الأحد 9 نوفمبر 2025
لطالما شهدت القارة الأفريقية صراعات مزمنة مدفوعة بالرغبة للسيطرة على موارد القارة، من قبل جماعات مسلحة وأطراف دولية مختلفة، وتعد الكونغو الديمقراطية مرآة لهذا الواقع المأسوي، لما تحمل من موراد غنية ذات ثقل اقتصادي قوي، ولا سيما في قطاع التعدين. إلا أنّ في السنوات الأخيرة، أصبح للسلع الزراعية دور مركزي في تحريك مجريات الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. يتصدر الكاكاو هذه السلع، وبات أداة محورية في تذكية نيران النزاعات المشتعلة في شرق البلاد، وتعميق أزمات السكان المحليين، وتغذية الاقتصادات غير الرسمية التي يقودها الجماعات المسلحة الناشطة في المنطقة.
يلعب الكاكاو دورًا محوريًا في المنظومة الاقتصادية العالمية، نظرًا لتعدد استخداماته، وتزايد الطلب عليه، بوصفه المادة الأساسية لصناعة الشوكولاتة، أحد أكثر المنتجات استهلاكًا على مستوى العالم. وقد بلغت قيمة سوق الكاكاو العالمية نحو 48.3 مليار دولار أمريكي عام 2022، ما يعكس التوسع المتزايد لهذا القطاع. ورغم ارتباطه في أذهان كثيرين بمظاهر الرفاهية والترف في الدول الغنية، فإن الكاكاو يشكل ركيزة اقتصادية أساسية للدول المُصدِّرة، خاصة في القارة الأفريقية، التي تتصدر المشهد الإنتاجي العالمي بقيادة دول مثل ساحل العاج وغانا.
غير أن هذه الأهمية الاقتصادية لم تكن بمعزل عن تحديات بنيوية، إذ اقترن إنتاج الكاكاو في عدد من تلك الدول بصراعات معقدة، من أبرزها تفشي مظاهر العبودية الحديثة في مزارع الكاكاو، وهو ما يسلّط الضوء على المفارقة الصارخة بين ازدهار الأسواق العالمية، وتدهور ظروف المنتجين في دول الجنوب.
لم تقف التداعيات المأساوية لزراعة الكاكاو على الدول الرئيسية المُنتجة له؛ بل امتدت لتشمل دول أخرى قد لا تكون من أوائل القارة في حيازة وتصدير هذا المحصول، لكنها وقعت ضحية في صراعات الجماعات المسلحة والشركات العالمية الراغبة في السيطرة على قطاع الكاكاو على حساب حياة المواطنين الأبرياء. بذلك تحوَّل الكاكاو من محصول زراعي يُدر قيمة اقتصادية هامة للدول إلى سلعة صراعية ناشطة في صراعات مزمنة وأزمات طائلة لدول القارة الأفريقية، تؤدي بحياة آلاف المزارعين الأبرياء كل عام. لعل أبرز مثال على ذلك، ما يحدث في شرق الكونغو الديمقراطية، التي باتت بؤرة مشتعلة من الصراعات المسلحة.
مع تشديد الرقابة الدولية على سلاسل توريد المعادن، بدأت الجماعات المسلحة بالبحث عن بدائل تمويل أخرى، لعلها أكثر أمانًا، فكان الكاكاو أحد أبرز هذه البدائل
لقد ارتبط الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وبالتحديد في بيني وإيتوري وكيفو الشمالية وكيفو الجنوبية وتنجانيقا، بقطاع التعدين، لا سيما معادن الذهب والقصدير والكولتان. لكن مع تشديد الرقابة الدولية على سلاسل توريد هذه المعادن، بدأت الجماعات المسلحة بالبحث عن بدائل تمويل أخرى، تكون أكثر أمانًا من المعادن. فكان الكاكاو أحد أبرز هذه البدائل، خصوصًا مع ارتفاع الطلب العالمي عليه، وتصاعد وتيرة أسعاره في السوق الدولية. وارتفاع قيمته الاقتصادية للدولة الكونغولية بالتحديد في السنوات الأخيرة، حيث بلغت صادرات الكونغو الديمقراطية من حبوب الكاكاو عام 2023، نحو 144.5 مليون دولار أمريكي وفقًا لبيانات البنك الدولي، مما وضعها في المرتبة الثانية عشرة عالميًا من بين 134 دولة مصدّرة للكاكاو. وعلى الصعيد المحلي، احتلت حبوب الكاكاو المرتبة الحادية عشرة من بين 683 منتجًا مُصدّرًا من الكونغو عام 2023. وبالتالي تحولت الأنظار تجاه هذا المحصول ليكون بديلاً لتمويل الجماعات المسلحة عوضًا عن المعادن مرتفعة المخاطر.
برز قطاع الكاكاو هدفًا استراتيجيًا للجماعات المسلحة التي تنشط في شرق الكونغو الديمقراطية، وذلك نظرًا للقيمة الاقتصادية العالية التي يحملها هذا المحصول، حيث يجلب لها ملايين الدولارات من خلال عملية تهريبه وتصديره عبر سلاسل توريد غير رسمية. وبالتالي يتيح لها شراء الأسلحة، وتجنيد المقاتلين، وتمويل شبكات النفوذ الخاضعة لها، ومن ثم إدامة الصراع المسلح لصالحها. وقد ساعدها على ذلك عدة عوامل، بدءًا من هشاشة الحكومة الكونغولية في السيطرة على أطراف الدولة، وانجراف الدولة في صراعات متفرقة، أغلبها السيطرة على المعادن، فضلاً عن سهولة السيطرة على أراضي المزارعين مقارنة بمناطق المعادن التي تقع تحت قبضة الدولة.
تعتمد الجماعات المسلحة تهريب كميات كبيرة من الكاكاو المسروق إلى أوغندا، ومن خلالها يُعاد تصديره تحت العلامة التجارية الأوغندية، مما يضرب الاقتصاد الكونغولي في مقتل، ويحرم البلاد من عائدات التصدير
تتراوح الأساليب التي تستخدمها هذه الجماعات للهيمنة على إنتاج الكاكاو، بداية من الاستيلاء المباشر على الأراضي الزراعية، مرورًا بفرض ضرائب جبرية على المزارعين، وصولاً إلى إنشاء شبكات تهريب واسعة تعبر الحدود نحو رواندا وأوغندا، حيث يُباع الكاكاو أو يُعاد تصديره بشهادات مزورة.
تتعدد الجماعات الناشطة في سرقة وتهريب الكاكاو، من أبرزها: جماعة تحالف القوى الديمقراطية، وهي جماعة مسلحة نشأت في أوغندا، وأقامت في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ أكثر من 25 عامًا، وبايعت مؤخرًا تنظيم الدولة الإسلامية. وقاد الارتفاع الحاد في أسعار الكاكاو في السوق العالمية خلال الأعوام الماضية إلى تفاقم العنف في شرق الكونغو الديمقراطية. حيث تمادت جماعة تحالف القوى الديمقراطية في إشعال فتيل النزاعات في المنطقة؛ بهدف السيطرة على مزارع الكاكاو، وقُتل العديد من المزارعين على يد هذه الجماعة المتمردة، التي تتخذ من تهريب الكاكاو مصدر تمويل أساسي لتسليحها.
على الجانب الآخر، لم تجنِ أرباح الكاكاو المتزايدة للمزارعين من الكونغو الديمقراطية سوى القهر والسرقة، وتحولت زراعة الكاكاو في بعض الأحيان إلى نقمة قادرة على تدمير حياة المزارعين الأبرياء، وذلك بفضل المنافسات المسلحة على الأراضي الزراعية، وتوسيع شبكات تهريب الكاكاو إلى الدول الأخرى. وقد تأثرت منطقة بيني بشكل خاص بهذه الصراعات، حيث نتج عن هذا العنف تعطيل وصول المنتجين إلى المزارع لعدة سنوات.
يُحرم شعب الكونغو الديمقراطية من عائدات تصدير الكاكاو التي دائمًا ما تذهب إلى خزينة دولة أوغندا بدلاً من الكونغو الديمقراطية، ففي ظل نشاطات الجماعات المسلحة في السيطرة على الكاكاو، اتجهت أنظارهم إلى أوغندا لعبور الكميات الكبيرة من الكاكاو الكونغولي بطرق غير رسمية، وتحولت الجارة الأوغندية في السنوات الأخيرة إلى ملاذ آمن ومعقل رئيسي لتهريب الكاكاو الكونغولي. تشير إحصاءات إلى أنَّ 85٪ على الأقل من إنتاج الكاكاو في أوغندا يأتي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، في دلالة خطيرة لتداعيات هذه العملية على اقتصاد الكونغو الديمقراطية.
تتورط أطراف داخل الدولة للاستفادة المالية من عملية تهريب الكاكاو، حيث تتقاطع شبكات الفساد الداخلي مع ديناميات التهريب الإقليمي. ويتم ذلك في غياب شبه تام لسيادة الدولة الكونغولية
حيث تعتمد الجماعات المسلحة تهريب كميات كبيرة من الكاكاو المسروق إلى أوغندا، ومن خلالها يُعاد تصديره تحت العلامة التجارية الأوغندية، مما يضرب الاقتصاد الكونغولي في مقتل، ويحرم البلاد من عائدات التصدير. وتدليلاً على ذلك، فمنذ يناير/ كانون الثاني 2025، تم اعتراض ما يقرب من عشرة أطنان من الكاكاو والقهوة المتجهة إلى أوغندا، من خلال قوة شرطة مراقبة تم تشكيلها للحد من عمليات التهريب من الكونغو إلى الدول المجاورة.
من اللافت أنَّ عملية السيطرة على أراضي زراعة الكاكاو وتهريبه لم تنحصر على الجماعات المسلحة فقط؛ بل تتورط أطراف داخل الدولة للاستفادة المالية من تلك العملية، حيث تتقاطع شبكات الفساد الداخلي مع ديناميات التهريب الإقليمي. ويتم ذلك في غياب شبه تام لسيادة الدولة الكونغولية، مما يحفز القائمين على هذه العملية في استمرار تلك الانتهاكات. حيث سعت عناصر فاسدة داخل الأجهزة الأمنية، وأيضًا العديد من المسؤولين المحليين إلى التعاون مع الجماعات المسلحة؛ لتسهيل مرور البضائع عبر الحدود وأيضًا غضّ الطرف عن الانتهاكات المحلية، في مقابل تقاضيهم رشاوي.
لم تقف التحديات عند عمليات التهريب فقط؛ فقد امتدت إلى خطر تهديد الكونغو الديمقراطية من إلغاء العلامة العضوية للكاكاو الكونغولي، التي تضمن لهم سوقًا عادلة، وذلك بسبب انعدام الأمن في شرق البلاد، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024، دق اتحاد الشركات الكونغولي ناقوس الخطر بشأن قرار الاتحاد الأوروبي بإلغاء علامته العضوية من الكاكاو الكونغولي، نتيجة تعذر وصول المفتشين إلى مناطق الإنتاج. ومن المقرر أن يدخل الإجراء حيز التنفيذ في 31 ديسمبر/كانون الأول من العام الجاري. مما ينذر بتهديد خطير على اقتصاد دولة الكونغو الديمقراطية، وسمعتها الدولية في إنتاج الكاكاو العضوي الذي يُشتهر به.
في ضوء ما سبق، يتضح أن الكاكاو، رغم كونه منتجًا زراعيًا يحمل وعودًا بالنمو الاقتصادي، قد تحول في شرق الكونغو الديمقراطية إلى أحد محركات العنف والاستغلال. إن استمرار هذا الوضع لا يُهدد فقط حياة المزارعين وأمنهم، بل يُقوّض أيضًا فرص الدولة في بناء اقتصاد مستقر قائم على العدالة والتنمية. ولذلك، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب رؤية سياسية شاملة، تبدأ بتعزيز مؤسسات الدولة، ومحاربة الفساد، وضمان الرقابة الفعّالة على الموارد، إلى جانب تعاون إقليمي ودولي يضع أمن الإنسان فوق اعتبارات الربح التجاري.