تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

"الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" واحتمالات العودة للعمل العسكري

24 أكتوبر, 2025
الصورة
"الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" واحتمالات العودة للعمل العسكري
Share

تأسّست "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" في الإقليم الصومالي داخل إثيوبيا عام 1984، بوصفها إحدى أقدم الحركات السياسية المسلّحة في القرن الأفريقي. وخاضت الجبهة على امتداد ما يقرب من أربعة عقود، صراعًا مسلّحًا تراوحت وتيرته بين التصعيد والانحسار. شكّل عام 2018 منعطفًا مفصليًا في مسارها حين أبرمت في أسمرة اتفاق سلام مع الحكومة الإثيوبية، يقضي بإنهاء العمل المسلّح وعودة الجبهة إلى الداخل لممارسة نشاطها السياسي ضمن الأطر القانونية، ومتابعة أجندتها عبر وسائل سلمية منظَّمة داخل الإقليم.

جاء الاتفاق في سياق التحوّلات التي قادها رئيس الوزراء آبي أحمد عند تولّيه السلطة في منتصف عام 2018، سعيًا إلى إغلاق ملفات الصراع التاريخي، وبناء تعايش داخلي جديد عبر إصلاحات مؤسسية وانفتاح سياسي، قبل أن تتعثر تلك العملية لاحقًا مع اندلاع حرب تغراي. وقد أتاح اتفاق أسمرة للجبهة أن تتحوّل رسميًا إلى كيان سياسي يعمل داخل الإقليم الصومالي، وضمن المنظومة الإثيوبية عمومًا. غير أنّ مسار ما بعد الاتفاق لم يلبِّ توقعات قيادة الجبهة؛ فبعد عامين فقط أعلنت انسحابها من الاستحقاقات الانتخابية الإقليمية والفيدرالية، متهمةً حزب "الازدهار" الحاكم بغياب النزاهة المؤسسية والتلاعب بإجراءات الاقتراع، مع تأكيدها في الوقت نفسه التمسك باتفاق السلام ونبذ العودة إلى العمل المسلّح.

بمرور الوقت، أخذ الشعور بالإحباط يتسرب إلى صفوف الجبهة نتيجة ما اعتبرته انحرافًا للحكومة الفيدرالية والإدارة الإقليمية عن المسار المنصوص في اتفاق أسمرة، وأنّ رئيس الوزراء آبي أحمد تنصّل من التزاماتٍ جوهرية فيه. عاد بعض قيادييها في الأشهر الأخيرة، إلى استدعاء خطاب "المظالم التاريخية" للصوماليين في الإقليم الصومالي التابع لإثيوبيا، مما عمّق هوّة الثقة مع السلطتين الفيدرالية والإقليمية، وأفضى إلى انقسام داخلي بلغ ذروته في يوليو/تموز الماضي، حين أعلن أحد أجنحة الجبهة إجراء انتخابات داخلية، وتشكيل قيادة جديدة برئاسة عبد الكريم الشيخ موسى، المحسوب على تحالف مع الحكومة الإقليمية، وهو ما رفضه جناح القيادة الرسمية التي اتهمت حكومة الإقليم بالتدخل في شؤون الجبهة لإحداث شرخٍ داخلي.

جاء افتتاح المرحلة الأولى من استخراج الغاز الطبيعي في منطقة جيحدن في الشهر الماضي، ليصبح شرارةَ توتّرٍ جديدة بين الجبهة والحكومة الإثيوبية؛ فقد أصدرت الجبهة بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه المشروع، واتهمت أديس أبابا بالانفراد بالقرار دون تشاورٍ مع المجتمعات المحلية، ووصفت الخطوة بأنها انتهاكٌ لحقوق الصوماليين، ومشروعٌ يفتقر إلى الشرعية. لكن اللافت في البيان هو عودتُه إلى مفرداتٍ من قاموس الكفاح المسلّح مثل: "الاستعمار" و"حق تقرير المصير" لشعب الصومال في إثيوبيا، في تحوّلٍ خطابي واضح بعد سنواتٍ من الالتزام بالمسار السياسي.

إن البيئة الاجتماعية والسياسية في الإقليم لم تعد مواتية لدعوات حمل السلاح؛ فالإقليم الذي عُرف سابقًا باضطرابه يُوصَف اليوم بأنه من أكثر مناطق إثيوبيا استقرارًا، إذ لا تنشط فيه حركاتٌ مسلّحة على خلاف أقاليم إثيوبية أخرى

أعاد موقف "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" من مشروع الغاز الطبيعي التذكيرَ بحادثة عام 2007 في منطقة عوبولي (Coboele) بالإقليم الصومالي، حين نفّذت الجبهة هجومًا مباغتًا على موقعٍ تشغّله شركة صينية لتطوير حقل نفطي، ما أسفر عن مقتل نحو 74 من العمّال والفنيين، بينهم صينيون كانوا يديرون المشروع. يومذاك برّرت الجبهة العملية بأنها "دفاعٌ عن حقوق سكّان الإقليم" في مواجهة "نهبٍ للثروات تمارسه منظومة استعمار داخلي". وتبدو الحُجّة ذاتها حاضرة اليوم في خطابها، وإنْ ضمن سياقٍ سياسي مختلف، ومن دون تبنٍّ رسمي لخيارٍ عسكري. وهنا يبرز السؤال المحوري:هل يمكن أن تعود الجبهة إلى العمل العسكري مجددًا؟

لا يبدو رئيس الإقليم الصومالي، مصطفى محمد عمر، معنيًّا بهذا الاحتمال؛ فعندما سُئل عن إمكان عودة الجبهة إلى القتال، أجاب باستخفاف أنّه غير قَلِق، لأن "قيادة الجبهة لم تكن يومًا في ساحات القتال"، ملمّحًا إلى أنّ بعض قياداتها كانت تنعم بالمهجر فيما "ورطت" السكان في صراعٍ مكلف. ويعكس هذا التصريح قناعةً لدى فاعلين محليين بأن البيئة الاجتماعية والسياسية في الإقليم لم تعد مواتية لدعوات حمل السلاح؛ فالإقليم الذي عُرف سابقًا باضطرابه يُوصَف اليوم بأنه من أكثر مناطق إثيوبيا استقرارًا، إذ لا تنشط فيه حركاتٌ مسلّحة على خلاف أقاليم إثيوبية أخرى.

يعود الاستقرار النسبي في الإقليم الصومالي إلى عاملين رئيسين: أولهما الانفتاح السياسي الذي أعقب صعود آبي أحمد إلى السلطة وما أتاحه، في بداياته، من تخفيف القبضة الأمنية وإشارات مصالحة؛ وثانيهما سقوط حاكم الإقليم السابق عبدِ محمّد عمر (عبدي إيلي)، الذي اقترن اسمه بقمعٍ مفرط وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. مثّل انهيار ذلك النظام لحظة تحوّل فارقة لسكان الإقليم وحالة ارتياحٍ عام؛ إذ شعر كثيرون للمرة الأولى بأنهم تخلّصوا من اضطهادٍ مزدوج: قسوة الدولة المركزية من جهة، واضطرابات العمل المسلّح لجبهة تحرير أوغادين من جهة أخرى. لذلك تبدو الشهية الشعبية للعودة إلى أجواء الحرب محدودة للغاية، وهو ما تراهن عليه حكومة الإقليم في لهجتها الحادّة تجاه قيادة الجبهة، ويُفسّر استخفاف رئيس الإقليم باحتمال تجدد العنف.

حدود تأثير الجبهة

تقدّم قيادة "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" نفسها بوصفها حركة نضالية تمتلك "شرعية الكفاح"، وتملك بذلك حق التمثيل للصوماليين في الإقليم الصومالي داخل إثيوبيا؛ وهي رواية تستمدّ بعض وجاهتها من طول مسار الجبهة المسلّح الذي يناهز أربعة عقود، ومساعيها المبكّرة لانتزاع حقّ تقرير المصير. غير أنّ سردية الشرعية هذه تصطدم بتقييمٍ نقدي يذهب إلى أنّ الجبهة، رغم عمرها الطويل، لم تُحقّق مكاسب ميدانية أو سياسية تُذكر: فلا مناطق نفوذ مستدامة تتيح لها التفاوض من موقع قوّة، ولا اختراق اجتماعي واسع يبلور قاعدة شعبية متماسكة. كما أخفقت في بلورة استراتيجية تعبئة تتجاوز الانقسامات العشائرية، إذ ظلّ الانقسام القبلي داخل البنية الاجتماعية الصومالية عاملَ إضعافٍ مزمن؛ ما دفع شرائح من السكان إلى النظر إلى الجبهة كجسمٍ يعبّر، بحسب خصومها، عن مظالم عشيرة بعينها، وهي تهمةٌ دأبت الجبهة على نفيها.

تبدو الجبهة اليوم تنظيمًا منقسمًا فقدَ شعاره المؤسِّس والمتمثّل في "حرّية صوماليّي إثيوبيا" وتآكلت قاعدته، ولم يعد يمتلك لا الجاهزية اللوجستية ولا الانسجام السياسي لإطلاق تمرّدٍ واسع

بلغ الضغط على الجبهة ذروته في عهد حاكم الإقليم السابق عبدِ محمّد عمر (عبدي إيلي)، حيث وُوجهت بترسانةٍ أمنية وأساليب قمعٍ ممنهجة، استهدفت كوادرها ومناطق الحاضنة الاجتماعية لها، فزاد تآكل قدراتها، وتشتّت أنصارها بين الاختفاء القسري وبوّابات سجن أوغادين سيّئ السمعة. وقد شبّه بعض المراقبين نهجه بنهج رمضان قديروف في الشيشان لجهة الجمع بين القبضة الحديدية وسياسات "الهندسة الاجتماعية" لإخضاع الخصوم. في محصلة تلك المرحلة، وجدت الجبهة نفسها أمام فجوةٍ واضحة بين طموحاتٍ تاريخية عريضة وقدرةٍ متضائلة على التأثير في موازين القوى داخل الإقليم.

عقب تراجع نفوذ "الجبهة الشعبية لتحرير تغراي" وخروج حلفائها من مفاصل الحكم عام 2018، أطلق رئيس الوزراء الجديد آنذاك آبي أحمد حزمة إصلاحات سياسية، شملت شطب عدد من الحركات المسلّحة، ومنها "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" من قوائم الإرهاب، وفتح قنوات حوار معها، تُوِّجت باتفاق سلام أُبرم في أسمرة. إثر ذلك، انخرطت الجبهة في العمل العلني بوصفها كيانا سياسيا مرخَّصا داخل إثيوبيا، لكنها لم تنجح في تحويل هذا الانتقال إلى نفوذٍ سياسي فعّال، لا على مستوى الإقليم الصومالي ولا في الساحة الفيدرالية. وسرعان ما ظهرت بوادر تبرّم لدى قيادتها من قواعد اللعبة السياسية، فامتنعت عن خوض أول استحقاق انتخابي أعقب الاتفاق؛ خطوةٌ رأى فيها مراقبون مؤشرًا على محدودية قدرتها التنظيمية والسياسية على المنافسة والتأثير.

هل ثمة أرضية لحربٍ جديدة؟

يميل ميزانُ القوّة اليوم ضدّ "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين"، فحتى قبل نزع سلاحها كانت قد استُنزفت تنظيمًا وعسكريًا، ولمّا دخلت المعترك السياسي تفاقم التشرذم الداخلي؛ إذ انصرف عن صفوفها كثيرون، ممّن استهوتهم سابقًا شعارات "تحرير أوغادين" حين وجدوا أنفسهم أمام صراعات محليّة ومساومات عشائرية. عمليًا، تخلّت الجبهة عن لُبّ خطابها التاريخي وفقدت، مع مرور الوقت، جزءًا معتبرًا من رصيدها الاجتماعي والرمزي.

على صعيد القيادة، لم تعد الجبهة كتلةً واحدة. فبعد اتفاق السلام تنحّى أمينها العام المخضرم، الأدميرال محمد عمر عثمان (1998–2019)، الذي عُرف بمركزيّة قراره وقلّة إشراكه لبقية القيادات. وخلال عهده شاخت الكوادر الميدانية أو سقط كثيرٌ منها قتيلًا، ومنهم محمد سراد دولال الذي اغتيل عام 2009. وقد فتح تنحّيه، ثم إنهاء الكفاح المسلّح، البابَ أمام صراع نفوذٍ بين الأجنحة الداخلية، وسهّل دخول لاعبين سياسيين من خارج الجبهة إلى بنية القرار، ما عمّق الانقسام.

بهذه المعطيات تبدو الجبهة اليوم تنظيمًا منقسمًا فقدَ شعاره المؤسِّس والمتمثّل في "حرّية صوماليّي إثيوبيا" وتآكلت قاعدته، ولم يعد يمتلك لا الجاهزية اللوجستية ولا الانسجام السياسي لإطلاق تمرّدٍ واسع. وهذا لا ينفي إمكان لجوء مجموعاتٍ أو أجنحة إلى محاولات عنيفة متفرّقة تُربك مناطق محدّدة أو تستهدف، في الحدّ الأدنى، مشروعات الطاقة؛ احتمالٌ تدركه الحكومة الإثيوبيّة وإن كانت تقيّمه ضعيفًا، لأنّ الاشتعالَ في الإقليم الصومالي هو آخر ما تحتاجه إثيوبيا راهنًا.

تخلّت الجبهة عن لُبّ خطابها التاريخي وفقدت، مع مرور الوقت، جزءًا معتبرًا من رصيدها الاجتماعي والرمزي

في المقابل، يراهن آبي أحمد على مشروع الغاز في الإقليم الصومالي بوصفه مكسبًا اقتصاديًا واستراتيجيًا، لكن طريقة إدارة الملف قد تشعل توترات قديمة. فالإقليم ليس مجرد خِزانٍ للثروات؛ إنه أيضًا خطّ تماسّ أمني مع الصومال في مواجهة "حركة الشباب"، وساحة تنافس إقليمي مع مصر، وحلقة حساسة في علاقة المركز بالأطراف داخل دولة مثقلة بتاريخ من التوترات القومية. وأيّ خلل في عدالة توزيع العوائد، أو تهميش لحقّ السكان في المشاركة والرقابة، قد يتحوّل سريعًا إلى غضبٍ شعبي يغذّي خطابًا تعبويًا تتقنه الجبهة. لهذا تتمثل الأولوية بإدارة شفافة لمسألة الموارد. أمّا الاحتماء بشعارات "المصلحة الوطنية" لتمرير تهميش السكان، فيمنح الجبهة ذريعة جاهزة لاستدعاء خطاب "الاستعمار الداخلي"، حتى وإن كانت عاجزةً بنيويًا عن خوض تمرّدٍ واسع.

بناءً على ما سبق، يبدو احتمالُ عودة "الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين" إلى السلاح ضعيفًا على مستوى التمرّد المنظّم؛ إذ تفتقر الجبهة إلى الجاهزية اللوجستية، وتكبّلها انقساماتٌ قيادية، كما أنّ البيئة الاجتماعية بعد سنواتٍ من هدوءٍ نسبي لا تميل إلى مغامرة مسلّحة جديدة. ومع ذلك، لا يلغي الضعفُ الاحتمالَ تمامًا؛ فالتصعيد اللفظي حول ملفّ الغاز، واستدعاء قاموس «التحرّر» و«تقرير المصير» يوحيان برغبةٍ في إعادة التموضع والتذكير بالوجود وربما تجميع الصفوف حول قضيةٍ جامعة.

خلاصة الأمر، أنّ الجبهة اليوم أضعف من إشعال حربٍ على شاكلة ما عرفه الإقليم سابقًا، لكنها تظلّ قادرة، متى توفّرت الدوافع والفرص، على تعطيلٍ موضعي يُحرج الدولة، ويعطّل بعض المشروعات الاستراتيجية. وعليه، فإنّ الرهان الأجدى لأديس أبابا ليس على القبضة الأمنية وحدها، بل على عقدٍ اجتماعي جديد يجعل الثروة شراكةً لا شرارةَ صراع، عبر حوكمةٍ شفافة للموارد تتضمّن عقودًا مُعلنة، وتقاسمًا عادلًا للعوائد، وآلياتٍ تشاركية، واستثمارًا مباشرًا في الخدمات والبنية التحتية. عندها يغدو سؤال "هل تتطلّع الجبهة إلى حربٍ جديدة؟" بلا جمهور.