الأربعاء 9 أكتوبر 2024
يتقصى كتاب سعدة ميري "الخصوبة الإلهية: وشائجٌ لا تنقطع لإديولوجيّة القرابة المقدسة في شمال شرق إفريقيا" تأثير الأيديولوجيات الأصلانيّة على الحياة اليومية لمجتمعات شمال شرق إفريقيا. تتحدّى الكاتبة، من خلال الغوص في المعتقدات والممارسات المتوارثة في المنطقة قبل المسيحية والإسلام، السرديات السياسيّة السائدة التي لا ترى غالباً أن للمنطقة تعقيداتٍ ثقافيّة فعليّة. وتوضح أنّ المؤسسات الأصلانيّة المعقّدة كانت على مدى آلاف السنين بمثابةِ قوة مُوحِدة؛ متجاوزة حدود المسيحية والإسلام.
يستند العملُ إلى أحدث البحوث الإثنوغرافيّة والأركيولوجيّة لدراسة المفاهيم والأماكن والأشياء والطقوس المرتبطة بنظام عقديّ سماوي، يُعتبر مُشتركاً ثقافيّاً في المنطقة. وذلك بغية تسليط الضوء على العلاقة بين الخصوبة المقدّسة والعديد من السّمات الأركيولوجيّة المشتركة في المنطقة، وكذلك الممارسات القديمة التي ما تزال قائمةً مثل: الختان والمَسّ الجنّي وغيرها من الطقوس الجسدية، بما فيها طقوس الصّيد.
يستكشف الكتاب، بشكل خاص، مزار الأب أو– برخدلي؛ وهو مركز صوفي يحجّ إليه الناس في صوماليلاند، بُنيَ في القرن الثاني عشر الميلادي. يعتقد أنه مدفنُ الحكّام الأوائل لسلالتيْ عفت وعدل (1285-1402)، وقد يكون حتّى العاصمة الأولى المفقودة لمملكة أودال (عدل)، قبل الانتقال إلى هرر، لذلك يُقدّم باعتباره "عالماً مصغراً" للقرن الإفريقي القديم ذي الفضاء الدينيّ المتعدد.
تبقى مقاربة ميري المتعددةِ التخصصات مثيرة لأكثر من سبب؛ فهي تتجاوز دراسة حالة مزار أو-برخدلي نحو محاججةٍ ترى، كما تبيّن النتائج الأركيولوجيّة، وجود مجمعٍ طقسي كوشي شرقيٍّ متمحوّرٍ حول الخصوبة، رغم التحديات التي تعترض الكتاب لإثبات ذلك، لأنه ينطلق من منظورٍ شاملٍ في تحقيق التوازن بين هذه السرديّة الكبيرة التي يطرحها وبين المعطيات الضروريّة لتدعيم تلك السردية. ومع ذلك، فإن عمل ميري في جوهره يقدم تبصّراتٍ جديدة قيّمةٍ، وخاصة في المجالات التي قد لا يمكن الوصول إليها بدون قدرات لغوية وثقافية محلية. وستتبنى هذه المراجعة موقفاً نقدياً تجاه جوانب معينة من الكتاب، مع الاعتراف بالمساهمات الهامّة التي يقدمها في مجاله.
تقدم المؤلفة في الأقسام التمهيدية المبررات وراء العمل، مع قسمٍ مقتضبٍ بعنوان "حول هذا الكتاب"، ثم تضع في الفصل الأول الأرضية من خلال رسم مسار الدراسة وتحديد أهدافها وأسسها النظرية ومنهجيتها، مع تغطيةٍ للسياق الديني الذي يشتغل فيه العمل. إن المنظور النقدي المقدم في الكتاب غني على نحو لافت، وخاصة في إشارة الكاتبة إلى النّقص في الأبحاث المتعلّقة بالأصلانيّات، وسيطرة الرجال على هذه الأبحاث، واستمرار الإرث الاستعماري، وتفترض "أنّ الدرس الأركيولوجي الإفريقي لا يستفيد كثيراً، في الوقت الحالي، من الأبحاث الأنثروبولوجيّة في مسألة الطقوس في مجتمعات الماضي، ولا يجري أبحاثاً أنثروبولوجية خاصةً به حول هذا الموضوع في المجتمعات المعاصرة".
تبقى مقاربة الماضي عبر منطلقٍ اثني إشكاليةً تواجه الكاتبة، خاصة استخدامها مصطلح "الكوشي"، فهذا المنظور الذي يأخذ حيزا واسعاً في الدراسة، يمكن أن يُساء استخدامه في سياقات متوترةٍ، مثل النزاعات حول الأراضي أو التراث التاريخي في المناطق التي تشهد اضطرابات إثنيّة نشطةٍ، كما نرى في إثيوبيا. ومع ذلك، فإن المحاججة القائلة بأن مناطق مثل أكسوم، كانت على الأرجح، أكثر اتساعاً مما صُوّرت تقليديّاً - حيث تمتد إلى الشرق - تبدو معقولةً، فالأبحاث الحديثة في شرق إثيوبيا تفيد وجود روابط ما تزال مستمرةً مع المرتفعات الشمالية، قلب مملكة أكسوم.
يتناول الفصل الثاني محيط ومركز الصوفية في أو-برخدلي، حيث شهد تحوّل الصوماليين الشماليين إلى الإسلام في القرن الثاني عشر، ونجد هاهنا ميري تقدم بيانات جديدة هامّة تسلط الضوء على التعقيدات الثقافية للمنطقة؛ إذ نلاحظ أنّ شواهد القبور التي تحمل علامات الصليب القبطي ونجمة داود تشير إلى وجود المسيحيين واليهود في منطقة أو-برخدلي. كما تورد أدلةٌ إضافية على نحوٍ ضمني، مثل إشارة المؤلفة إلى صور ألواحٍ صغيرة على شكل يد محفور عليها نجمة داود، وشمعدان، ورموزٌ أخرى.
في الفصل الثالث نستكشف فضاء أو-برخدلي المقدّس، مع التركيز على الثقافة المادية والخصوبة والتضحية. صحيح أن الفصل يقدم معلومات قيمة، لكن بعض الجوانب تحتاج إلى تعمق أكثرَ، فعلى سبيل المثال، تبدو المقارنة بين شواهد القبور الإسلامية في أو-برخدلي والألواح من أكسوم على أساس أشكالها ذات الزوايا الأربع وحوافها الناعمة مقارنةً ضعيفةً. وعلى نحو مماثلٍ، فإن مناقشة الطبول وأهميتها الثقافية ستكون أكثرَ تماسكاً لو عزّزت بمراجعَ أشمل تستكشف هلى نحوٍ وافٍ علاقتها بثقافة الطبول التقليدية الإفريقية. وعلى الرغم من تضمين قسم مثير للاهتمام عن أحجار الخصوبة واستخداماتها، يبقى العرض غير مترابطٍ أحيانا، حيث تبدو مواد خارج السياق؛ ومن الأمثلة على ذلك اقتباس من دراسة الأنثروبولوجي الكندي كريستوفر هالبايك:"كونسو في إثيوبيا: دراسة لقيم الحضارة الكوشية"، والتي تفسرها على أنه يقول بأنّ جميع الكهنة استخدموا أواني السقف القضيبية، بينما يشر الاقتباس إلى كهنة كونسو على نحوٍ خاص كما يوحي السياق الأصلي.
يفحص الفصل الرابع القرابة الإلهية عبر منظار الخصوبة، ويمكن القول إنه الجزء الأكثر نجاحاً في الكتاب، حيث تقدم ميري معطياتٍ أصيلةً ومفصلة حول طقوس الخصوبة لدى النساء الصوماليات، مع مناقشة الوگار wagar ؛ وهو جسم خشبي مرتبط بالإيمان بالأشجار المقدسة. إن الارتباط الشخصي للمؤلفة بالوگار، وقد ورثت واحداً من جدتها لأمها، يضيف بُعداً فريداً ومعقوليّةً في التحليل.
يواصل الفصل الخامس استكشاف الخصوبة من خلال دراسة مؤسسات التصوف والأصلانيّة، أو مؤسسات "الكوشيّة". ولكن، مع ذلك، تتطلب المناقشات الأركيولوجيّة في هذا الفصل مزيداً من التوسع، فعلى سبيل المثال، خضع ميناء زيلع لتحقيقات أركيواوجيّة من قبل باحثين فرنسيين وإسبان (على سبيل المثال، فوفيل-أيمار؛ جونزاليس-رويبال وآخرون)، ولكن لم تذكر الباحثة هذه النتائج، على الرغم من قدرتها على إثراء المحاججة.
يتوسّع النقاش في الفصل السادس ليشمل أيديولوجية الخصوبة في أركيولوجيا القرن الإفريقي، حيث تقدم ميري تطور مفهومها عن "المجموعة الطقوسيّة". يُوصَف هذا المصطلح بأنه "مجموعة من التمظهرات المادية وغير المادية والصّفات التي تستخدم أمثلة محددة لإلقاء الضوء على فحص وإعادة تفسير المواد والمواقع الأركيولوجيّة في المنطقة". ومع ذلك، فإن الاعتماد على القياس الإثنوغرافي كأساس لـ "المجموعة الطقوسيّة" يمثل تحدياً، حيث يصعب تطبيق هذه المنهجيّة باتساقٍ. وعلاوةً على ذلك، فإن التخالف بين المواقع الإثيوبية التي كانت موضوع النقاش - تيا وأكسوم ولاليبيلا وضريح الشيخ حسين - يضعنا أمام إشكالية أخرى. فهذه المواقع، وإن كانت في القرن الأفريقي، متمايزة من حيث السياق والصيرورة التاريخيّة، مما يجعل من الصعب إدراجها في مرجعٍ كوشيّ واحدٍ دون الاعتراف بسياقاتٍ ذات خصوصيّات تبلورت فيها هذه المواقع، فالحجارة في مثل هذه المواقع قد تحمل معانٍ أكثر تنوعاً بكثير من الأسباب الموضحة في الكتاب.
يبدو الفصل السابع، وهو خاتمة من صفحتين فقط، مقتضباً بالنسبة لكتاب من 329 صفحةً، ومع ذلك، فإنه يقدم ملخصاً موجزاً، ويَختتم بملاحظة تأملية تشير إلى أنّ المعتقدات السماويّة الأصلانيّة لم تتعارض مع المسيحية والإسلام، بل تكملهما، وتسمح "بعبادة الله وتقديم الفداء له لأجل السلام والازدهار والخصوبة".
برزت الدكتورة سعدة ميري بشكلٍ كبير في حقل الأركيولوجيا ودراسة تراث القرن الأفريقي، مع التركيز بشكل خاص على صوماليلاند. وتمثل هذه الدراسة للمواقع المقدّسة وتقاليد الألواح والمراكز المسيحية القديمة والإسلامية، في العصور الوسطى في شمال شرق إفريقيا، عملاً تأسيسيّاً لبناء إطار نظريّ وتحليلي لتفسير التراث المشترك للمنطقة ولأركيولوجيّتها الأصلانيّة. سيكون هذا العمل دونما شكٍ مصدراً أساساً للأركيولوجيين والأثروبولوجيين والمؤرخين والباحثين المتخصصين في منطقة القرن الإفريقي وخارجه.