفقا لتقارير رسمية لبنانية فإن 70٪ من المهاجرين اللبنانيين في أفريقيا، ينتمون إلى الطائفة الشيعية التي تقطن في الجنوب اللبناني. وبعد اندلاع الحرب اللبنانية، ما بين عام 1975-1990، زاد عدد الشيعة في غرب أفريقيا، ومثلوا حوالي 90٪ من مجموع اللبنانيين المهاجرين في تلك الفترة، وعملوا على نشر المذهب الشيعي في عدد من الدول الأفريقية. مثل: السنغال التي بلغ عدد الشيعة فيها 6000 شيعي.
شكل هذا الكم الديموغرافي موردا ضخما للتبرعات لحزب الله، ومثلوا مركز نفوذ لإيران في دول غرب أفريقيا، حيث تركز نشاطهم التجاري في المعادن كالماس والذهب. واستغلوا استثماراتهم الضخمة التي درَّت أموالا طائلة، وأسهموا في توسيع النفوذ الشيعي في هذه البلدان، وذلك من خلال تجنيد المواطنين بغية نشر المذهب الشيعي في المجتمعات الأفريقية، حتى وصل تعداد الشيعة في غرب أفريقيا 7 ملايين في عام 2010.
اتهم البعض منهم مرارا بالضلوع في دعم الإرهاب، والاحتيال الضريبي والاتجار بالعملات في السوق السوداء، والاتجار بالمخدرات
بعد خمس سنوات انطلاق هذه الأنشطة، وتحديدا عام 2015، تم تغريم عدد من البنوك اللبنانية بتهمة غسيل أموال تابعة لحزب الله، وهو ما كشفت عنه تحقيقات مطولة للاستخبارات الأمريكية، أثبتت استخدام حزب الله لدول غرب أفريقيا في نقل المخدرات بين عملاء تابعين لهم بأمريكا اللاتينية، للتوسع في هذه التجارة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. كما أثبتت التحقيقات أيضا أن عناصر الجماعة يجندون عملاء جددا في سيراليون والسنغال وساحل العاج، لتحقيق هذه الأجندة. وبحسب خبراء بنك بيبلوس، فإن هؤلاء المغتربين أعادوا إلى لبنان 7.1 مليار دولار، وهو ما يعادل 13٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في عام 2017.
تشري العديد من التقارير إلى نشأة طبقة كاملة من الوسطاء في وسط وغرب أفريقيا، تعمل في تهريب الماس في سيراليون وتشاد وأفريقيا الوسطى، وسرقة الأحجار الكريمة وبيعها في أسواق دولية. حيث يشترون حجرا يبلغ وزنه 12 قيراطا، يبيعه الوسيط الأفريقي للبناني بحوالي 1400 دولار، ويبيعه هذا اللبناني للبناني آخر بحوالي 500 ألف دولار، ويبيعه الأخير لشركات الماس الشهيرة بحوالي 700 ألف دولار، كما لهم اليد الطولى في تهريب العملات إلى الخارج. وفقا لذات التقارير دائما يحول اللبنانيين في ليبيريا لوحدها ما يقرب من 5 ملايين جنيه ليبيري؛ أي حوالي 106 ملايين دولار سنويا، ما يؤدي إلى استنزاف رصيد الدولة من العملة الصعبة.
اتهم البعض منهم مرارا بالضلوع في دعم الإرهاب، والاحتيال الضريبي والاتجار بالعملات في السوق السوداء، والاتجار بالمخدرات. ففي حقبة الثمانينيات مثلا ألقي القبض على العديد من اللبنانيين لأسباب مماثلة في الكاميرون. أما في الكونغو - كينشاسا، فيشار بانتظام إلى مشاركتهم في الشؤون السياسية والمالية، لدرجة الحديث عن تورط مجموعة من اللبنانيين في اغتيال الرئيس لوران ديزيريه كابيلا.
في نفس السياق، تثار علاقة رجال الأعمال اللبنانيين بالسلطة التنفيذية، وفي هذا الإطار نجد برادايم محسن حجيج الذي رفع دعوى قضائية ضد جمهورية الكونغو الديمقراطية، مطالبا بتعويضات تصل إلى حوالي ملياري دولار، وذلك بعد أن صدر أمر تحكيمي من غرفة التجارة الدولية التي مقرها باريس في عام 2013، طالبت فيه الكونغو بدفع أكثر من 1.5 مليار دولار كتعويض له.
جراء هذه الدعوى القضائية توترت العلاقات بين حجيج والرئيس الكونغولي دينيس ساسو نغيسو، وصار حجيج مصدر قلق للرئيس، وهدد بدوره نقل كل استثماراته في الكونغو إلى الخارج، بالإضافة إلى الحسابات المصرفية، وقد وصل الأمر إلى مصادرة طائرة فالكون 7 إكس الرئاسية في عام 2020.
إن وضع اللبنانيين في أفريقيا بحاجة ماسة إلى المزيد من التقنين، سواء ما تعلق بالقدوم إلى أفريقيا، أو ما ارتبطت بالإقامة المعتادة وممارسة التجارة، وهذا التنظيم يشمل القادمين الجدد والقدامى، من خلال تطبيق قوانين صارمة في ضوء التشريعات الوطنية الأفريقية.