تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 24 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

الفن والسلطة: صراع الكلمة والقوة

6 مارس, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

الفن ظاهرة إنسانية ولدت مع الإنسان، فحيث يوجد الفن يوجد الإنسان، بغض النظر عن إثنيته وقوميته وعرقه وديانته ولونه، وعلى مر العصور. أعني كلمة الفن بمعناها الواسع، سواء كان الفن رسما أو نقشا أو نحتا أو شعرا أو نثرا أو غناء.
هذه الظاهرة العابرة للحدود المتصلة للوجدان، ليست مقتصرة عند حدود جغرافية معينة فحسب، بل لديها أهمية أكبر من ذلك، لصلتها الوثيقة بهوية الإنسان، حيث يعبر كل شعب من خلال الفن عن مشاعره وأفكاره وأحاسيسه وجماله. فضلا عن الحب والتاريخ، سواء كان ذلك في السلم  أو في الحرب. من هنا تظهر أهمية اللغة، إذ هي الوسيلة التي من خلالها يعبُر الفن إلى الوجدان الإنساني، هذا إذا افترضنا أن اللغة أحد المكونات الرئيسية التي تشكل الهوية إلى جانب العقيدة والثقافة.
العلاقة بين الفن والسلطة علاقة تفاعلية تصادمية، تخضع لاعتبارات السياسة سلبا أو إيجابا. كلما اتسع مجال الحرية كلما ظهرت جمالية الفن وإبداعاته، وتتسع مساحة التفاعل، وكلما ضاقت مساحة الحرية كلما تزداد فرص التصادم مع السلطة القائمة أينما كانت. فعادة ما تلجأ السلطة استخدام القوة لكبح جماح تمرد الفن أو ترويضه لصالحها، في المقابل يستخدم الفن قوة الإرادة والكلمة لكشف عورات السلطة وفضحها. 
يمثل الغناء العمود الفقري بالنسبة للفن الصومالي الحديث إلى جانب الشعر، رغم حداثة عهد الغناء بالمقارنة مع الشعر. مثَل الشعر وسيلة التعبير الأسمى بالنسبة الصوماليين، فمن خلاله عبّروا عن أفراحهم وأتراحهم وانتصاراتهم وبطولاتهم، ناهيك عن الحب. وقد كان ذلك مصدرا لإثراء اللغة الصومالية، وحفظها من الاندثار. فلم تكن لغتنا الصومالية مكتوبة قبل السبعينيات من القرن المنصرم، ولولا الشعر والشعراء لربما ضاع منا الكثير. كان الشعر هو الفن الذي حافظ على جزء كبير من تاريخنا، وتناقلته الأجيال المتعاقبة إلى أن دون في صفحات الكتب، حين أصبحت لدينا لغة مكتوبة.


كلما اتسع مجال الحرية كلما ظهرت جمالية الفن وإبداعاته، وتتسع مساحة التفاعل، وكلما تضيق مساحة الحرية كلما تزداد فرص التصادم مع السلطة القائمة أينما كانت


عزز الغناء الحديث مكانة الفن عند الصوماليين حين ظهر في مدينة بورما، وكان ذلك في نهاية الأربعينات. يعتبر عبد سينموا الأب ومؤسس الغناء الصومالي الحديث، وسمي هذا النوع من الغناء في البداية "بلوو"، ثم بدأ ينمو ويتطور في مدينة هرجيسا حتى وصل لما هو عليه اليوم، وتلك قصة طويلة ليس هذا مكان الخوض فيها.
بعد مجيء الاستعمار إلى المنطقة، وسيطرته على الأراضي الصومالية، أصبح الشعر جزءا لا يتجزأ من سلاح مقاومة الاستعمار، إلى أن جاء السيد محمد عبدالله حسن، وأعلن ثورته المسلحة ضد المستعمر. كان الشعر أحد أهم أسلحة الثورة إلى جانب السلاح التقليدي. 
عقب جلاء المستعمر الإنجليزي والإيطالي، توحد الشطرين الشمالي والجنوبي وشكلا الجمهورية الصومالية، قبل أن يتم تغيير الاسم إلى جمهورية الصومال من قبل نظام سياد بري.
بعد تعثر الحكومات الصومالية المتعاقبة ما بعد الاستقلال، واغتيال رئيس الجمهورية عبدالرشيد علي شرماركي، انقض سياد بري ورفاقة على الديمقراطية الوليدة، وأعلنوا ثورتهم لتدخل البلاد منعطفا لا زالت تعاني تبعاته حتى الآن.


سأل سياد بري أحد الشعراء: لماذا تستخدم كل ما تقوله ضد النظام؟ فرد عليه: ما قصدته شيء، أما كيف استخدمه فهذا شيء آخر. ولا أملك سلطة لأجبر الناس أن يفهموها كما قصدت


شكل الحكم العسكر الذي بدأ عام 1969 اختبارا حقيقيا للمثقف الصومالي، الذي كان من المفترض أن يدافع الحرية والعدالة والمساواة. لقد تأملت كثيرا، ومرت أمامي أسئلة كثيرة، في ظل انعدام وسائل التعبير مثل: التلفزيون والصحف والإذاعة وتأميم المساجد... وفي ظل هذا الجو المشحون بشعار القومية الصومالية التي رفعها النظام، كيف سيمارس المثقف الصومالي دوره المطلوب؟ هل سيخوض مغامرة تقوده إلى الانتحار؟
هنا سكت الجميع، وفضل البعض الصمت تجنبا لما هو أسوأ، اللهم أقلية من الذين رفضوا الاستسلام، منهم من استشهد مثل العلماء الذين أعدمهم النظام، ومنهم من فضل المواجهة على الاستسلام. 
في ظل هذا الوضع برز دور الفن، حيث ألف الشعراء الصوماليون مسرحيات ذات مغزى وعمق السياسي، وأغاني ظاهرها الحب وباطنها السياسة.
في البداية، التقط نظام سياد بري هذه الإشارات أو قل تمرد الفن على سلطته، وحاول ثنيهم عن هذا ذلك، بالترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى، حتى سأل سياد بري أحد الشعراء: لماذا تستخدم كل ما تقوله ضد النظام؟ فرد عليه: ما قصدته شيء، أما كيف استخدمه فهذا شيء آخر. ولا أملك سلطة لأجبر الناس أن يفهموها كما قصدت.
ثم ما لبث أن بدأ الشعراء بأشهر سلسلة في الشعر الصومالي، والتي أطلق عليها اسم "سينلي"، وقد شارك هذه السلسلة من الشعر معظم من كانوا في الساحة آنذاك، ودل كل واحد بدلوه فيها، وتلتها سلسلة أخرى أطلق عليها اسم "ديللي". وقد أكد الشاعر الكبير محمد إبراهم ورسمي هدراوي أن السلسلة الأخيرة كانت بمثابة هجوم علني وإعلان حرب على النظام، ما دفعه إلى اعتقال بعض من شاركوا فيها، وسجنوا ودفعوا ثمن ذلك في السجن سنين عددا.
مواجهات السلطة والفن تدور رحاها في كل أصقاع الأرض، يتراجع الفن حينا وينتصر حينا آخر. ومن أبرز هذه الانتصارات انتزاع السود حقوقهم في أمريكا، حيث كانت موسيقى الجاز التي ولدت في رحم المعاناة من كسر حاجز التمييز العنصري في البداية، وأصبح البيض والسود يختلطون فيما بينهم أثناء العزف والغناء. 


أما الانتماء للوطن، بما يشمل ذلك من حدود جغرافية وسياسية، فيحتم أن يكون للفنان موقف واضح حول القضايا التي تدور في واقعه أو وطنه


لم يكن انتصار الفن محصورا هنا فقط، بل كذلك أيقظ أمما من سباتها الطويل، وما رسم على جدران المدرسة السورية التي أشعلت ثورة الشعب ببعيد عنا. متى استخدمت الأنظمة القمعية فوهات البنادق لكبح جماح شعوبها، كان الفن ملاذ المحتجين والمتمردين على كل واقع لا تطيب فيه حياة الانسان. هذا الصدام بين الفن والسلطة ليس جديدا، بل هو صراع قديم متجدد، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 
يضطلع الشعراء والفنانين في الصومال بمركز المفكرين والمثقفين، لأنهم من قاموا بدور المثقفين أكثر من غيرهم، وذلك لأن المجتمع الصومالي لم يعرف المفكرين والمثقفين بالمعنى الحديث. وكون المفكر أو المثقف يدافع عن القيم العليا، مثل: الحرية والعدالة والمساواة، فإن من قام بهذا الدور في تاريخنا الحديث هم الشعراء والفنانين، لذلك آثرت أن أسميهم مفكرين ومثقفين.
لطالما كانت رسالة الفن تدافع عن القيم والجمال والحرية والعدل والمساواة، فإن انتماء الفن يصبح انتماءً إنسانيا، لأن هذه القيم تبقى قيما تتشارك فيها كل الإنسانية. أما الانتماء للوطن، بما يشمل ذلك من حدود جغرافية وسياسية، فيحتم أن يكون للفنان موقف واضح حول القضايا التي تدور في واقعه أو وطنه. 
لا أخفيكم سرا لو قلت لكم أنني لا أحترم أي فنان ليس لديه موقف سياسي حيال الأحداث. رسالة الفن لا تجعل الفنان سجينا لحفلاته وسهراته، بل تدعوه لإبداء رأيه مع تمسكه بقيمه الأخلاقية باعتباره أحد رواد المجتمع. إن مقولة أن الفن والسياسة منفصلين مقولة زائفة، اخترعها المستبدون خوفا من الفن. 
يعتبر الفن وطنيا من حيث الحدود الجغرافية، ويبقى إنسانيا من حيث القيم السامية. لكن يظل أحد المجالات القليلة التي نجت من خلافات القبلية التي قسمت الشعب الصومالي أفقيا. يظل الفن الصومالي جامعا لكل الصوماليين، وحارسا لهويتهم المشتركة، وخادما للدين حين يكون ملتزما، وحاميا للغة الصومالية باعتبارها أحد مكونات الهوية. مع انهيار الدولة الصومالية تحرر الفن الصومالي من القيود التي فرضها نظام سياد بري، ووجد فضاْءً رحبا وواسعا رغم ما يشاع من انحسار المعنى والمحتوى لدى الفن الصومالي.
أما في الأقاليم الأخرى التي يقطنها الصوماليون في القرن الإفريقي، فما زال الفن يعاني بعض الإشكاليات المتعلقة بالوضع السياسي في هذه المناطق. ولا يزال بعض الشعراء والفنانين منفيين قسرا. كل ذلك يؤكد أن الصراع بين الفن والسياسة صراع أبدي، تحاول السياسة السيطرة عليه، ويأبى الفن إلا أن يكون عنيدا ومتمردا، ممانعا ومقاوما.