تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

الفولان.. قصة رُحل أفريقيا الأوفياء للبقر

26 سبتمبر, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

ينتشر شعب الفولان في أكثر من ثلث دول القارة الأفريقية، فهم مجموعة عرقية تناهز 50 مليون نسمة عابرة للحدود، تتوزع على امتداد 20 دولة من موريتانيا غربا إلى السودان شرقا، ومن موريتانيا شمالا إلى الكاميرون وأفريقيا الوسطى في الجنوب، غير أنهم يبقون أقلية في معظم الدول التي ينتشرون فيها؛ نيجيريا (16 مليون) وغينيا كوناكري (5 ملايين) والسنغال (4 ملايين) ومالي (3 ملايين) والكاميرون (3 ملايين) وبوركينافاسو (1,5 مليون) وتشاد (مليون) وموريتانيا (600 ألف)، والألاف في التوغو وبنين وسيراليون وساحل العاجل وغامبيا...

تبقى هذه الأرقام نسبية عن واحدة من أهم وأكبر القوميات في صحراء أفريقيا على غرار شعب الطوارق، لصعوبة إحصاء هؤلاء البدو الرحل الذين يتحركون في ربوع السهول والصحاري بحثا عن الكلأ لقطعان ماشيتهم، بذلك صار الفولانيين أكثر القبائل شعبية وانتشارا في القارة لكثرة ترحالهم، ما جعلهم أقلية عرقية في معظم بلدان الغرب والوسط الأفريقيين.

عن موطن وجذور الفولانيين

يقع الموطن الأم للفلانيين، بحسب أغلب المؤرخين، في منطقة فوتا تورو على الحدود ما بين السنغال وموريتانيا، حيث بدأت هجراتهم نحو الشرق والجنوب داخل القارة، وإن كان هذا القول بحاجة إلى مزيد من التدقيق لصعوبة ربط شعب لا يستقر بمنطقة جغرافية بعينها، فالترحال لصيق بهذه العرقية منذ ظهورها في القارة.

على غرار التضارب القائم في جذور أكراد أفريقيا، كما يصفهم بعض الباحثين، حتى قيل فيهم سبعة عشر قولا، فهناك من يعتبر أن أصولهم من شبه القارة الهندية، وقائل يرى أنهم فرع من عرب حمير، وثالث يرجعهم إلى شعوب النيفية التي انتقلت قديما لمنطقة السافانا الأفريقية. واعتبر المؤرخ السنغالي شيخ أنتا ديوب أنهم جزء من المصريين القدماء، ممن نزحوا من حوض النيل، وانطلقوا في هجرات متتالية نحو غرب ووسط أفريقيا.

بعيدا عن الأساطير لا تزال هذه القومية تحافظ على تقاليدها في العيش مع البقر ذي القرون الطويلة، متنقلة مع قطعانهم على مدار فصول السنة بين محافظات عدة وحتى بين البلدان

يصعب الترجيح في هذه الأقاويل التي تحتاج تأكيدا علميا بشأن أصول أكبر وأقدم المجتمعات الرعوية في أفريقيا، لبقاء الكثير من الأسئلة عالقة لعل أهمها سؤال اللسان، فاللغة الفلانية تبقى بعيدة كل البعد عن اللغات السامية، ما يستبعد أصولهم السامية، لصعوبة التفريط كليا في اللغة الأصلية بهذه الطريقة، فالترحال باستمرار يفرض الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية وعزلتهم بخلاف التأثير اللغوي التي يتحدث مع الاستقرار.

تعد لغة الفولاني أو لغة الفولا، وهي جزء من اللغات الأطلسية التي تنتمي لعائلة النيجر والكونغو، وتنقسم إلى مجموعات لغوية عديدة، فنجد في السنغال فوتا تورو، وفي غينيا فوتا جالون، وفي مالي ماسنا، وستكو في النيجر وبوركينافاسو، وتنتشر أمادوا في نيجيريا والكاميرون وتشاد وإفريقيا الوسطى... وتمثل لغة أولى أو ثانية للعديد من الشعوب.

حديثا، كشفت دراسة جينية جانبا من الحقيقة حول الأصول الوراثية لشعب الفولاني، نشرتها مجلة الأمريكية لعلم الوراثة البشرية شملت تحليل الحمض النووي ل 1146 شخصا، أظهرت أن التركيبة الجينية للفولاني تجمع بين أصول من أفريقيا جنوب الصحراء وأخرى أوراسية، ما يشير إلى تمازج وراثي مع مع شعوب وافدة يعود إلى ما يقارب 1800.

ملوك البقر في غرب أفريقيا

تحكي الأسطورة أن القدر قال للبقر "أعط الناس لحمك وجلدك ولبنك وظهرك"، فقالت سمعا وطاعة. لكن ماذا سأجد مقابل ذلك، فكان الجواب: "لقد أعطيناك قبيلة اسمها الفلان ستخدمك أبد الدهر". وفي رواية أخرى، أكثر تداولا بغرب أفريقيا، أن الله لم يخلق الفلان إلا للبقر، ولم يخلق البقر إلا للفلان، وأن جدهم الأكبر لما خرج إلى الكون أو ما وقعت عليه عيناه الشمس والبقر.

بعيدا عن الأساطير لا تزال هذه القومية تحافظ على تقاليدها في العيش مع البقر ذي القرون الطويلة، متنقلة مع قطعانهم على مدار فصول السنة بين محافظات عدة وحتى بين البلدان. فعلاقتهم بالبقر تتعدى كونها مجرد نشاط اقتصادي يجنون من ورائه ثروات هائلة إلى مجد يحقق لهم معنى الحياة، فهم يتفاخرون فيما بينهم بامتلاك أعداد وفيرة من قطعان البقر.

نسج الفولانيون عبر التاريخ علاقتهم فريدة مع هذا الحيوان بالذات، فلم يعرفوا منذ القدم جارا أو صديقا أوفى من البقر ذي القرون الهلالية الضخمة، حتى انتشرت بين خصومهم من العرقيات الأخرى مقولة أن "الهند يعبدون البقر، والفولان استعبدهم البقر". فأن يعطيك الفلاني بقرة كأنه أعطاك ابن عم له، لأن البقر عند الفلان أبناء عمومة.

محاصرين بين الطبيعة والسياسة

لم تسلم عرقية الفولان من تقلبات السياسة وتوترها داخل بلدان الغرب الأفريقي، حتى باتت محاصرة في أكثر من دولة بين عنف الطبيعة من ناحية وعنف السلطة من ناحية أخرى، فالتوتر في مراكز السلطة يرخى بظلاله على الأقليات في الهوامش والأطراف.

كان للتغير المناخي بالغ الأثر في حياة الفولانيين، بسبب ارتباطهم الشديد بالطبيعة فهي المورد الأساسي لكلأ ماشيتهم. مع توالي سنوات الجفاف وشح الأمطار وجد هؤلاء أنفسهم في أزمة حادة في منطقتي الساحل والصحراء معا، ما حتم عليهم كثرة الترحال وطوله مدته بحثا عن المياه والرعي، لدرجة أن التحول لديهم بات شبه منتظم بحثا عن مراعي جديدة، ما يضعهم في مواجهة مع أصحاب الأراضي (المزارعين) التي غالبا ما تكون مناطق زراعية تقليديا. فالأرقام تتحدث عن 15 ألف قتيل في المنطقة ما بين عامي 2010 و2020.

مع توالي سنوات الجفاف وشح الأمطار وجد هؤلاء أنفسهم في أزمة حادة في منطقتي الساحل والصحراء معا، ما حتم عليهم كثرة الترحال وطوله مدته بحثا عن المياه والرعي، لدرجة أن التحول لديهم بات شبه منتظم بحثا عن مراعي جديدة

على صعيد آخر، وجد الفولانييون أنفسهم بين ناريين، نار الجماعات المتطرفة التي تبسط سيطرتها على المناطق التي يتحركون فيها بحثا عن الكلأ، ونار الأنظمة الحاكم التي تعتبرهم جزءا من هذه التنظيمات، خصوصا وأن أسماء من هذه العرقية تتولى مواقع قيادة، مثل: إبراهيم مالام ديكو قائد أنصار الإسلام، وأمادو موفا زعيم كتيبة ماسينا (نصرة الإسلام)، ما دفع أفرادا كثر إلى الانضمام لصفوف هذه الجماعات القتالية، ليس اقتناعا بل فقط رد فعل على ظلم الأنظمة العسكرية الحاكمة.

تمتلك الأنظمة العسكرية في المنطقة حساسية زائدة تجاه باقي العرقيات، فنفس سيناريو الطوارق يتكرر مع الفولان الذين تعرضوا غير ما مرة لحملات تطهير ممنهجة من قبل الجيش النظامي، حتى إن نصف المدنيين الذين قتلوا بسبب الإرهاب في مالي وبوركينافاسو عام 2022 من طائفة الفولانيين.

استغلت عرقيات أخرى ذلك للدعوة صراحة إلى الانتفاض وإبادة طائفة الفولاني العرقية، بعد إشاعة ما يعرف إعلاميا ب"تمرد الفولاني" الذي كان صرخة ضد انعدام الأمن والأمان لهؤلاء في بلدان الساحل. فشهر أغسطس/ آب 2022 انتشر تسجيل صوتي على منصات التواصل الاجتماعي تدعو إلى تطهير بوركينافاسو من هؤلاء بدعوى ارتباطهم مع التنظيمات المتطرفة المنشرة في المنطقة.

حتى لا يبدو شعب الفلان بمشهد الأقلية التائهة في ربوع الصحراء في صورة تعيد للأذهان ولايات أمريكا زمن الهنود الحمر، لا بأس من التذكير بأن هذه العرقية أنتج ساسة وزعماء أفارقة فالرئيس النيجري الراجل محمد بخارى (2015-2023) كان من هذه القومية، والرئيس السنغالي الأسبق ماكي صال (2012-2024) والرئيس الحالي لغامبي أمادو بارو.