الأربعاء 19 فبراير 2025
تبدو وفاة الرئيس الغاني الأسبق كوامي نكروما مكلومًا ووحيدًا تمامًا في العاصمة الرومانية بوخارست في ربيع 1972 نهاية مباغتة لزعيم طالما طبقت شهرته الآفاق في أفريقيا وخارجها؛ ورغم أن الحدث وقع بعد عدة سنوات من الانقلاب عليه في فبراير 1966؛ فإن إسهام نكروما السياسي والحركي والفكري المستمر أضاف كشفًا لهذه المباغتة وفرصة لإعادة استكشاف فكره، كما عزز – هذا الإسهام المهم- حضور نكروما المستمر في قلب جدل عن الزعامة في أفريقيا وصلتها بالسمات الشخصية وتحولات العمر (حرفيًا) من الثورية الراديكالية إلى الاستبداد المحافظ؛ بل وتبني الزعامة الأفريقية، بشكل عام وفي مرحلة "دولة ما بعد الاستعمار"، نموذج الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الشهير: "أنا الدولة"، سواء في السياسات الداخلية أم في علاقات الدولة الأفريقية الخارجية. ومما يثير الدهشة أن أغلب قادة حركة التحرر الأفريقي، وفي مقدمتهم نكروما، قد جنحوا لهذا النموذج الاستبدادي، غير المبرر في واقع الأمر بفكرة الظرف التاريخي وقتها، عقب حصول بلادهم على الاستقلال، سواء كذريعة (حقيقية أو متخيلة) لمواجهة تحديات دولهم، أو توهم امتلاك هؤلاء القادة قدرة خارقة على مناورة (ما بدا من) تناقضات القوى الكبرى في العالم، وبغض النظر عن أفق دعم القاعدة الشعبية لسياساتهم.
وقع الانقلاب ضد نكروما في 24 فبراير 1966 فيما كان يوسع صلاته الخارجية ويسعى جاهدًا لنيل مقبولية دولية أكبر كشخصية سياسية أفريقية تمكنت من تجاوز استقطابات الحرب الباردة ونالت ثقة واشنطن وموسكو، مضافًا لهما بكين التي كان في زيارة مهمة لها خلال وقوع الانقلاب. وسرد نكروما في كتابه طرفًا دالًا من الواقعة في أولى سطور الكتاب بالقول بوجوب عدم وصف ما حدث "بالانقلاب"؛ لأن ما وقع هو سقوط غانا في يد خونة في صفوف الجيش والشرطة بمساعدة الاستعماريون الجدد وعناصر رجعية بين شعبنا. وقد علم نكروما بالخبر على لسان السفير الصيني في أكرا، الذي كان يرافقه في رحلته إلى الصين، بعد ساعات من الواقعة التي كان يعرفها الحضور في مقر استقباله؛ لكنهم آثروا إخباره في فترة الاستراحة بعد وصوله من الرحلة الطويلة. وإن كانت عبارة السفير "سيدي الرئيس، لدي نبأ سيء. لقد وقع انقلاب في غانا" عادية في سياقها وتأثيرها المختزل والصادم فإن رد نكروما كما بسطه يبدو على طرف النقيض: "كنت في راحة وجيزة بعد رحلة طويلة من رانجون وتساءلت هل سمعته كما قال حقًا: ماذا قلت؟ انقلاب في غانا، مستحيل...لكن نعم هذا ممكن. مثل هذه الأمور تحدث. إنها من طبيعة النضال الثوري"، إذ نلحظ شعورًا فائقًا بالصدمة والإنكار، ممزوج بتنظير يتجاوز الواقع، لاسيما حال إعادة النظر له من خارج منظور نكروما، ورؤيته لنفسه طول رحلته من مدرسة التعليم الإرسالي الابتدائية في أكرا، وحتى وفاته في بوخارست مرورًا بتجاربه في الولايات المتحدة وإنجلترا وقيادته بلاده بعد تقلده منصب رئيس الوزراء في العام 1952.
وعلى طرف نقيض رؤية نكروما الذاتية، التي عززها إسهام تنظيري ملفت جعله في مقدمة الزعماء والرؤساء الأفارقة، الذين لم يقترب أغلبهم من تحقيق كتابة ترقى لعمق إسهامه، طرح الفريق جوزيف أنكراه، قائد الانقلاب ثم رئيس البلاد حتى العام 1969، رواية مغايرة في بيانه الذي ألقاه في 28 فبراير مؤكدًا فيه تحرك الجيش والشرطة الغانيين للاستيلاء على الحكم وفق" أقدم وأثمن تقليد للشعب الغاني والذي يقضي بوجوب خلع أي زعيم يفقد ثقة وتأييد شعبه ويلجأ للاستخدام التعسفي للسلطة، ولا يشك أي أحد في أن كوامي نكروما قد فقد تمامًا ثقة شعب هذه البلاد". فيما لا يمكن تجاهل القمع السياسي الذي بادر به نكروما مطلع الستينيات بعد إعلان نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلحة (دون أي نجاح يذكر له في تحقيق اختراق في صفوف قواعد الدعم الإثنية في الجيش لصالحه وحزبه) ورئيسًا لحزب الاتفاق الشعبي الحاكم ثم حظره أنشطة جميع الأحزاب السياسية خارج مظلته الحزبية؛ الأمر الذي أثار حركة معارضة سياسية ضده وصفته بالديكتاتور. إضافة إلى ذلك كانت الأوضاع الاقتصادية المتردية نوعًا ما (مثل تفاقم أعباء خدمة الدين، وعدم تحريك الحد الأدنى للأجور في الفترة 1960-1965) عاملًا في توفر "حاضنة" اجتماعية للانقلاب على نكروما وعدم خروج معارضة شعبية مناسبة ضد "القادة العسكريين" وقت الانقلاب للمطالبة بعودة نكروما، وكذلك فيما بعد رغم إجراءات أنكرا بالتضييق على أنصار نكروما وحبس أغلب الكوادر السياسية.
تفيد استجابة نكروما للانقلاب وردوده في الأيام التالية، وتغليبه لعامل التورط الخارجي، إلى وعي الأول بتعقيدات إدارته لغانا وموقع القوات المسلحة (التي تشكلت قياداتها العليا والوسطى- العليا من إثنيات في جنوبي البلاد معروفة بارتباطاتها الوثيقة بالاستعمار البريطاني) وأجهزة الشرطة. وعززت رواية نكروما Biney, Ama, The Political and Social Thought ofالوثائق التي كشفت عنها الحكومة الأمريكية في العام 2001 وأكدت تعاون واشنطن مع بريطانيا وفرنسا منذ فبراير 1964 (قبل الانقلاب بعامين كاملين) على إسقاط نكروما بعد طرح الخارجية الأمريكية على نظيرتها البريطانية خطة "لإثارة سلسلة من ردود الفعل تؤدي في النهاية إلى سقوط نكروما"، وهي تفاصيل أكدها الصحفي الأمريكي بول لي P. Lee مضيفًا أنه ثمة شواهد على تورط أمريكي "مباشر" في الانقلاب. غير أن استبعاد نكروما لاحتمالات الانقلاب عليه، كما اتضح في تصميمه على القيام بزيارة الصين وسط رفض قيادات جيشه مشروعات التسليح غير الغربية حينذاك؛ وتوقعه استعادة زمام الأمور في البلاد في أقرب فرصة برهنت على خطأ تصوراته وحساباته بخصوص عمق مشروعه السياسي وعضويته وسط الشعب الغاني، وكذلك قدرة الزعامات الأفريقية، مع تفاوت شرعياتها وقواعد تأييدها المجتمعية، على اتباع سياسات خارجية مستقلة بمنأى عن استقطابات الحرب الباردة حينذاك، أو التكالب الاقتصادي المستعر حاليًا في القارة.
وبعد وصول نكروما إلى غينيا، التي قضى فيها بقية حياته حتى وفاته في العاصمة الرومانية بوخارست، في 2 مارس بدت علامات إنكار الموقف بشكل كامل عليه؛ إذ أكد أن من اعتبارات عودته إلى كوناكري هو قربها الجغرافي من غانا ما يهيئ له موضع جيد "للقيام بنضال ثوري" لاستعادة الحكم. وعززت فكرة نكروما تلك قرار الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري تعيينه رئيسًا مشاركًا معه لغينيا وتخصيص فيلا سيلي، ذات البناء الاستعماري المميز والمطلة على البحر وبالقرب من مطار كوناكري، لإقامة نكروما وبرفقته أطقم معاونة له إضافة إلى مجموعة تأمين مقيمة معه. وبادر نكروما بتنظيم برنامج عمل يومي له بمساعدة مسئول البروتوكول في الفيلا السفير الغيني السابق في غانا سانا كامار.
كما تجلى هذا الإنكار، أو الأمل البعيد، في تصميم نكروما على عدم السماح لزوجته وأطفاله بزيارته في فيلا سيلي طوال الأعوام الخمسة التي قضاها به بحجة أن هذا اللقاء يجب أن يتم في غانا عندما يعود إليها رئيسًا، واتضح ذلك في استمرار مراسلاته مع زوجته السيدة فتحية المقيمة وأولادها في القاهرة وتبادل الصور معهم معبرًا بشكل ملحوظ عن قرب التئام شمل الأسرة في غانا. وفي حديث لفتحية نكروما بعد وفاة الأخيرة مع صحيفة Daily Graphic الغانية أكدت أن نكروما كان يخاف في الأساس من أية محاولة لاختطافها وأولاده حال أية محاولة لسفرهم إلى غينيا.
واتضح من ثراء برنامج عمل نكروما اليومي في فيلا سيلي، وعدم تجاوزه نظام نومه اليومي لحد أربع ساعات، وتوافد دبلوماسيون من "العالم الاشتراكي" على مقره لأغراض شتى ومتفاوتة الأهمية (ومن بينها إحضار أفلام كوبية وصينية وكورية له لمشاهدتها) أن نكروما كان يفقد تدريجيًا الأمل في العودة، بالتوازي مع مستجدات الأمور في غانا وضعف المطالب الشعبية بعودته، وأنه تحول إلى ملك لا يحكم في واقع الأمر، فيما يتحرج المحيطون به من إنبائه بحقيقة الحال.
أكمل نكروما بصعوبة واضحة الفصول الأخيرة في آخر مؤلفاته Revolutionary Path (1973) منتصف أكتوبر 1971، وتشير جوليا هيرف J. Herve إلى أن آخر ما أضافه نكروما للعمل، الذي ضم فصولًا مختلفة من كتابات وخطابات سابقة له، حمل رسائل إلى شعب غانا عن تجربة نكروما في غينيا بعد فبراير 1966، فيما يبدو على أنها خطابات وداع في المقام الأول. وقد تكرر الأمر نفسه في الطبعة الثانية من عمله Axioms of Kwame Nkrumah (Freedom Fighter’s edition, 1969) عند مقارنته بالطبعة الأولى (1967)، إذ أضيفت فصول قصيرة للطبعة الأولى (التي تضمنت مجموعة خطابات واقتباسات من كتابات نكروما قبل انقلاب 1966) تضمنت تحولات ثورية عنيفة في فكره، ورصدت جون ميلني June Milne هذه المتغيرات في مقالها عن حياة نكروما بعد انقلاب فبراير (Kwame Nkrumah: Life After the Coup and the Conakry Period, New Directions, Vol. 14, 1987)، وحددتها في ستة أجزاء مقتضبة للغاية تتعلق بحركة بلاك باور Black Power (التي زاره عدد من قياداتها من الأفروأمريكيين وأبرزهم ستوكلي كارمايكل خلال إقامته في فيلا سيلي)، والميليشيا الشعبية، والحرب الثورية، والبروباغندا، ودور المرأة، والعالم الثالث.
وبالفعل يطرح نكروما في "بديهياته"، على سبيل المثال، رؤية راديكالية للغاية إزاء فكرة العالم الثالث، قوامها ان الشعوب المقهورة والمستغلة هي الجماهير الثورية المناضلة الملتزمة بالانتماء للعالم الاشتراكي، وهي لا تشكل "العالم الثالث". بل إنها جزء من الانتفاضة الثورية التي تقع حيث ثمة تحدٍ لبناء القوة الرأسمالي والإمبريالي والاستعماري الجديد. ومن ثم فإنه ثمة عالمين فحسب: العالم الثوري، وعالم الثورة المضادة- أي العالم الاشتراكي المتجه نحو الشيوعية، والعالم الرأسمالي بامتداداته الإمبريالية والاستعمار والاستعمار الجديد (Axioms of Kwame Nkrumah, pp. 127-8). لكن الفكرة الواضحة التي قدمها نكروما هنا، وببلاغة تحاكي النصوص المقدسة في الإيجاز والصرامة واليقينية، تدل في سياق آخر على اضطراب مراجعات نكروما لأفكاره في مراحله الأخيرة، وأن تجربته الشخصية الصادمة، بشكل شبه تام، كانت ذات تأثير سلبي على مركب أفكار نكروما وتماسكه بجنوحه إلى تبني أفكار غير تاريخية، وتتعارض مع الكثير من مقولاته بخصوص الاشتراكية الأفريقية والعالم الثالث وغيرهما.
ختامًا، بعد دفن جثمان نكروما في غينيا وضع الرئيس الغيني احمد سيكو توري أربعة شروط لإعادة الجثمان للدفن في موطنه وهي: إعادة الاعتبار لنكروما في أعين شعبه وإلغاء الاتهامات الموجهة له من قبل سلطات أكرا؛ وإطلاق سراج جميع كوادر حزب نكروما الملقى بهم في السجون؛ وإلغاء التهديد بالقبض على جميع أنصار نكروما الذين اختاروا البقاء معه في منفاه (في غينيا)؛ وتقديم حكومة أكرا ترحيبًا رسميًا باستقبال جثمان نكروما بالتقدير المناسب لرئيس الدولة السابق، وهي شروط بدت بروتوكولية ورمزية في أغلبها لاسيما بعد خروج أنكراه ورفاقه من الحكم (1969). وكما حال المفكرين العظام، لا تزال أفكار نكروما، وتجربته السياسية، حية وقابلة للجدل والنقاش العميق بعد وفاته بأكثر من نصف قرن، كما أن حال القارة الأفريقية البالغ في الركود التاريخي يوفر سياقًا ديناميًا لهذا الجدل ما يثير قدرًا هائلًا من الدهشة والأسى.