الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
يفتح عام 2025 فصلاً جديداً من فصول الغليان الشعبي في كينيا، حيث تتقاطع أصوات الطلبة في المدارس مع هتافات المحتجين في الشوارع، في مشهد يؤكد أن مطلب الكرامة والعدالة لم يعد قابلاً للتأجيل. فمنذ مطلع العام، شهدت البلاد موجة متصاعدة من الاحتجاجات، قادها جيل شاب يرفض الصمت أمام ما يراه ظلماً ممنهجاً وانتهاكات متكررة. وقد اندلعت الشرارة الأحدث مع وفاة المدوّن ألبرت أوجوانغ في ظروف غامضة أثناء احتجازه لدى الشرطة، الأمر الذي فجّر غضباً واسعاً ضد ما اعتُبر وحشية مفرطة من قبل أجهزة الأمن، ليتحوّل الغضب الشعبي إلى مواجهات دامية أعادت إلى الأذهان ممارسات نظام الرئيس الأسبق دانيال آراب موي.
وفي موازاة ذلك، شهدت مدارس عدة، من تامباتش إلى إلدواريت، سلسلة إضرابات طلابية ومسيرات سلمية احتجاجاً على سوء الإعداد الأكاديمي والتحرش ورداءة الطعام، وهذه الاحتجاجات امتداد لتاريخ طويل من حركات طلابية تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية. فلطالما مثّلت المدرسة في الوعي الكيني فضاءً للأمل والتحرر، لكنها في الوقت نفسه ظلت ساحة يكشف فيها الشباب عن غضبهم من نظام تعليمي يعمّق الفوارق، ويعيد إنتاج التفاوتات.
بينما تلجأ الحكومة إلى خطاب التخويف والاتهام، وتصف المظاهرات بأنها محاولة انقلابية، يصرّ المحتجون والطلاب على مواصلة نضالهم، معتبرين أن التعليم والحرية وجهان لمعركة واحدة. هكذا تبدو كينيا اليوم عالقة بين سلطة تسعى لتكريس قبضتها الأمنية والسياسية، وبين إرادة شعبية متجددة تحلم بمجتمع أكثر عدلاً ومؤسسات أكثر نزاهة، حيث تتحول الساحات والشوارع، كما الفصول الدراسية، إلى مسرح لصراع مفتوح بين الخوف والمقاومة، وبين البحث عن الاستقرار والسعي نحو التغيير.
قام طلاب مدرسة تامباتش بويز الثانوية، الواقعة في مقاطعة إلغيو-ماراكويت غرب كينيا، في منتصف يوليو/تموز من هذا العام، بإضراب. وبعد أن حطموا عدداً من نوافذ الفصول الدراسية والمهاجع، غادر الطلاب الحرم المدرسي، وساروا مسافة 12 كيلومتراً في مسيرة سلمية صعوداً إلى جرف وادي كيريو الذي يبلغ ارتفاعه ألف متر، حتى وصلوا إلى مدينة إيتن عاصمة المقاطعة، حيث عبّروا عن احتجاجهم على ما وصفوه بسوء الإعداد الأكاديمي للامتحانات الوطنية المقبلة.
ردّت إدارة المدرسة بإغلاق الحرم، واستدعاء أولياء الأمور لحث أبنائهم على وقف الاحتجاجات العلنية. غير أن هذه الدعوات لم تُهدّئ من حدّة الاستياء. ففي أواخر يوليو/تموز، اندلعت احتجاجات مشابهة في غرب ووسط كينيا، إذ خرج طلاب من بلدات صغيرة وكبيرة - من كيجابي إلى إيتن إلى إلدواريت إلى ليتن - معبّرين عن رفضهم لسوء التحضير الأكاديمي، وتنديدهم بالتحرش الجنسي من بعض المعلّمين،وكذلك رداءة الطعام.
بينما يرى كثير من الكينيين أن احتجاجات الطلاب وإضراباتهم ليست سوى "عبث" تقوم به "جماعات غوغائية" من طلاب غير جادّين، فإن الحقيقة أن جذور هذه الظاهرة تعود إلى النضال المناهض للاستعمار، وإلى توق عميق للتعليم الجادّ والمعاملة الكريمة.
ليست احتجاجات الطلاب سوى امتداد لنضال قديم، يكشف توقاً عميقاً لتعليم جاد ومعاملة كريمة
بدأت إضرابات الطلاب فيما يُعرف اليوم بكينيا منذ بدايات التوسع في التعليم الاستعماري. ففي عامي 1910 و1912، وبعد نحو عقد من انتشار المدارس التبشيرية بشكل غير متوازن من ساحل المحيط الهندي إلى بحيرة فيكتوريا، لجأ طلاب مدارس بلدتي ماسينو ومومِيا غرب كينيا إلى الإضراب للمطالبة بتعليم أكاديمي جاد بدلاً من التعليم السطحي الذي روّج له المرسلون. وفي منتصف العشرينيات، خلال ما سمّاه المؤرخ ديريك بيترسون بـ "أزمة حدائق المدارس"، اقتلع الطلاب وأهالي بلدة نييري المحاصيل المزروعة في أراضي المدارس التبشيرية، وقاطعوا الدروس احتجاجاً على نزاعات الأراضي.
هذا وقد شهدت مدارس مثل: سانت ماري في يالا ومانغو قرب ثيكا وأليانس في كيكويو في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات - كما تروي السير الذاتية لعدد من القادة والمفكرين المناهضين للاستعمار مثل توم مبويا، وأودينغا أودينغا، ومودي أوري، ونغوغي واثيونغو - إضرابات واحتجاجات للمطالبة بتحسين الطعام، وتخفيف العقوبات القاسية. بل قاطع طلاب مدرسة سانت باتريك حديثة التأسيس -عشية الاستقلال عام 1962 - في بلدة إيتن طعامهم ودروسهم، لأنهم، على حد تعبير أحد المشاركين، طالبوا بمنهاج دراسي أفضل مما كانت المدرسة تقدّمه.
يعيد التعليم في كينيا، كما في العهد الاستعماري، إنتاج التفاوتات أكثر مما يفتح أبواب الحرية
تكشف هذه التحركات، في الماضي كما في الحاضر، عن حقيقة عميقة في الوعي الكيني: الإيمان بأن المدرسة، رغم عيوبها، تبقى بوابة للأمل الفردي والتحوّل الاجتماعي.فمنذ الحقبة الاستعمارية، ورغم محدودية الوصول إليها، تبنّت المجتمعات المحلية المدارس بوصفها مراكز للبناء المجتمعي والحراك الاجتماعي والعمل المناهض للاستعمار.
لجأ الأهالي والطلاب، بُعَيد الاستقلال، إلى المدارس لمساءلة النخب الكينية والمنظمات التعليمية الدولية، وبنوا مئات مدارس "الهارامبي" بجهود جماعية مضنية، على أمل أن تفتح أمامهم أبواب الحرية ("أُهورو" بالسواحيلية). كما سافر بعضهم لمتابعة دراسات عليا في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية والمعسكر السوفيتي. ولا يزال هذا الأمل حياً اليوم، كما شهدتُ في مدرسة نجيسومين للبنات في كيريشو، حيث شارك مئات الطلاب وأولياء الأمور والمسؤولين في احتفال (شيريهي بالسواحيلية) يوم 11 يوليو/تموز للاحتفاء بانتقال 26 طالبة إلى الجامعات الكينية، وهو أكبر عدد في تاريخ المدرسة.
بين احترام راسخ لقدرة التعليم على التحرير، وغضب شديد من عوائقه البنيوية، يتجدد الغليان الطلابي في كينيا
لكن، وعلى الرغم من هذا الأمل، فإن النتيجة الغالبة للتعليم في كينيا اليوم، كما في العهد الاستعماري، هي إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية وتعميق الفوارق الطبقية. فبنية التعليم الكيني، المعتمدة على سلسلة من الامتحانات الوطنية المصيرية ونظام مدرسي هرمي يميّز بين مدارس النخبة الداخلية الوطنية والمدارس الأقل شأناً في المقاطعات والأقاليم، تجعل المؤسسات التعليمية المرموقة حكراً على أبناء وبنات النخبة، بينما يواجه غالبية الشباب مرافق ضعيفة التمويل ومعلمين مثقلين بالمهام.
قد يرى البعض أن تكسير النوافذ أو مقاطعة الدروس أو تنظيم المسيرات طرق غير مجدية لإحداث التغيير، لكن هذه اللحظات من النضال تكشف عن التناقض الكامن في تاريخ التعليم الكيني: احترام عميق لقدرة التعليم على التحرير، يقابله غضب شديد من العوائق التي تحول دون تحقيق تلك الحرية.
فمع أن تاريخ كينيا يحفل بأمثلة ملهمة على قدرة التعليم على تغيير حياة الأفراد، إلا أن سلسلة الإضرابات الطلابية تكشف أنه طوال أكثر من قرن كان الطلاب الكينيون واعين بعمق إلى عدم عدالة النظام التعليمي، وقسوته، وانحيازه، وجموده. إن موجة الاحتجاجات الطلابية في يوليو الماضي ليست إلا أحدث تعبير من شباب الأمة عن قناعتهم بأن هناك خللاً عميقاً في التعليم الكيني. وإذا كان لا بد للمدارس أن تتحوّل لتخدم شريحة أوسع من المواطنين ("وانانشي" بالسواحيلية)، فعلى الشيوخ والنخب الكينية أن يُصغوا جيداً.