تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

الحدود المشتعلة: الشريعة والسياسة في نيجيريا

14 مارس, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

لطالما لعب الإسلام دوراً سياسياً بارزاً في نيجيريا، منذ جهاد عثمان دان فوديو الذي أسس خلافة صكتو مطلع القرن التاسع عشر. وتبرز في هذا السياق شخصية الشيخ أبو بكر غومي، الذي كان قاضياً أعلى في نيجيريا من عام 1962 حتى وفاته عام 1992، ومفتياً عاماً منذ عام 1975، وهو صاحب المقولة الشهيرة، خلال الجمهورية المدنية الثانية، "السياسة أهم من الصلاة"، التي أثارت استياء خصومه من الطرق الصوفية التقليدية. 
كانت تصريحات غومي مدفوعة بحمى التنافس الانتخابي، خاصة أن المرشح المسلم للرئاسة عام 1979 فاز بفارق 700 ألف صوت فقط على منافسه المسيحي. لذلك اعتبر الرجل أن الدفاع عن الإسلام ضد التوسع المسيحي أولوية قصوى، حتى لو تطلب ذلك دعوة النساء إلى التصويت رغم القيود الفقهية على مشاركتهن السياسية. تأكد في الانتخابات المحلية لعام 1987، التي فاز بها المسيحيون في المناطق الحدودية، صحة رأي غومي، ما دفعه إلى المطالبة بتوحيد الصف المسلم انتخابياً.

النفوذ العسكري والتوترات الطائفية

بلغت مخاوف المسلمين ذروتها مع محاولة الانقلاب التي قادها الميجور جدعون أوركار في أبريل/ نيسان 1990، والتي كانت بدعم مالي من ملياردير مسيحي تابع لكنيسة "هاوسهولد أوف غود فيلشيب". فقد طالب الانقلابيون بإقصاء شمال البلاد المسلم، رغم إدراكهم استحالة ذلك لارتباطه الاقتصادي بعائدات النفط في الجنوب. كان العسكر المسلمون يسيطرون على المناصب الأمنية العليا، ما أثار سخط الانقلابيين، خصوصا بعد إحالة الضابط المسيحي دومكات بالي على التقاعد المبكر، وتعويضه بساني أباتشا، الذي سيصبح لاحقاً أحد أكثر الديكتاتوريين وحشية في تاريخ نيجيريا.


كان الشيخ أبو بكر غومي قاضيا أعلى في نيجيريا من ومفتيا عاما منذ عام 1975، وهو صاحب المقولة الشهيرة، خلال الجمهورية المدنية الثانية، "السياسة أهم من الصلاة"، التي أثارت جدلاً واسعًا بين أنصاره وخصومه


يعزى تفوق المسلمين في الجيش لكون الانخراط فيه لا يتطلب مستو تعليمياً عالياً. وقد كان لحكم نيجيريا من قبل العسكر بعد الاستقلال، تداعيات كبيرة، لدرجة أن هنا من يتطلع لعودة الحكم المدني فرصة لتمكين المسيحيين الجنوبيين. ولعل هذا ما يفسر إلغاء نتائج انتخابات 1993، التي فاز بها مسلم جنوبي لم يحظَ برضا النخبة العسكرية الشمالية.

الشريعة في نيجيريا: بين الشعبية والانتهازية السياسية

لا يمكن إنكار شعبية الشريعة في نيجيريا، رغم ارتباطها أحيانًا بالانتهازية السياسية، خصوصًا في الولايات الأكثر فقرًا، فولاية زامفارا مثلا كانت سباقة إلى تبني هذا التوجه تحت قيادة حاكمها المنتخب في مايو/أيار 1999. تتمتع زامفارا بتاريخ رمزي، حيث كانت معقلًا لحركة الإصلاح الجهادي التي قادها عثمان دان فوديو ضد مملكة غوبير أواخر القرن الثامن عشر، لكنها لاحقًا فقدت مكانتها لصالح سُكوتو وغواندو، اللتين أصبحتا العاصمتين الرئيسيتين للخلافة.
جعل الموقع الجغرافي من زامفارا، البعيدة عن مراكز السلطة والمسارات التجارية الرئيسية، ملاذًا للهاربين من العبودية والمعارضين السياسيين، بما في ذلك جماعات متشددة، مثل: "ساموداوا" و"صالحاوا". فضلا عن أحزاب المعارضة مثل: "الاتحاد التقدمي للعناصر الشمالية" (NEPU) الذي تأسس عام 1950 لمعارضة هيمنة "المؤتمر الشعبي الشمالي" (NPC) خلال فترة الاستقلال. في وقت لاحق، برز حزب "مؤتمر التغيير التقدمي" (CPC) كمعارض لحزب "الديمقراطيين الشعبيين" (PDP) للرئيس أوباسانجو. في عام 2013.
تعد الدعوة إلى تطبيق الشريعة رد فعل على ما يعتبره البعض انحرافات أخلاقية قادمة من الجنوب، فالعديد من بائعات الهوى هربن إلى النيجر. كما طُرِدت النساء غير المتزوجات من شمال نيجيريا خلال الجفاف الذي ضرب الساحل عام 1973، والذي اعتُبر آنذاك عقوبة إلهية. 


إن بعض التجار المسيحيين في الشمال يفضلون اللجوء إلى المحاكم الإسلامية لاسترداد ديونهم، لاعتقادهم أنها أسرع وأكثر عدلاً. مفارقة تعكس ثقة البعض في القضاء الإسلامي رغم التوترات الطائفية


أما فيما يتعلق بالجريمة، فإن مدن النفط في الجنوب تقدم صورة مأساوية، حيث لا يتردد السكان في إعدام اللصوص الذين يتم القبض عليهم متلبسين، وذلك عن طريق إشعال النار فيهم بعد تقييدهم بالإطارات، أو يُسلمون للشرطة التي قد تعتدي عليهم بالضرب قبل أن يواجهوا الإعدام في احتفالات عامة، تُعرف بـ"عروض الشاطئ". إضافة إلى ذلك، يُنظر إلى القضاء في الجنوب على أنه فاسد، وغير قادر على مكافحة الجريمة.
في المقابل، تقدم الشريعة نفسها بوصفها نظاما قضائيا قريبا من الناس وأكثر كفاءة، حتى أن بعض التجار المسيحيين في الشمال يفضلون اللجوء إلى المحاكم الإسلامية لاسترداد ديونهم، لاعتقادهم أنها أسرع وأكثر عدلاً. لكن هذا لا يعني أن الشمال خالٍ من الفساد والمحسوبية، فقد سمح بعض القضاة المسلمون بشهادات زور عبر استخدام نسخ مزيفة من المصحف، ما يجعل القسم باطلا. 
كما استُغِلت المحاكم الإسلامية في أول جمهورية مدنية (1960-1966) لسجن المعارضين السياسيين. ومع ذلك، فإن الفوارق الثقافية بين شمال نيجيريا وجنوبها قد دفعت باتجاه المطالبة بتوسيع تطبيق الشريعة إلى المجال الجنائي.
تتفاقم النزاعات الدينية بشكل ملحوظ في المناطق التي تتداخل فيها الهويات الدينية والانتماءات العرقية، ولا سيما في منطقة "الحزام الأوسط"، حيث يتقاطع النفوذ الإسلامي والمسيحي. ورغم أن الإسلام يحمل طابعًا عاما، إلا أنه لم يمحُ الفوارق القبلية، إذ لا تزال المجتمعات الإسلامية تولي أهمية خاصة للانتماء القبلي، مثل: القرشيين والشرفاء والأنصار. في شمال نيجيريا، اندمجت النخبة الفُلية الحاكمة مع الأغلبية الهوساوية، لكنها ظلت في حالة مواجهة مع مجموعات أخرى، لا سيما المهاجرين من الجنوب، الذين يتمتعون بمستوى تعليمي أعلى، بالإضافة إلى السكان الوثنيين في الحزام الأوسط.

الصور النمطية وتعزيز الانقسامات الدينية

كانت النزاعات في جوهرها صراعات عرقية واقتصادية، رغم أنها اتخذت طابعًا دينيًا في الظاهر. فقد اندلعت المواجهات بين السكان الأصليين في الحزام الأوسط، الذين اعتنقوا المسيحية سعياً للحصول على فرص تعليمية من المدارس التبشيرية، وبين سلطة خلافة سُكوتو، التي حظيت بدعم بريطاني. 
لعب التعليم دورًا محوريًا في هذه الصراعات، حيث ساهم في تعميق الفجوة الاجتماعية بين الجماعات المختلفة. ففي حين كانت المدارس العامة في الشمال تعمل على إعداد أبناء النخبة المسلمة لمناصب إدارية، فتحت المدارس التبشيرية أبوابها للوثنيين، مما منحهم فرصة الارتقاء الاجتماعي عبر العمل معلمين أو موظفين صغار. ما يعني أن تلك النزاعات لم تكن مجرد خلافات دينية، بل كانت مرتبطة أيضاً بالتنافس على الموارد والفرص الاقتصادية.
كما غذّت الصور النمطية انعدام الثقة بين المسيحيين، الذين أطلق عليهم المسلمون لقب "نصارى"، وبين المسلمين الذين يُسخر منهم باسم " kulle-kulle" (أي الذين يحبسون نساءهم في المنازل). ولم يخفِ مسلمو الهوسا ازدراءهم للوثنيين"arna" أو الكفار، الذين يُنظر إليهم كهمجيون وغير متعلمين. 
هكذا، عزز الدين الفروقات العرقية، ومنع الاندماج بين المجتمعات المختلفة، وأدى إلى تكوين أحياء سكنية على أسس دينية، مثل: حي "سابون غاري" المسيحي في مدينة كانو، أو منطقة "زانغون كاتاف"، حيث يحيط المزارعون الوثنيون بسوق التجار المسلمين. وأحيانا، تحولت هذه التوترات إلى مواجهات دموية، كما حدث في قرية "تافاوا باليوا" عام 1991، عندما اندلعت اشتباكات بين المسيحيين والمسلمين، أدت إلى مقتل 225 شخصًا، وتمدد العنف إلى مدينة باوتشي.


تتداخل العوامل الاقتصادية مع الهويات العرقية، التي تُستخدم أحيانًا لحشد الجماهير، لكنها ليست المحرك الوحيد للصراع. لذلك، لا ينبغي أن تطغى التفسيرات الدينية على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه النزاعات، والتي غالبًا ما ترتبط بالتنافس على الموارد والسلطة


في مدينة كادونا، تكررت أعمال الشغب في عامي 1987 و2000، حيث تداخلت الخلافات الدينية مع التفاوتات الاقتصادية والعرقية. فقد احتل المهاجرون المسيحيون من الجنوب العديد من الوظائف الحكومية التي لم يتمكن أبناء الهوسا من شغلها، بسبب الفجوة التعليمية التي خلفها الاستعمار. كما انتشرت التوترات إلى المناطق الريفية في جنوب كادونا، مثل: "زانغون كاتاف" و"كافانشان"، حيث اندلع العنف بسبب نزاعات على الأراضي. 
أسفرت أعمال الشغب، في مايو/آيار 1992، في "زانغون كاتاف" عن مقتل 128 شخصًا قبل أن تمتد إلى كادونا. كان السبب المباشر هو قرار السلطات المحلية، التي يهيمن عليها أبناء قبيلة كاتاب، بنقل السوق بعيدًا عن الحي المزدحم بالسكان الهوسا، وهو ما اعتُبر تهديدًا لاحتكارهم التجاري، خصوصا مع احتمال أن يجلب السوق الجديد منتجات مثل لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، المحرمة في الإسلام.

الشريعة ملجأ للفقراء بين الأمل والواقع

سواء كانت التوترات تتعلق بالسيطرة على الأسواق أو إدارة الشؤون البلدية، فهي في جوهرها تعكس صراعًا على النفوذ والموارد أكثر من كونها مجرد خلافات دينية. وعلى المستويين المحلي والفيدرالي، تتداخل العوامل الاقتصادية مع الهويات العرقية، التي تُستخدم أحيانًا لحشد الجماهير، لكنها ليست المحرك الوحيد للصراع. لذلك، لا ينبغي أن تطغى التفسيرات الدينية على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه النزاعات، والتي غالبًا ما ترتبط بالتنافس على الموارد والسلطة.
تبدو الشريعة بالنسبة للكثيرين حلاً سحريًا في ظل الفقر المدقع، رغم أن تطبيقها قد يخيب آمالهم. كما تعكس الشريعة سخط المجتمع تجاه حكومة علمانية عاجزة عن إدارة النمو السكاني والاقتصادي، حيث شهدت نيجيريا تدهورًا مستمرًا في مستوى الدخل الفردي على مدى العقود الماضية. وفي غياب بدائل تنموية أو رؤية سياسية واضحة، تبقى الاحتجاجات الشعبية مخرجًا للتعبير عن الغضب، حتى وإن لجأت إلى العنف في الشوارع.