تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

الهُدن في الحرب السُودانية: فرصٌ ضائعة ومعاناةً متجدّدة!

23 يوليو, 2025
الصورة
الهُدن في الحرب السُودانية: فرصٌ ضائعة ومعاناةً متجدّدة!
Share

في خضمِّ اشتعال النزاع المسلح بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ منتصف أبريل/نسيان 2023، طُرحت عدة مبادرات أممية ودولية لوقف إطلاق النار والتدخل لتسوية الأزمة، لاسيما في أشهره الأولى، هدفت إلى إتاحة الفرصة أمام الجهود الإنسانية، وفتح ممرات آمنة للمدنيين العالقين تحت نيران الحرب. إلا أن هذه الهدن القصيرة والهشّة تحوّلت، إلى مجرد فواصل زمنية زائفة لم تخلُ من صوت الرصاص واستهداف المدنيين، ما كشف عن إخفاقٍ سياسي وعسكري مزدوج في احترام المبادئ الإنسانية، وأدى إلى تعميق الكارثة التي يواجهها الملايين في البلاد وتأثيراتها الاقليمية المتعددة الأبعاد إقليميا ودولياً.

هُدن وخروقات متكررة

في أواخر يونيو/حزيران المنصرم، أعلن الجيش السوداني موافقته على مبادرة أممية لوقف إطلاق النار لمدة أسبوع، بينما نفت قوات الدعم السريع تلقيها أي اتصال رسمي بهذا الشأن، ما يعكس هشاشة الالتزام بالهدنة ويكشف الفجوات العميقة في التنسيق بين الأطراف المتحاربة والوسطاء، وذلك في ظل اتهامات ولاسيما من السفارة الأمريكية في السودان بأن أطراف الصراع، تستخدم حجب المساعدات كأداة حرب، الأمر الذي يقوّض الجهود الإنسانية وسط تصاعد القتال في شمال دارفور.

حتى بداية يونيو/حزيران 2023، أُعلِنت أكثر من 11 هدنة قصيرة الأجل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان، وخُرقت جميعها بشكل شبه فوري، دون أن تنجح في وقف القتال أو تخفيف المعاناة الإنسانية. في حين يعارض الجيش، أي هدنة تتيح لقوات الدعم السريع التقاط أنفاسها، تتهم الأخيرة الجيش بعدم الجدية والتمسك بالتصعيد العسكري خيارا استراتيجيا.

بدأت أولى هذه الهدن في 16 أبريل/نيسان، بمبادرة من الأمم المتحدة تقضي بوقف القتال لمدة ثلاث ساعات يوميًا لأغراض إنسانية. ورغم إعلان الجيش والدعم السريع موافقتهما عليها، فإن العاصمة بمُدنها الثلاثة؛ الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، ومدناً أخرى مشتعلة مثل نيالا والأبيض، ظلت تشهد تبادلاً كثيفاً للنيران، مما أظهر خرقاً واضحاً للهدنة.

جاءت الهدنة الثانية في 18 أبريل/نيسان، بعد تواصل مباشر بين قيادة قوات الدعم السريع ووزير الخارجية الأمريكي حينئذ أنتوني بلينكن، في إشارة واضحة إلى محاولة الخارج دفع الطرفين نحو تهدئة محدودة. لكنّ موقف الجيش السوداني كان متردداً ومتشككاً، إذ وُصف المبادرة بأنها غير منسقة، واتهم قوات الدعم السريع بمحاولة استغلالها للتغطية على هزيمتها. ومع دخول الهدنة حيّز التنفيذ، تجددت الاشتباكات، وتبادل الطرفان الاتهامات بإنتهاكها.

الفشل المتكرر للهُدن يوجّه ضربة قاسية لآمال الحل السياسي، فبعض القوى الدولية والإقليمية بدأت تفقد الثقة في إمكانية الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، فيما يزداد إيمان أطراف النزاع بأن الحسم لن يأتي إلا بالقوة العسكرية

كانت الهدنة الثالثة في 19 أبريل/نيسان، ولم تختلف كثيراً عما سابقاتها. حيث أعلن الطرفان وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، لكنّ العنف تواصل على الأرض، ولم يسفر عن تهدئة فعلية. أما الهدنة الرابعة التي جاءت في 21 في الشهر ذاته، بمناسبة عيد الفطر، فقد كانت الأطول (72 ساعة)، وبدت في ظاهرها فرصة مناسبة لمراجعة الأوضاع، إلا أنها لم تحظَ بالالتزام الكامل، واستمر القتال بوتيرة متفاوتة.

في مايو/أيار 2023، أطلقت السعودية والولايات المتحدة مبادرة للتدخل في جدة السعودية، والتي ركزت، على هدنة إنسانية قصيرة واتفاقات لحماية المدنيين. إذ وقع الطرفان المتحاربان اتفاق "إعلان الالتزام بحماية المدنيين" في 11 مايو/أيار، واتفاق "الهدنة قصيرة الأجل والترتيبات الإنسانية" في 20 مايو/أيار، ثم خاضا جولة ثانية من المفاوضات بين أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2023 بمشاركة الإيغاد. غير أنها انهارت عملياً بعدم الالتزام. فالميدان ظل مشتعلاً ما عمّق مأساة المدنيين، وأبقى المساعدات مقيدة، والجرائم مستمرة. كما أن المباحثات التي عقدت في جنيف في 23 أغسطس/آب 2024 لم تحرز تقدماً يُذكر، بعد أن اشترط البرهان انسحاب الدعم السريع أولاً، ما أطاح بفرصة جديدة لبناء الثقة.

وفي محاولة لإعادة توحيد الجهود، تبنى الاتحاد الإفريقي خارطة طريق شاملة في مايو/أيار 2023، سعت إلى وقف شامل ودائم للأعمال العدائية، واستئناف عملية انتقال سياسي شاملة بقيادة مدنية. ورغم الطابع التشاركي والشمولي لهذه الآلية، حيث مشاركة شركاء إقليميين ودوليين مثل الأمم المتحدة، لم تُحقق النتائج المرجوة، مما يقود إلى طرح تساؤلات جوهرية حول جدلية العلاقة بين الوساطة التقليدية ومدى استدامة السلام في سياق صراعٍ تتداخل فيه الأجندات الداخلية والخارجية.

خيبات حارقة

رغم ما تحملهُ الهدن المعلنة من آمالٍ معلّقة لدى المدنيين المنهكين، فإن توالي خرقها كشف عن ما هو أبعد من مجرد فشل دبلوماسي، حيث فضحت هشاشة الإرادة السياسية والالتزام الأخلاقي لدى الأطراف المتحاربة لإنهاء القتال، وحوّلت هذه الهدن، عمليًا، إلى فخاخ مؤقتة تهدّد حياة الأبرياء، وتعمّق معاناتهم.

فكل إعلان عن هدنة كان بمثابة نافذة أمل ضيقة للأسر المحاصَرة والمشرّدة، للخروج من بُؤر القتال أو للحصول على ما يسدّ رمقهم من غذاء أو دواء أو ماء، أو حتى للبحث عن وسيلة تواصل مع أقارب ومعارف قُطِعت بهم السُبل. غير أن هذه التطلعات ما لبثت أن اصطدمت بخيباتٍ موجعة باستمرار، فسرعان ما تُنتهك تلك الهدن، لتعيد المدنيين إلى دائرة الخطر أو تتركهم في مواجهة واقع لا يختلف كثيراً عن أوقات الاقتتال من حيث انعدام الخدمات وانهيار آليات الأمن.

أدى غياب قيادة موحدة داخل الأطراف المتحاربة، وتضارب المواقف الإقليمية والدولية، إلى غياب الضغط الحقيقي القادر على فرض وقف إطلاق نار ملزم في ظل استغلال أطراف الحرب للهُدن كأداة تكتيكية لا كمدخل لإنهاء الصراع

تحوّلت الهدن، بسبب هشاشتها وتكرار فشلها، إلى ما يشبه المسكّن المؤقت للألم، لا يلبث أن يتبخر مع أول رصاصة، مُخلفاً وراءه موجة جديدة من الانكسار واليأس. هذا النمط المتكرر غذّى ما يشبه الحلقة المفرغة من الأمل الخائب يليه الإحباط الحارق، في مشهد مأساوي تتجدد فيه الصدمات النفسية في كل مرة يُخدع فيها الضحايا بإعلان هدوء مؤقت، ليجدوا أنفسهم في لحظة غدر أو في واقع خاوٍ من الحياة الآمنة.

دبلوماسية غير مثمرة

تكشف تجارب الهدن التي ظلت تفشل باستمرار، عن افتقارها إلى الآليات الرقابية والتنفيذية الفعّالة والمحايدة، واتسمت بالوصاية الخارجية شبه المطلقة. حيث لم يأتِ الإعلان عنها إلا تحت ضغوط دبلوماسية دولية أو إقليمية مكثفة، دون توافقٍ داخلي حقيقي فعّال أو التزامٍ جوهري من الأطراف المتحاربة ببنودها. كما أدى غياب قيادة موحدة داخل الأطراف المتحاربة، وتضارب المواقف الإقليمية والدولية، إلى غياب الضغط الحقيقي القادر على فرض وقف إطلاق نار ملزم في ظل استغلال أطراف الحرب للهُدن كأداة تكتيكية لا كمدخل لإنهاء الصراع.

يسُجّل، عقب كل إعلان عن هدنة، غياب شبه كامل لأي رقابة مستقلة وفعّالة، سواء محلية أو دولية أو مشتركة. هذا الفراغ الرقابي خلق بيئة خصبة لتكرار الخروقات، في ظل حالة هشاشة أخلاقية واضحة من قبل أطراف النزاع، وتجاهلٍ صارخ للالتزام بالقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربع، التي تُعد المرجعية الأساسية في حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة.

كما حوّلت هذه البيئة، فترات الهُدن، إلى مجرد بيانات سياسية فارغة غير قادرة على إحداث أي تغيير ملموس في أرض الواقع. لا يعكس هذا الإخفاق فقط فشل الأطراف السودانية في احترام الحد الأدنى من التزاماتها، بل يفضح أيضاً قصور البنية الدولية والإقليمية في التعامل مع النزاعات غير المتوازنة، حيث يفلت من العقاب من يخرق، ولا يُحفَّز من يلتزم. واقعٌ يجعل من كل هدنة فرصة ضائعة جديدة، تزيد من تعقيد الأزمة، وتطيل أمد المعاناة الإنسانية التي يدفع ثمنها المدنيون أولاً وأخيراً.

أجندات متضاربة

رغم ما كان يمكن أن تمثله فترات الهدن، رغم قصر مدتها، من فرص للتأمل والمراجعة في فظائع الحرب، ومنافذ لبداية حوار أو إختراق سياسي أو إنساني، أو على الأقل لتقييم الكلفة المتزايدة للصراع على المجتمع والاقتصاد، فإن الواقع كشف عن استغلال عسكري فجّ لها من قِبل الأطراف. ولم تعد هذه الوقفات، إلى جانب ذلك النمط الذي يكون اضطرارياً لكل الأطراف لتتوقف الاشتباكات مؤقتاً لأسباب لوجستية، مجرد توقُّفٍ مؤقت لزئير المدافع، بل تحوَّلت إلى أدوات حربٍ بوسائل أخرى بدلاً أن تصبح فترة تهدئة حقيقية.

فقد لاحظنا خلالها، تسجيلاً ملفتاً لأنماط مختلفة من الانتهاكات المنظمة، وقد تجسّدت في شكل استمرار الأعمال العدائية في مناطق محددة بشكلٍ انتقائي، أو عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، أو إعلان إجراءات وسياسات قابضة مثل سياسة تبديل العملة من قِبل حكومة بورتسودان من جهة، وحظر الدعم السريع تصدير بعض السلع والبضائع من إقليم دارفور إلى ولايات وسط وشمال السودان وشرقه من جهة أخرى، مما أفقد الهُدن معناها الإنساني والحقوقي الأساسي، وضعّف الثقة بها جذرياً وفي فعاليتها لدى المدنيين.

كما حوّلتها الأطراف المتحاربة إلى أدوات تشغيلية، لتعزيز مكاسبها العسكرية والاستراتيجية على الأرض. وذلك بإعادة التنظيم والتموضع للهجوم، أو لتعزيز خطوط الدفاع، وغالبًا ما ترافقت معها عمليات ترهيب واستهداف للمدنيين في المناطق التي تتغير فيها السيطرة. مثال صارخ على ذلك ما حدث في ولاية الجزيرة، حيث وقعت انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين عقب سيطرة قوات الدعم السريع في ديسمبر/كانون الأول 2023، ثم خلال استعادة الجيش للمنطقة في يناير/كانون الثاني 2025، في ظل اتهامات متبادلة بالانتقام من السُكان المشتبه في تعاطفهم مع الخصم.

كذلك حُوّلت هذه الوقفات القصيرة، إلى ساحةِ مناورات دبلوماسية واسعة، وميداناً لشن حروبٍ إعلامية تعزز السرديات الزائفة حول الانتصارات؛ بسعي كل طرف إلى تحسين صورته أمام المجتمع الدولي والإقليمي، من خلال إظهار التزامه بوقف إطلاق النار، بينما يتهم خصمه بانتهاكه. تستهدف هذه المناورات كسب التعاطف الخارجي وفتح قنوات دعم جديدة، ما ينعكس مباشرة على موازين القوى في الميدان. ذلك في ظل تقاطع رؤية العديد من القوى الخارجية، إلى هذه الفترات كفرص لإعادة ترتيب أوراقها عبر دعم وكلائها المحليين دون انخراط مباشر، مستغلةً حالة اللااستقرار لتكريس نفوذها الاستراتيجي والاقتصادي في المدى البعيد، سواء من خلال صفقات السلاح، أو عبر ترتيبات سياسية خلف الستار.

تكاليف باهظة لفشل الهُدن

في ظل غياب التزام فعلي من الأطراف المتحاربة، أسهمت هذه الهدن المتكررة الفشل، في تطبيع العنف الدوري، بحيث باتت فترة "الهدوء" مجرد محطة مؤقتة في دورة صراع متكررة. لا تُفضي لا إلى حسم عسكري حاسم، ولا إلى تفاوض جاد ومستقر، مما يجعل الحرب أكثر تمدداً وغموضاً، وفق تقديرات مراقبين.

وقد شكّلت هذه الفترات أرضية خصبة لإعادة انتشار الجماعات المسلحة وظهور تحالفات جديدة، ما أعاد رسم خطوط التماس العسكري بشكل متغير باستمرار، وزاد من تعقيد خارطة السيطرة. يتجلى ذلك بوضوح في التموضعات العسكرية الجديدة لقوات الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو في إقليم كردفان، سواء بشكل مستقل أو بتحالفات مع قوات الدعم السريع، وكذلك في تحركات قوات حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور في دارفور، وتمركزات حركات أخرى في شرق ووسط السودان. وهو ما يجعل أي تفكير مستقبلي في عمليات نزع السلاح أو دمج القوات في جيش وطني موحد، أشبه بالمهمة شبه المستحيلة.

على الصعيد الإنساني، تحمل الهدن الفاشلة تكلفة باهظة لا يُلتفت إليها غالباً. إذ تجد المنظمات الإغاثية نفسها مجبرة على التحرك بسرعة في بيئة متقلبة، تخاطر خلالها بطواقمها ومواردها، أملاً في استغلال فُرص قصيرة لتمرير المساعدات. لكن هشاشة الوضع وانعدام الضمانات يؤديان إلى هدر الجهود وتعطيل الإغاثة، مما يُعمّق من أزمات الجوع والمرض والنزوح، ويترك آثاراً طويلة الأمد على الصحة العامة في مناطق منكوبة أصلاً.

في ظل غياب التزام فعلي من الأطراف المتحاربة، أسهمت هذه الهدن المتكررة الفشل، في تطبيع العنف الدوري، بحيث باتت فترة "الهدوء" مجرد محطة مؤقتة في دورة صراع متكررة

وفي أقاليم دارفور وكردفان والشرق ووسط السودان، تحوّلت فترات "الهدوء المؤقت" إلى مواسم للفوضى والانتقام. إذ استغلتها ميليشيات مسلحة، بعضها متحالفة أو مدعومة من أطراف النزاع الرئيسة، لفرض هيمنة مناطقية، أو إثنية، وتأجيج الصراعات القبلية. فبدلاً من أن تكون الهُدن فرصةً لالتقاط الأنفاس ولو قليلاً، باتت محفزاً لانهيار النسيج الاجتماعي، وزرع بذور نزاعات أكثر تعقيداً في المستقبل، بحسب ما حذر منه مراقبون وناشطون محليون وفاعلون في المجتمع المدني السوداني والاقليمي.

خلف هذه الفوضى في الإدارة الفاشلة للهُدن، تنامت اقتصاديات الحرب وانتعشت شبكات التهريب والجريمة المنظمة، خاصة في الولايات الحدودية مثل جنوب دارفور المتاخمة مع افريقيا الوسطى، وغرب دارفور مع تشاد، وشرق دارفور مع جنوب السودان، والولاية الشمالية مع مصر وليبيا. فقد وفّرت هشاشة الهُدن وضعف الدولة، بيئة مثالية لانتعاش أنشطة النهب والابتزاز وتهريب الموارد الحيوية. ومع انعدام المساءلة، بات من الصعب تفكيك هذه الشبكات حتى بعد توقف القتال.

على الصعيد الدولي، فإن الفشل المتكرر للهُدن يوجّه ضربة قاسية لآمال الحل السياسي، فبعض القوى الدولية والإقليمية بدأت تفقد الثقة في إمكانية الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، فيما يزداد إيمان أطراف النزاع بأن الحسم لن يأتي إلا بالقوة العسكرية. هذه القناعة تُقوّض فرص الحوار وتُفرغ المساعي الدبلوماسية من مضمونها، وتدفع المجتمع الدولي نحو ما يُعرف بإرهاق الأزمة، حيث تتراجع الحماسة السياسية وتضعف الاستجابة الإنسانية، ليجد المدنيون أنفسهم مجدداً في قلب المأساة، محرومين من أبسط ضمانات الحماية التي يُفترض أن توفّرها الهدن.

تكشف تجربة الهُدن في حرب 15 أبريل/نيسان في السودان، أن وقف إطلاق النار لا يصنع السلام، ولا يقود إلى إنهاء الحرب، إذا لم يُبْنَ على إجراءات دبلوماسية فعالة وإرادة سياسية حقيقية. فالهدنة ليست مجرد لحظة استراحة، إنما هي امتحان لمدى التزام الأطراف بمسؤولياتها تجاه المدنيين، وفرصة لإعادة بناء الحد الأدنى من الثقة لدى الضحايا. إن تكرار اختراقها لا يؤدي فقط إلى استمرار الحرب، بل إلى تآكل ما تبقى من ثقة في مستقبل سياسي أو اجتماعي قابل للحياة.

كما أوضحت أن فشل الهدن، لا يُقاس فقط بعدد الخروقات أو توقف القتال مؤقتاً، بل بآثارها العميقة والمركبة على أمن البلاد، نسيجها الاجتماعي، واقتصادها السياسي. ومع تكرار الفشل، تتحول كل هدنة جديدة إلى وعد مكسور، يزيد من تعقيد الحرب ويُطيل أمد معاناة المدنيين، في مشهد يبدو أبعد ما يكون عن نهايته.

وعليه، فإن فهم ديناميكيات السياق السوداني، وما سوف تسفر عنه الهُدن قبل لحظة اعلانها، أمرٌ بالغ الأهمية لأي جهودٍ مستقبليةٍ تهدف إلى تصميم هدنٍ ذات معنى، أو التمهيد لعمليات سلامٍ مستدامة في السودان. هذه الفترات ليست مجرد توقفٍ للقتال، بل هي فصولٌ نشطةٌ في استراتيجية الصراع نفسه، وإلا سوف تتحول الهدن، التي يُفترض أن تكون بوابة للحل، إلى أدوات لتعقيد الأزمة، ومرايا تعكس هشاشة المسار السياسي، وتُعيد إنتاج العنف والمعاناة في مشهد تتزايد فيه تكلفة الانتظار.