الاثنين 23 يونيو 2025
شهدت باماكو يوم الجمعة 3 مايو/ آيار الجاري احتجاجات مدنية، تعد الأكبر منذ تولى الجيش السلطة في البلاد عام 2021، رددت المشاركون فيها شعار "الحرية والديمقراطية"، ضد توصيات مؤتمر الحوار الوطني (16 حتى 29 أبريل/ نسيان) التي جاءت في مجملها خلافا لتطلعات أبناء البلد، التواقين إلى تحول ديمقراطي حقيقي، يواصل عن طريقه الأبناء ما بدأه الآباء مطلع التسعينيات، عقب إسقاط الديكتاتور موسى تراوري، في مارس/ آذار 1991، بعد 22 عاما من حكم البلاد بالحديد والنار.
يفتح المجلس العسكري على نفسه، بهذا التحرك جبهة جديدة في المشهد المالي، تضاف إلى تلك القديمة المفتوحة مع فرنسا، وأخرى حديثة، فتحت قبل أسابيع فقط مع الجزائر بسبب واقعة إسقاط المسيرة، وثالثة مع الشركات التعدين الغربية في مالي، ربما كانت الغاية من الإقدام عليها تلافيها، بنيل قائد المجلس الجنرال عاصيمي غويتا "شرعية شعبية" استنادا إلى مخرجات مشاورات "القوى الحية" دون الحاجة إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع وتنظيم انتخابات.
قررت القوى الداعمة للمجلس العسكري، بعد سلسلة مشاورات قاطعتها قوى المعارضة، رفعت عقبها جملة من التوصيات إلى قيادة البلاد، وكان من أبرزها الدعوة إلى تنصيب عاصيمي غويتا، قائد انقلابي 2020 و2021 رئيسا لمرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات. رغم أن التوصيات لم تحظ بالمصادقة الرسمية عليها، لكنها في نظر الكثرين بداية انحراف عن المسار الديمقراطي، فلا تفسير للتمديدات المتعاقبة للفترة الانتقالية من قبل القيادة الحالية سوى الرغبة في تقويض للعملية السياسية.
تعزز هذه الفرضية توصية أخرى تقضي بتجميد مقتضى دستوري، تم إقراره في دستور المرحلة الانتقالية 2023، الذي نال تأييد 97٪ من إجمالي المشاركين في الاستفتاء (39 ٪)، يضمن وجود الأحزاب السياسية، وحريتها في ممارسة أنشطتها. وذلك بدعوة الحكومة إلى حل جميع الأحزاب السياسية، من أجل إعادة تنظيم المشهد السياسي في البلاد. وزاد التوصية بشأن الأحزاب، فيما يشبه التأسيس لتعددية متحكم فيها، التأكيد على تشديد الشروط القانونية والمؤسسية لإنشاء أحزاب جديدة، حيث دعت إلى تقديم مبلغ 100 مليون فرنك ضمانا ماليا لتأسيس أي حزب سياسي، ناهيك عن إلغاء التمويل الحكومي للأحزاب.
كانت هذه الخطوة متوقعة لكل متابع حذق لتطورات الأوضاع في مالي، لكن الجديد هو الطريقة التي اختارها الجيش للتنفيذ، فشد الحبل بين الأحزاب السياسية، لا سيما المعارضة، وقادة المجلس العسكري لم يتوقف منذ تولى الجيش السلطة عام 2021
لقد سبق للسلطات في باماكو، أن قررت في خطوة أولى يراد من ورائها ضبط المشهد الحزبي المتعدد، حيث ينشط في المشهد السياسي هناك 281 حزبا سياسيا، مرسوما في 11 أبريل/ نسيان 2024 أقره رئيس المجلس العسكري، عاصيمي غويتا، يعلق نشاط الأحزاب السياسية والنشاطات ذات الطابع السياسي للجمعيات، على امتداد التراب المالي، وذلك بعلة "تضاعف الأعمال التخريبية التي تقوم بها الأحزاب السياسية".
كانت هذه الخطوة متوقعة لكل متابع حذق لتطورات الأوضاع في مالي، لكن الجديد هو الطريقة التي اختارها الجيش للتنفيذ، فشد الحبل بين الأحزاب السياسية، لا سيما المعارضة، وقادة المجلس العسكري لم يتوقف منذ تولى الجيش السلطة عام 2021. وكانت أحدث فصوله قرار توقيف 11 زعيما سياسيا من قادة الأحزاب في يونيو/ حزيزان الماضي، بتهم عديدة، أبرزها: "التآمر على سلطة الدولة" و"معارضة السلطة الشرعية"، قبل أن يتم إطلاقهم بشكل مؤقت أواخر عام 2024. قبل الاهتداء إلى خطة التوصية التي أثارت منظمة العفو الدولية لتدخل على الخط، بمطالبة الحكام في مالي، في بيان لها يوم الأربعاء الماضي (30 أبريل/ نيسان) بالتراجع عن مقترح حل الأحزاب السياسية.
تدافع الحكومة وأنصارها في باماكو عن مخرجات الحوار الوطني باعتبارها تعبيرا عن "إدارة" الشعب، ومساهمة جماعية في تحديد معالم المرحلة الانتقالية بمساعدة الجيش في رسم ملامح الجمهورية الجديدة. في المقابل يعتبر المعارضون أن هذا التضييق الممنهج عائد إلى مخاوف الجنرال غويتا من ضغط الأحزاب السياسية، لإنهاء المرحلة الانتقالية بتنظيم الانتخابات في أسرع وقت.
بعيدا عن السياسية فتح المجلس العسكري جبهة على الصعيد الاقتصادي تهدد ما بقي من استقرار هش في البلد، بإقدامه على فرض المزيد من القيود على شركات التعدين الغربية في مالي، في سياق سعي الحكومة إلى تطبيق أحكام قانون التعدين لعام 2023 الذي يقضي برفع نسبة الدولة من عمليات الاستخراج إلى 30٪ بدل 10٪، وتخصيص نسبة 5٪ للسكان والتنمية المحلية، ورفع مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي إلى 20٪ بدلا من 9٪ حاليا... وغيرها من المقتضيات على العقود التي تربط هذه الشركات بالدولة المالية.
آخر فصول هذه المعركة كان في 15 أبريل/ نيسان الماضي، حين قامت الحكومة بإغلاق مكاتب شركة التعدين الكندية "باريك جولد" في العاصمة باماكو، بدعوى التهرب من سداد الضرائب. وزادت من تصعيدها ضد الشركة بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس التنفيذي مارك بريستو، والتهديد بوضع منجم "لولو جونكوتو"؛ أكبر مناجم الذهب في مالي وثاني أكبر المناجم في العالم، تحت إدارة وتصرف السلطات الحكومية مؤقتا.
بق للطرفين أن دخلا في مفاوضات، شهر فبراير/ شباط الماضي، أفضت إلى اتفاق يلزم الشركة بدفع 435 مليون دولار للحكومة في مالي مقابل السماح لها باستئناف عمل المتوقف منذ مطلع عام 2025. لكن السلطات في باماكو، حسب بيان صادر عن الشركة الشهر الماضي، لم تذهب في اتجاه تنفيذ مقتضيات الاتفاق، بسبب عرقلة جماعة صغيرة من الأفراد تراعي مصالحها الشخصية والسياسية أولا، رغم قيام الشركة بخطوة أولى من أجل تنفيذ الاتفاق، تمثلت في دفع نحو 85 مليون دولار عام 2024.
ينسجم هذا التصعيد مع إيديولوجية السيادة الوطنية التي يرفعها الحكام الجدد في الساحل الأفريقي عموما، ضد الوجود الفرنسي بشكل خاص، والغربي بوجه عام بالمنطقة. لكن تحقيق تلك المساعي تتطلب حسابات دقيقة لدى المسؤولين، فتعليق الإنتاج في المنجم "لولو جونكوتو"؛ مثلا يعني وفقا لبيانات الشركة، خسارة كبيرة للحكومة في باماكو تقدر بنحو 550 مليون دولار من الإيرادات، برسم عام 2025.
من شأن اللعب الخشن للحكومة ضد المستثمرين الأجانب أن يبعث رسالة سلبية إلى كل راغب في الاستثمار بالبلد، حتى وإن كان بشروط معقولة تقوم على مبدأ "رابح/ رابح"، لأن تغول المجلس العسكري بامتناعه عن تنفيذ مقتضيات الاتفاق بينه وبين الشركة الكندية
يزداد الأمر تعقيدا حين ندرك الأهمية الاستراتيجية لقطاع التعدين في الدولة، حيث ساهم بنحو مليار دولار في الميزانية العامة لعام 2023، أي ما يعادل 21٪ من الميزانية. وتمكنت الحكومة من جني نحو 1,4 مليار دولار من شركات الذهب برسم العام الماضي، ما يعني في النهاية مزيدا من اعتماد الحكومة على موارد هذا القطاع.
على غرار السياسة يتوقع أن تتجه الحكومة تأميم القطاع، وشرعت عمليا في ذلك بعد قيامها بنقل رخصة تشغيل منجم "بوجوني" لمعدن الليثيوم، باحتياطيات تقدر بنحو 21 مليون طن من خام الليثيوم، مع توقعات بإنتاج البلاد نحو 14٪ من المعدن في القارة بحلول نهاية عام 2025، إلى شركة محلية حديثة التأسيس (LMLB)، تتوزع ملكية رأسمالها بين الحكومة والمستثمرين المحلين.
ينقسم الماليون ومعهم المهتمون بشؤون غرب أفريقيا، حيال ما يجري في هناك إلى فريقين، يعتبر أحدهما أن الضرورة بناء الدولة تستدعى مثل هذه المنعطفات الحاسمة، خصوصا عندما يكون الأمر مرتبطة بدولة هشة مثل مالي، فالسعي نحو بناء دولة متراصة البنيان يحتم أحيانا بعض التضحيات، ودليلهم في ذلك تجارب دول رائدة صنعت على يد قادة عسكريين بالحديد والنار (كوريا الجنوبية نموذجا). فيما يرى الأخر أن البناء والتأسيس يكون من القاعدة نحو القمة بمشاركة جماعية، وبأسلوب ديمقراطي، وهذا ليس بالشيء العسير على الشعب المالي صاحب إحدى أعرق الحضارات (مملكة مالي) في منطقة الصحراء الكبرى.
لا يحتاج المراقب إلى قراءة الطالع أو الفنجان حيال مستقبل الأوضاع في باماكو بقدر ما يحتاج إلى التدقيق في الحقائق على الأرض، فقرار تجميد مظاهر الحياة السياسية في البلد واجهة جديدة كان القادة العسكريون في غنى عنها، لأن ذلك يعزز الانقسامات بدل تتثبت الاستقرار، ويغذي النزعات المناطقية والهوياتية والقبلية في دولة ممزقة أصلا. كل ذلك يدفع بالبلاد نحو مزيد من الاحتقان، ما يهدد بتفجير الوضع في أي لحظة في تدروها رياح الاضطراب من كل جانب.
إن البناء والتأسيس يكون من القاعدة نحو القمة بمشاركة جماعية، وبأسلوب ديمقراطي، وهذا ليس بالشيء العسير على الشعب المالي صاحب إحدى أعرق الحضارات (مملكة مالي) في منطقة الصحراء الكبرى
إن قرار تجميد العملية السياسية بحل الأحزاب يعني الفراغ السياسي، ما يفتح الباب على مصراعيه للجماعات المتطرفة النشيطة (نصرة الإسلام والمسلمين) على طول وعرض البلاد. فقد جعل المجلس العسكري استثبات الأمن والاستقرار أولوية قصوى لديه، وكان التعهد بالقضاء على التنظيمات المسلحة في مختلف المناطق سببا وراء تعليق إجراء الانتخابات، المقررة في فبراير/ شباط 2022، بدعوى أن العملية السياسية تبقى بلا طعم في ظل غياب الأمن. فالديمقراطية، بحسب أنصار غوتيا، "لا تعني التسرع في الاقتراع بينما البنادق لا تزال موجهة إلى صدور المدنيين".
من شأن اللعب الخشن للحكومة ضد المستثمرين الأجانب أن يبعث رسالة سلبية إلى كل راغب في الاستثمار بالبلد، حتى وإن كان بشروط معقولة تقوم على مبدأ "رابح/ رابح"، لأن تغول المجلس العسكري بامتناعه عن تنفيذ مقتضيات الاتفاق بينه وبين الشركة الكندية، يوحي بأن المزاجية سيدة الموقف لدى القائمين أمور البلاد والعباد في باماكو.
إن تحرك الشعب المالي ضد مخرجات الحوار الوطني، وإن بدا محدودا الوقع والتأثير، يبقى مهما للغاية في السياق المالي، لأن تلك الاحتجاجات تمثل ولادة جديدة للمقاومة المدنية ضد استحواذ الجيش على مفاصل السلطة في البلاد.