الثلاثاء 5 نوفمبر 2024
تناقش كتابات الفيلسوفة آميا سرينيفاسان - وأستاذة النظرية السياسية والاجتماعية بجامعة أوكسفورد - قضايا متعددة تواجه الحركة النسوية، من بينها: مفهوم التراضي في العلاقة الجسدية، والتقاطعية في الفكر النسوي، وظاهرة كراهية النساء، والعنف القائم على النوع الاجتماعي. صدر لها في عام 2021 كتاب (الحق في الجنس) الذي تضمن انتقادات للحركة النسوية فيما يخص تناولها موضوع الرغبة. تعتقد سرينيفاسان أن النسوية ليست فلسفة، وليست نظرية، ولا حتى مجموعة من الأفكار، بل هي في جوهرها صراع سياسي.
ولدت سرينيفاسان عام 1984 في البحرين لأب هندي كان يعمل في مجال البنوك، وأم هندية تخصصت في الرقص الكلاسيكي، وتنقلت في طفولتها بين سنغافورة وتايوان ونيويورك. درست الفلسفة في جامعة ييل، ولاحقا في جامعة أكسفورد حيث تمكنت من الاندماج في مجتمع الفلسفة التحليلية. في عام 2019 حصلت على كرسي Chichele في النظرية السياسية والاجتماعية بجامعة أكسفورد، وهو الكرسي الذي شغله إيزايا برلين، لتصبح بذلك أول امرأة، وأول شخص من ذوي البشرة الملونة، وأصغر شخص على الإطلاق يتولى ذلك المنصب الأكاديمي.
تقول في إحدى المقابلات في سياق حديثها عن الجنس: "ثمة توازن دقيق يجب تحقيقه بين الاعتراف بالمبادئ التي من المفترض أن تحمي الخصوصية الجنسية، وخاصة مبدأ التراضي من ناحية، والاعتراف بالطرق التي يمثل بها الجنس شأنا عاما وسياسيا في العمق من ناحية أخرى".
يتألف كتاب (الحق في الجنس) من خمسة مباحث مثيرة للجدل تناولت هذه الموضوعات: مفهوم التراضي في العلاقة الجسدية، والمواد الإباحية، وامتهان الجنس مقابل المال، والعلاقات بين الطلاب والمعلمين، وحركة تحرير المرأة.
شرعت سرينيفاسان في تأليف الكتاب عام 2018 عبر مقالة نُشرتْ في London Review of Books معنونة بـ (هل يملك أي شخص الحق في الجنس؟)، ناقشت المقالة حادثة إطلاق النار المروعة التي ارتكبها إليوت رودجر في كاليفورنيا عام 2014، وهو شاب من أب بريطاني وأم ماليزية؛ قبل انتحاره في اليوم ذاته. بعث رودجر رسالة طويلة عن طريق البريد الإلكتروني لأفراد عائلته وبعض معلميه السابقين وأصدقاء طفولته، بالإضافة إلى معالِجته النفسية، كانت الرسالة بعنوان (عالمي المُعوجّ: قصة إليوت رودجر) وشرحت - بالإضافة لمقاطع منشورة بقناته في اليوتيوب - دوافع الجريمة التي ارتكبها. يقول رودجر في بداية رسالته: "كل ما أردته في هذه الحياة هو أن أندمج مع الآخرين وأكون سعيدا، لكن تمَّ إقصائي ورفضي، وأُجبِرتُ على تحمُّل الوحدة وتفاهة الوجود، كل ذلك بسبب الإناث اللواتي افتقرن إلى القدرة على رؤية قيمتي الذاتية".
كان رودجر يعاني من كونه Incel أي: عزوف الفتيات عن إقامة علاقة عاطفية أو جسدية معه. هل يمكن أن يقال أن عجز رودجر عن جذب الفتيات كان أحد أعراض تأثر الفتيات بمعايير الأبوية التقليدية للجاذبية الجنسية؟ ترى آميا أنه يصعب الإجابة بـ "نعم" على هذا السؤال، نظراً لأن روجر كان صاحب شخصية غريبة وبغيضة، بسبب إصراره الدائم على تفوقه الجمالي والعرقي من جهة أبيه، وتأكيده كذلك على نباهته وتميزه الأخلاقي في معرض حطه من قدر بعض الشباب حوله الذين كانوا يحظون بعلاقات مع الفتيات عكسه. كما أن ما قام به - ضمن بقية جرائم القتل التي ارتكبها في ذلك اليوم - من طعن أصدقائه وزملائه في السكن 134 مرة يشي بمعاناته من مشاكل عويصة لا علاقة لها بمدى توافقه مع معايير الجاذبية التقليدية، خصوصا وأن النساء كثيرا ما ينجذبن لرجال قد لا تنطبق عليهم تماما تلك المعايير الجسدية.
تجادل سرينيفاسان أنه من أجل محاولة الإجابة على سؤال "هل ممارسة الجنس حق يملكه المرء أم لا؟" فإن الأمر يتطلب إدراك أن فكرة وجود تفضيل جنسي ثابت متفق عليه هي فكرة سياسية بامتياز وليست فكرة ميتافيزيقية، إذ عادة ما نتعامل مع ما يريده الآخر جنسيا بريبة أو بحذر وأحيانا بتقديس. لكن الحقيقة -كما ترى سرينيفاسان - تكمن في أن الميول والتفضيلات الجنسية ليست ثابتة بالضرورة وتغيرها ليس مستحيلا.
ترى سرينيفاسان أن هناك بالطبع مخاطر حقيقية مرتبطة بإخضاع تفضيلاتنا الجنسية للتدقيق السياسي. نعم؛ بإمكان الحركة النسوية السعي لفهم أسباب الرغبة ولكن دون تزمُّت أو تشهير أو إلصاق وصمة عار، ودون إنكار حق المرأة كفرد في اختيار ما يُمتعها، أو إخبار النساء بأنهن لا يعرفن حقا ما يرغبن فيه.
تعتقد بعض النسويات أن الانفتاح على نقد "الرغبة" سيؤدي حتما في نهاية المطاف إلى "الأخلاق الاستبدادية"، وتؤكد سرينيفاسان أن هذا أمر مستحيل؛ تلك النسويات يتصورن ما يمكن أن نطلق عليه "الإيجابية الجنسية القائمة على الخوف"، على غرار المفهوم الذي نحتته المنظرة السياسية جوديث شكلر في ورقتها الشهيرة "ليبرالية الخوف" التي تناولت ليبرالية مدفوعة بالخوف من البدائل الاستبدادية ، بيد أنها خلقت في النهاية استبدادا من نوع آخر.
هناك أيضا خطر يتمثل في احتمال أن تؤدي إعادة تسييس الرغبة إلى تشجيع خطاب "الاستحقاق الجنسي"، إذ تشير سرينيفاسان في كتابها إلى أن الحديث عن الأشخاص المهمشين جنسيا يمكن أن يمهد الطريق لفكرة مفادها: "أن هؤلاء لهم الحق في ممارسة الجنس، وهو حق ينتهكه من يرفض ممارسة الجنس معهم". الفكرة مزعجة، فلا أحد ملزم بممارسة الجنس مع أي شخص آخر، وهذا أمر بديهي، بالرغم من رفض إليوت رودجر له، ورفض جحافل المعجبين بهويات مجهولة، والذين اعتبروه "شهيدا" واحتفوا بجريمته بمنتديات في الانترنت، أغلق أغلبها بسبب خطاب الكراهية والتحريض على العنف الذي تبثه من قبيل "لا يجب أن يذهب أي رجل جائع إلى السجن بتهمة السرقة، ولا يجب أن يسجن أي رجل جائع جنسيا بتهمة الاغتصاب!".
ربما يحدث أحيانا أن يتم استبعاد بعض الرجال من المجال الجنسي لأسباب مشبوهة أو غير منصفة، لكن في اللحظة التي يتم فيها توجيه استيائهم أو غضبهم نحو النساء عوضا عن محاولة بحث وعلاج الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، وفهم الأنظمة التي تخلق مفهوم "الرغبة" لديهم ولدى الآخرين، فإنهم يكونون بذلك قد تجاوزوا الحد صوب شيء قبيح ومُربِك أخلاقيا.
لا تزعم سرينيفاسان أن الرغبات والتفضيلات المتشابكة مع هياكل القوة والعادات الاجتماعية الشائكة خاطئة، ولا تفترض أنها ليست أصيلة، لكنها تشجعنا على أن نطرح على أنفسنا أسئلة غير مريحة: ما هي الظروف والدوافع والجذور لما نحبه ونشتهيه؟ فالهدف ليس "تأديب الرغبة" بل مواجهة الطرق التي تمَّ تشكيل رغباتنا بها منذ الولادة، بحيث أصبحت أجساد معينة فقط جديرة بـ"الاهتمام" و"جميلة" و"صالحة" لممارسة الجنس.
تؤكد سرينيفاسان أنه يمكن للرغبة أن تقود المرء إلى مكان لم يتصور الوصول إليه، أو نحو شخص لم يتخيل أن يشتهيه أو يحبه، ويمكن للرغبة كذلك أن تثور ضد ما حدده المجتمع أو حددته السياسة. الجنس ليس شطيرة يتقاسمها المرء مع الآخر بدافع الإحسان أو الشفقة، كما أنه لا يشبه أية غريزة بشرية أخرى، ولا يوجد شيء مماثل ممزَّق بين كونه شأنا سياسيا عاما من جهة وكونه مسألة فردية ذات خصوصية تستعصي أحيانا على الانتهاك من جهة أخرى.