تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

الخروج من المكتبة الاستعمارية

16 سبتمبر, 2025
الصورة
الخروج من المكتبة الاستعمارية
Share

لم تتشكّل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في أفريقيا على أرضٍ محايدة. فالنخب الاستعمارية أنجزت أبحاثًا أساسية وتطبيقية عبر معظم الحقول، وكان أغلب القائمين عليها من داخل الجهاز الاستعماري نفسه: إداريون وعسكريون وأطباء وممرضات وأفراد بعثات تبشيرية. ومع الزمن تحوّل بعض هؤلاء إلى أسماء مرجعية أسست برامج «الدراسات الأفريقية» في جامعات أوروبا وأميركا الشمالية ومراكزها البحثية. بالتوازي، نشأت مدارس ومتاحف وتقاليد أكاديمية في برلين ولندن وباريس وروما وفيينا، وكذلك في هارفرد وكولومبيا، لترسّخ سرديةٍ معرفيةٍ ترى أفريقيا من موضعٍ أدنى.

في ذروة العصر الاستعماري سادت «النزعة الانتشارية» التي تصوّر القارّة متلقّيًا للابتكار من جوارها -خصوصًا من «الشرق الأدنى»- عبر الهجرة المباشرة أو التأثير التقني. وقد واجه هذه السردية الهرمية للأجناس والحضارات والثقافات نقدٌ مبكّر من مثقفي الشتات في الكاريبي وأميركا الشمالية، ثم من باحثين داخل أفريقيا نفسها.

انبنت المؤسسات الحديثة للتعليم العالي في القارّة بوصفها امتدادات جامعية أوروبية أو كنسية: أتشيموتا في "ساحل الذهب" (غانا)، ماكيريري في أوغندا، إيبادان في نيجيريا؛ ثم لاحقًا جامعة الجزائر وجامعة داكار و"جامعة الكاميرون – المؤسسة الفرنسية للتعليم العالي" امتدادًا لأكاديمية بوردو في مستعمرات فرنسا السابقة.

يكشف مسار علم الآثار هذا الإرث بوضوح. فحتى مطلع القرن العشرين لم يتبلور منهاجٌ أثري متماسك، ومع ذلك تقدّمت أبحاثٌ جريئة في أوروبا وأفريقيا. وبغياب منهجية معيارية وأهداف دقيقة، غذّت "آثار ما قبل التاريخ" سجالات كبرى: صعود القراءة العلمانية للتاريخ، ترسيخ نظرية الانتقاء الطبيعي، الطعن في سرديات الكتاب المقدّس، تنامي القوميات الأوروبية، وترسيخ ثنائية «البدائي/المتحضّر». هذه الرؤى وفّرت الأفق الفكري لغالبية الأثريين العاملين في غرب أفريقيا حتى الحرب العالمية الثانية.

المطلوب ليس مجرد فتح قنواتٍ دبلوماسية، بل بناء برامج مشتركة ومراكز أبحاث ومعايير نشر وتمويل تُعيد إنتاج المعرفة عن أفريقيا وبأدواتها، لا عنها فحسب

شهدت أوائل الخمسينيات انعطافًا حاسمًا نحو المعطيات الميدانية مع إنشاء مؤسسات للبحث والتدريب وتخرّج قلّة من الأثريين المحترفين. ومع ذلك -ولأسباب مفهومة تتصل بالبنى المؤسسية ومسارات التمويل- لم يتأثر علم آثار غرب أفريقيا على نحوٍ يُذكر بصعود القوميات الأفريقية وحركات الاستقلال. ومع دخول مزيد من الأفارقة إلى الحقل برزت نتائج متباينة: تواصلٌ ضعيف بين الباحثين، ارتهان مستمرّ لدوائر النفوذ في القوى الاستعمارية السابقة، ندرة دعمٍ داخلي، وبقاء الأجندات البحثية تقريبًا على حالها.

تتجسّد هذه المحدّدات بجلاء في مشروع أوداغهوست/بعثة تيغداوست (Awdaghost – Mission Tegdaoust) بقيادة جان ديفيس وسيرج روبرت من جامعة داكار، حيث انصبّ الاهتمام على أثر العرب وشمال أفريقيا في نشوء التمدّن بغرب القارة. خضعت اللُّقى المزجّجة ذات الأصول المتوسطية والمغاربية لتحليلٍ دقيق، وأُهملت الفخاريات المحلية إلى حدٍّ بعيد. وعلى المنوال نفسه روّج «المعهد البريطاني في شرق أفريقيا» لفرضية أصولٍ شرق -أدنى للحضارة السواحلية. واتخذ البحث الأثري الأوروبي في أفريقيا طابعًا قوميًّا معلنًا- "الإسهامات البريطانية/الفرنسية/البولندية/السويسرية/البلجيكية/الألمانية…". وإذا كان هذا التصنيف مفهومًا من زاوية إبراز المنجز المؤسسي، فقد خلّف ضيقًا فكريًا متكررًا، وأعاد تدوير أسئلةٍ قديمة بِلُغةٍ جديدة.

ما زالت الجامعات تعمل خلف مثاليات "الجدل الحرّ والتقويم الموضوعي" بوصفها شبكاتٍ للسلطة والامتياز بقدر ما هي فضاءاتُ معرفة. إنكار هذه البنية لا يُصلح النظام، بل يحجبه. وكل محاولةٍ لفضح الممارسات الخفية التي تشين البحث في العلوم الاجتماعية الأفريقية تُواجَه عادةً بالإنكار أو بالتقليل. مثالٌ كاشف مراجعة آن ستال لكتاب "Postcolonial Archaeologies in Africa" بتحرير بي. شميت؛ إذ اختزلت محتواه في 111 كلمة ووجّهت سهامها إلى مقدّمة المحرر، معتبرةً أن الفصول "تتراوح بين جذّابةٍ تأمّلية ومفتقرةٍ إلى التركيز ومتعرّجة…". وقد استدعى ذلك ردًّا جماعيًا بعنوان «إسكات الأصوات في علم الآثار الأفريقي» نبّه إلى آلياتٍ بنيوية للإقصاء: الامتناع عن الاستشهاد بأعمالٍ بعينها، تحكيمٌ منحاز، ومراجعاتٌ فظة—لا سيما حين تُراجع الأبحاث مسلّماتٍ ترسّخت في الحقبة الاستعمارية أو تُزعزع مركزيتها.

تتكرّس دورةٌ غير متكافئة: تمويلٌ خارجيٌ يحدّد الموضوعات، وشراكاتٌ تُضفي طابع التمثيل المحلي، ومخرجاتٌ تُقرأ في جامعات الشمال أكثر مما تُستثمر في سياقاتها الأصلية

على الضفة المقابلة لم يتأخّر البحث عن بدائل غير أورومركزية. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تراكبت أفكار «العموم الأفريقي/البان–أفريقية» لمقاومة نزع إنسانية الأفارقة ومناهضة الرقّ والاستعمار. يبرز في هذا السِّلك إدوارد بلايدن، ماركوس غارفي، دبليو. إي. بي. دو بوا، فريدريك دوغلاس، ج. أ. بيل هورتون، ج. إ. كاسلي هييفورد، مارتن روبنسون ديلاني، هنري سيلفستر ويليامز، جورج بادمور، إيميه سيزير، ليوبولد سيدار سنغور، والتر رودني، والشيخ أنتا ديوب.

كرّس ديوب حياته لتقويض البنى الاستعمارية في قراءة الماضي الأفريقي، وتساندت معه مبادراتٌ أخرى -أحيانًا خارج الإطار البان–أفريقي- قدّمت رؤى بديلة لتاريخ مصر الفرعونية وموقعها الأفريقي. أما اليوم فيطوّر باحثون أفارقة كُثر أجنداتٍ نقدية تحت عناوين التحرير، ومناهضة الإمبريالية والنيواستعمار، وما بعد الاستعمار، وفكّ الاستعمار. لكن الاصطفاف المدرسي أقل شأنًا من صياغة برنامجٍ بحثي عملي يُحدِث فرقًا ملموسًا على صعيد بناء سؤالٍ محليّ وتمويلٍ مستقلّ ونتائج قابلة للتداول داخل القارّة وخارجها.

العالم مفتوحٌ للجميع، ولا تُخوِّل هيمنة الماضي وثقله المؤسسي الأكاديميا الأوروبية–الأميركية دور «حُرّاس البوابة» على المعرفة الأفريقية

بعد ستين عامًا على موجة الاستقلالات، فرضت مؤسسات «بريتون وودز» (صندوق النقد والبنك الدولي ولاحقًا منظمة التجارة العالمية) قواعد اقتصادٍ ليبراليّ أثبت أنه سلاحٌ ذو حدّين. يبقى السؤال: أين موقع الدول الأفريقية المستقلّة ضمن هذه المنظومة؟ لا تزال بعض بلدان غرب ووسط أفريقيا الفرنكوفونية عالقةً في شراكٍ نيواستعمارية؛ و"فرنك CFA" الخاضع عمليًا لإدارة فرنسا مثالا صارخا على تقييد السيادة النقدية، وتصدير القرار المالي. والحلّ ليس قطع الصلات جذريًا، بل موازنتها بشراكاتٍ جديدة مع آسيا وأميركا الجنوبية بما يعيد تشكيل مجال المناورة، ويخفّف قابلية الارتهان لمركزٍ واحد.

العالم مفتوحٌ للجميع، ولا تُخوِّل هيمنة الماضي وثقله المؤسسي الأكاديميا الأوروبية–الأميركية دور «حُرّاس البوابة» على المعرفة الأفريقية. غير أن المؤسف أن عددًا من الدول الأفريقية ما يزال مترددًا في تمويل بحوث الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، مفضِّلًا فرقًا أجنبية تُشرك باحثًا محليًا أو اثنين -ما سمّاه زملاء كاميرونيون «سياسة التقاط الفتات»- بذريعة الخوف من «راديكالية» طلابية أو لاختلاف الأولويات التنموية. هكذا تتكرّس دورةٌ غير متكافئة: تمويلٌ خارجيٌ يحدّد الموضوعات، وشراكاتٌ تُضفي طابع التمثيل المحلي، ومخرجاتٌ تُقرأ في جامعات الشمال أكثر مما تُستثمر في سياقاتها الأصلية.

من هنا يغدو «استحقاق التحرّر» مرادفًا لإعادة هندسة الشراكات جنوب–جنوب على أسسٍ معرفية ومؤسسية متوازنة. فالبرازيل -برغم أزماتها السياسية- شريكٌ طبيعي بحكم احتضانها أكبر تجمّع لأبناء أفريقيا خارج القارّة، وما يتيحه ذلك من ذاكرةٍ مشتركة ومسارات تبادلٍ بحثي وثقافي. وإلى جانبها الهند والصين اللتان تربط أفريقيا بهما تواريخ تفاعلٍ طويلة، وإن ظلّت مجهولةً نسبيًا في السرديات الأكاديمية السائدة. المطلوب ليس مجرد فتح قنواتٍ دبلوماسية، بل بناء برامج مشتركة ومراكز أبحاث ومعايير نشر وتمويل تُعيد إنتاج المعرفة عن أفريقيا وبأدواتها، لا عنها فحسب. هكذا فقط يمكن الخروج من «المكتبة الاستعمارية»: بإعادة توزيع سلطة السؤال، وتوطين القرار البحثي والموارد، وتوسيع خرائط الشراكة، بما يتيح للقارّة أن تروي تاريخها، وتبني علومها على شروطها هي.