الخميس 15 مايو 2025
على مدار القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، استمرت الحدود المرئية، سواء كانت مادية أو رمزية، تاريخية أو طبيعية، في أفريقيا ما بين تمدد وانكماش. وساهم الطابع الهيكلي لعدم الاستقرار بشكل كبير في تغيير الجسم الإقليمي للقارة. فظهرت أشكال جديدة من الإقليميات وأشكال غير متوقعة من المحليات، ما جعل حدودها غير متطابقة بالضرورة مع الحدود الرسمية أو المعايير الجغرافيا أو لغة الدول. كما برزت جهات فاعلة جديدة، داخلية وخارجية، منظمة في شبكات، تَفرض، غالبًا بالقوة، حقوقها على هذه الأراضي، والغريب أن الخطاب الذي يُفترض أن يشرح هذه التحولات قد أغفلها.
بصورة عامة، هناك أطروحتان تتجاهلان بعضهما البعض. فمن جهة، تسود الفكرة التي تقول إن الحدود التي تفصل بين الدول الأفريقية هي نتاج استعماري، بذلك يكون رسم الحدود الأفريقية تعسفيًا. فقد يُقال إنها فصَلت بين شعوب وكيانات لغوية ومجتمعات ثقافية وسياسية كانت تُشكل وحدات طبيعية ومتجانسة قبل الاستعمار. علاوة على ذلك، يُقال إن الحدود الاستعمارية مهدت الطريق لتفتيت القارة إلى مجموعة من الدول الصغيرة غير القابلة للحياة اقتصاديًا، والتي ظلت أكثر ارتباطًا بمستعمرها من بيئتها الإقليمية. التزاما بمبدأ عدم المساس بها، كرّست منظمة الوحدة الأفريقية (OUA) في عام 1963 هذه التشوهات ومنحتها شرعية. ويرى البعض أن عدم دقة الحدود الموروثة عن الاستعمار كان سببًا في العديد من النزاعات الحالية، وأنه لا يمكن تجاوز هذه الحدود إلا من خلال سياسات قوية للتكامل الإقليمي، تُكمَّل باتفاقيات للدفاع والأمن الجماعي.
من جهة أخرى، هناك أطروحة تقول إن نوعًا من التكامل الإقليمي يحدث "من الأسفل". ويتمثل هذا التكامل في أطراف المؤسسات، من خلال التضامن الاجتماعي والثقافي والشبكات التجارية العابرة للحدود. يُقال إن هذا العملية تؤدي إلى ظهور مساحات بديلة، ينظمها الاقتصاد غير الرسمي والتهريب وتدفقات الهجرة. ولا تقتصر هذه التبادلات العابرة للحدود على المنطقة فحسب، بل ترتبط بالأسواق الدولية ودينامياتها. وتعتمد هذا التجارة الآنية على استغلال التفاوت في السياسات الاقتصادية، وتتعزز من خلال ما يعتبر خاصية أساسية للدول الأفريقية: الانفصال النسبي بين أقاليم الدولة ومساحات التبادل.
بيد أن كلا الرأيين يعتمدان على رؤية تبسيطية لفكرة الحدود في التاريخ الأفريقي، وسوء فهم لطبيعة الحدود الاستعمارية ذاتها. ويعود سوء الفهم هذا إلى سببين: أولًا، لم يُولَ الاهتمام الكافي لفهم التصورات والممارسات المحلية للمكان، وهي في حد ذاتها شديدة التنوع، والطرق التي يصبح بها الإقليم موضوعًا للتملك أو ممارسة السلطة أو الاختصاص. ثانيًا، غالبًا ما تُختزل تاريخية الحدود في أفريقيا إلى الجانب القانوني الدولي للحدود أو إلى الحدود كعلامة محددة لمساحة الدولة.
في هذا السياق، يُفهم الرابط بين الدولة والإقليم بصورة أداتية بحتة، حيث لا يُمنح الإقليم معنى سياسيًا إلا كمساحة مميزة لممارسة السيادة، وتقرير المصير والإطار المثالي لفرض السلطة. وبهذا، ينحصر التساؤل فيما إذا كانت إعادة هيكلة مساحات التبادل تُساهم في إضعاف الدولة وتآكل سيادتها أم لا.
فيما يتعلق بالسياسات المحلية للإقليم، من المهم الإشارة إلى أن التعلق بالإقليم والأرض قبل الاستعمار كان نسبيًا. ففي بعض الحالات، لم تكن الكيانات السياسية محددة بحدود بالمعنى الكلاسيكي، بل يتم تشكيلها باستمرار بتشابك مساحات متعددة، وإعادة تشكيلها سواء بالحروب والغزوات أو بحركة البضائع والأشخاص.
اعتمدت السيطرة في بعض الحالات، على المساحات، لأجل التحكم في البشر أو في المواقع، وأحيانًا في كليهما معًا. فقد كانت المساحات الشاسعة بين الكيانات السياسية، تشكل مناطق عازلة أو تخلو من سيطرة مباشرة أو هيمنة قريبة.
كانت الديناميات المكانية، في بعض الأحيان، تجعل الحدود حدًا ماديًا حقيقيًا، تتماشى مع مبدأ التشتت وإزالة الطابع الإقليمي للولاءات. فقد كان بإمكان الأجانب والعبيد والرعايا أن يعتمدوا على سيادات متعددة في نفس الوقت. وأدت هذه التعددية في الولاءات والاختصاصات إلى تعددية الأشكال الإقليمية، وتشابك غير عادي للحقوق والروابط الاجتماعية التي لم تقتصر على القرابة أو الدين أو الطبقة الاجتماعية بشكل معزول.
وكان من الممكن أن تؤثر مراكز قوى مختلفة على نفس المكان، الذي قد يعتمد هو نفسه على مكان آخر قريب أو بعيد أو حتى خيالي. وسواء كانت "الحدود" تتبع الدولة أو غيرها، فلا معنى لها إلا في العلاقات التي كانت تربطها بأشكال الاختلاف والتمييز الاجتماعي والقانوني والثقافي الأخرى.
من الواضح أن الحدود الموروثة عن الاستعمار، لم يرسمها الأفارقة أنفسهم. لكن، وعلى عكس الأفكار الشائعة، لا يعني ذلك بالضرورة أنها كانت اعتباطية، فكل الحدود تعتمد إلى حد كبير على اتفاقية. وقد استندت بعض الحدود التي رسمها الاستعمار، باستثناء الحالات الواضحة للتقسيمات العشوائية، إلى معالم طبيعية، مثل: السواحل والأنهار أو سلاسل الجبال. أما البعض الآخر، فقد كان نتاج مفاوضات دبلوماسية أو معاهدات تنازل أو ضم، أو تبادل بين القوى الإمبريالية. بينما أخذت حدود أخرى بعين الاعتبار الممالك القديمة. وهناك حدود لم تكن سوى خطوط متخيلة، مثل تلك التي تفصل بين الدول على أطراف الصحراء الكبرى (مالي والنيجر والجزائر) أو صحراء كلهاري.
ترسم كل هذه الحدود مناطق جغرافية، أُلحقت بها لاحقا أسماء أماكن، تغيّر بعضها مع الاستقلال أو بعده. ومع نهاية الخمسينيات، صارت تمثل حدود السيادة بين الدول الأفريقية. ثم تُرجمت - وكما هو الحال في بقية العالم - إلى إجراءات ملموسة، مثل: الحماية الجمركية والسياسات التجارية وسياسات الهجرة. كما خضعت للمراقبة الداخلية والخارجية، وأسهمت في استقرار العلاقات بين الدول.
إن القول بكون الحدود الأفريقية الحالية هي فقط نتاج اعتباطي للاستعمار، يتجاهل تنوع أصولها. فترسيم هذه الحدود سبق مؤتمر برلين عام 1884، الذي كان هدفه تقسيم السيادة بين القوى المشاركة في اقتسام القارة. فالأصل الأولي لها يعود إلى فترة "اقتصاد المراكز التجارية"، عندما أقام الأوروبيون محطات تجارية على السواحل، وبدأوا بالتعامل مع السكان المحليين.
تُفسر هذه المرحلة، جزئيًا، بعض السمات الجغرافية للدول الأفريقية، مثل الفصل بين السواحل والمناطق الداخلية الذي يترك أثرًا عميقًا على بنية العديد من البلدان، أو حتى عزل الكيانات الواسعة الواقعة بعيدًا عن المحيطات.
تبلورت الحدود تدريجيًا خلال فترة "الإمبراطورية غير الرسمية" (من إلغاء تجارة العبيد حتى قمع الحركات المقاومة الأولى)، بفضل العمل المشترك للتجار والمبشرين. واكتسبت طابعًا عسكريًا مع إنشاء الحصون، والتوغل في المناطق الداخلية، وقمع الثورات المحلية...
يُعتبر إطلاق عملية تنمية غير متكافئة بين المناطق والدول أحد أبرز مخلفات الاستعمار، وقد ساهم ذلك في توزيع الفضاء الى مواقع متباينة بشكل واضح أحيانًا، وظهور ناقلات ثقافية غالبًا ما يتم التقليل من تأثيرها في إعادة تشكيل خريطة القارة. هكذا نجد أول تمييز، على نطاق القارة، بين المناطق ذات الكثافة السكانية العالية (مثل الهضاب والبحيرات الكبرى) والمناطق الأخرى التي تكاد تكون فارغة.
لقد أسهم عاملان رئيسيان، منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى أواخر السبعينيات، في تعزيز مراكز الثقل الديموغرافي الكبرى: تطوير الزراعة النقدية (Cash crops)، وتوسيع المحاور الرئيسية للاتصال (وخاصة السكك الحديدية). ومع تراجع إنتاج بعض الزراعات والتحول إلى أشكال أخرى من استغلال الموارد والتجارة، تسارعت وتيرة انسحاب السكان، وأحيانًا بشكل إقليمي، نحو السواحل أو نحو المراكز الحضرية الكبرى.
هكذا أصبحت مدن مثل: جوهانسبرغ والقاهرة وكينشاسا والدار البيضاء ونيروبي ولاغوس ودوالا وداكار وأبيدجان أكثر كثافة بشرية. وتُشكل الآن مدنًا ضخمة، تنبثق منها أشكال جديدة لحضارة حضرية أفريقية. تتميز هذه الأخيرة، التي تتسم بالطابع الكريولي والكوسموبوليتاني، بمزيج وتنوع في الملابس والموسيقى والإعلانات، وكذلك في ممارسات الاستهلاك بشكل عام.
يُعد تنوع الأنظمة الدينية وتعددها من بين الأنظمة التي تنظم الحياة اليومية في المدن، بل وأهمها. لقد تشكّلت دائرة ترابية حقيقية حول أماكن العبادة، مع انتشار الكنائس والمساجد. كما تميزت هذه الدائرة بوضوح عن الإدارة الترابية للدولة، ليس بسبب الخدمات التي تقدمها المؤسسات الدينية فحسب، بل بسبب الأخلاقيات الحياتية التي تروّج لها أيضا.[...]
في أواخر القرن العشرين، استمرت العديد من النزاعات الحدودية بين الدول الأفريقية. من أبرزها:
النزاعات في خليج غينيا، بين نيجيريا وجيرانها (مثل الكاميرون وغينيا الاستوائية).
النزاعات في منطقة الساحل (مالي والنيجر والجزائر وغيرها).
النزاعات بين ناميبيا وبوتسوانا.
ومعظم هذه النزاعات لا تعود إلى الرغبة في تطابق الحدود العرقية-الثقافية مع حدود الدول، بل إلى الصراع على السيطرة على الموارد الحيوية، مثل المياه.
لم تكن معظم الحروب في أفريقيا ناتجة عن نزاعات حدودية ذات علاقة بالحدود التي خلفها الاستعمار، إننا بالكاد نجد، ومنذ عام 1963، ما يقارب عشرة صراعات بين الدول في هذا القبيل. وقد استندت العلاقات بين الدول الأفريقية منذ الاستقلال إلى مبدأين رئيسيين: الأول هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والثاني هو الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار.
لقد بقيت الحدود الاستعمارية في الغالب دون تغيير، رغم ما عرفه مبدأ "عدم التدخل" من انتهاك بين الفينة والأخرى. قبِل الأفارقة بالإطار الإقليمي الذي فرضه الاستعمار، رغم وجود محاولات مسلحة لتغييره، إلا أنها لم تُسفر عن إعادة تشكيلها من جديد، كما حدث في يوغوسلافيا بعد تفككها.
لا تزال نزعات الانفصال قائمة في أماكن أخرى، مثل: كازامانس في السنغال، والمقاطعات الناطقة بالإنجليزية في الكاميرون، وجيب كابيندا في أنغولا، وشريط كابريفي في ناميبيا، وجزيرة أنجوان في جزر القمر.
وفي نزاع آخر، ضمت ليبيا شريط أوزو التشادي عام 1973، ما أدى إلى حروب متكررة، وتدخلات عسكرية أجنبية، قبل أن تعيد محكمة العدل الدولية الإقليم إلى تشاد. من جهة أخرى، استعاد المغرب الصحراء الغربية، المستعمرة الإسبانية السابقة، فيما بقيت نزاعات حدودية أخرى خامدة، غالباً بسبب موارد طبيعية كالبترول والماس أو نزاعات حول جزر، كما هو الحال بين نيجيريا والكاميرون بشأن شبه جزيرة باكاسي. غالباً ما كانت هذه الصراعات أقرب إلى المناوشات منها إلى حروب مفتوحة.
أصبحت الأحواض المائية الكبرى، سواء كانت أنهارًا (مثل الكونغو والزمبيزي والنيجر والنيل والسنغال) أو بحيرات (مثل بحيرة تشاد وبحيرة فيكتوريا)، مناطق نزاع جديدة. نشأت أنشطة اقتصادية حول هذه الأحواض، غير أنها أدت أيضًا إلى تناقضات حادة. لقد أدى عدم تطابق حدود الدول مع الحدود الطبيعية إلى نزاعات حول السيادة.
يُعتبر النيل مثالًا بارزًا على هذه النزاعات، فمن المعروف أن 95% من تدفق مياه النيل في مصر يأتي من خارج حدودها (خاصة من إثيوبيا والسودان). يؤدي الضغط السكاني في المنطقة، والحاجة إلى استصلاح أراضٍ غير منتجة بشكل متزايد، والزيادة السريعة في استهلاك الفرد، إلى توجه معظم دول المنطقة لبناء السدود.
فالنزاع مثلا بين إثيوبيا ومصر يتجلى حول توزيع الموارد المائية، نتيجة رغبة إثيوبيا في تنفيذ مشاريع ري لتحسين الأراضي في مناطق وولو وتيغراي. ومع ذلك، فإن قضية مياه النيل لا تقتصر على مصر والسودان وإثيوبيا، بل تشمل دولًا أخرى، مثل: أوغندا وتنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ترسم بعض الأحواض النهرية الأخرى أنواعًا مختلفة من الحدود في أفريقيا، مثل: أحواض أنهار الزمبيزي وتشوب وأوكافانغو. يعد استغلال هذه الأحواض مصدر توترات بين الدول الرئيسية المعنية، وهي: بوتسوانا وجنوب أفريقيا وناميبيا وأنغولا وزامبيا وزيمبابوي.
إن زيادة استهلاك ناميبيا للمياه من نهر أوكافانغو، قد تهدد تلقائيًا الدلتا الداخلية لهذا النهر. كذلك، يثير مشروع بوتسوانا لتحويل مياه نهر تشوب نحو نهر فال لتزويد جنوب أفريقيا بالمياه، توترات في المنطقة الفرعية.
تنطبق هذه التوترات أيضًا على توزيع المياه الجوفية الأحفورية في الصحراء الكبرى، والتي تشمل كلا من: ليبيا والسودان وتشاد والنيجر، بالإضافة إلى دول في الغرب، مثل: السنغال ومالي وموريتانيا.
في هذا السياق، بدأت ليبيا بتنفيذ مشروع النهر الصناعي العظيم، الذي يهدف جزئيًا إلى استغلال المياه الجوفية الأحفورية في الصحراء الكبرى. غير أن الخزانات المائية تمتد تحت أراضي دول أخرى، مما يخلق نزاعات محتملة حول استغلال هذه الموارد المشتركة.
يجري حاليًا إعادة رسم حدود القارة الأفريقية، بناءً على قضية تنظيم استخدام المياه بين الدول المتشاطئة، وتُضاف هذه الصراعات المائية إلى نزاعات أخرى قائمة، مما يسهم في تفاقمها.
تبرز ثلاثة استنتاجات من الملاحظات الواردة في هذه الدراسة:
إن فهم العمليات التي نصنفها تحت فئة العولمة يتطلب، أكثر من أي وقت مضى، نسبية التمييز التقليدي بين البُعد المكاني والزمني. إذ تقرأ العولمة، التي تُعتبر خطأً هامشية بالنسبة للعالم، كدخول في نظام حيث يتوقف المكان والزمان عن التعارض، ليشكلا معًا تكوينًا واحدًا. يتم ذلك من خلال تفكيك الأطر الإقليمية الحالية ماديًا، وإلغاء الحدود المتفق عليها، وفي الوقت نفسه إنشاء فضاءات متحركة وأخرى مغلقة، تهدف إلى الحد من تنقل السكان الذين يُعتبرون فائضين عن الحاجة.
يرتبط تفكيك الأطر الإقليمية الحالية، في المناطق التي تقع على هامش التحولات التكنولوجية الكبرى المعاصرة، بظهور اقتصاد الإكراه، الذي يسعى إلى التدمير الكامل للسكان الفائضين، واستغلال الموارد في حالتها الأولية. لتحقيق أرباح من هذا الاستغلال، يصبح من الضروري إخراج الدولة من المشهد، وتفكيك سلطتها، واستبدالها بأشكال مجزأة من السيادة.
تعتمد فعالية هذا النوع من الاقتصاد، وقابليته للاستمرار على كيفية توزيع الأسلحة داخل المجتمعات المعنية. في ظل هذه الظروف، لم تعد الحرب كاقتصاد عام صراعًا بين أولئك الذين يمتلكون الأسلحة فيما بينهم، بل أصبحت بالأحرى مواجهة بين من يملكون الأسلحة ومن يفتقرون إليها.