الأربعاء 19 نوفمبر 2025
غالبا ما نعتبر التسكع فعلا مشبوها، أو على الأقل خللا في المنطق السائد؛ كونه خاليا من أي غاية محددة، وبما أننا في المجتمعات الحديثة نقدس الإنتاجية؛ نختزل الحركة في تلك الوظيفة فحسب، وما تؤدي إليه من نتائج ملموسة، والتسكع في ظاهره حركة بلا إنتاج أو نفع، ما يجعل "المتحرك بلا هدف" عاطلا أو خارجا عن المألوف.
ولكن حين يقارب فلسفيًا، يتحول إلى ما يشبه تمرينا وجوديا يختبر به الإنسان علاقته بالزمن والمعنى والمدينة، ولا يعد التسكع مجرد حركة عابرة أو ضياعا للوقت، بل يصبح تجربة تهدف إلى التحرر من إيقاع العالم الخارجي الذي يفرض علينا استبداد الإنجاز.
في هذه الممارسة، يتعلم المرء كيف يترك اللحظة تتفتح أمامه كما هي، بلا استعجال، بلا توقع، بلا ضغط أو إنجاز، وبهذا المعنى يصبح التحرك بلا غاية شكلا من أشكال التأمل، أو فنًا للحضور في العالم، حيث تتحول الخطوة من مجرد تنقل في المكان إلى فعل مقاومة ضد اختزال الحياة في الإنتاجية والغاية.
صاغ الكاتب الفرنسي أنيس بازين، جملة مثيرة للاهتمام حين اعتبر "المتسكع الباريسي الوحيد المستقل تماما"، وهذا القول لخص جوهر تلك الشخصية التي لا تتقيد بواجبات مهنية محددة، ولا تحكمها صرامة الغاية، إنما الحرة في وقتها ومسارها، المتجولة بدافع الفضول فحسب. لهذا بالذات، صار المتسكع رمزًا للحرية الفردية وسط مجتمع منظم ومنضبط؛ أي أنه شخص يعيش داخل النظام، ولكنه لا يتقيد به.
يفتح التجول في الحقول والغابات أمام المرء اتصالا جديدا مع الطبيعة والحرية الداخلية على حد تعبير هنري ديفيد ثورو، وهو عودة إلى الطبيعة باعتبارها الأصل الأول للحرية، بحيث يتيح للإنسان أن يخلع عن نفسه أثقال المجتمع، فيلتقي بالعالم بوصفه وحدة حية لا تقبل التجزئة.
يصبح التحرك بلا غاية شكلا من أشكال التأمل، أو فنًا للحضور في العالم، حيث تتحول الخطوة من مجرد تنقل في المكان إلى فعل مقاومة ضد اختزال الحياة في الإنتاجية والغاية
يسير الزمن بالنسبة ل "المتجول بلا غاية" من خلاله لا ضده، فهو ليس خطا مستقيمًا يبدأ بعمل وينتهي بإنجاز ما، بل مساحة مفتوحة يعيشها ببطء، وكل لحظة تحمل معنى بذاتها، ولا يقيس الدقائق بما حققه خلالها، بل بما رآه أو أحسه أو التقطه من تفاصيل صغيرة: ضحكة عابرة، طفل يركض، ظل مصباح على الرصيف، أو رائحة خبز تفوح من مخبز.
يبعثر وقته كما يبعثر الرسام الألوان على اللوحة، من غير خوف من ضياعه. يحوّل التسكع الزمن من "وسيلة" إلى "خبرة"، لذلك "المتجول بلا غاية" يعيش داخل منطق آخر أبطأ وأعمق، وأكثر امتلاء.
من أبرز من أعطى هذا الفعل قيمة أدبية وفلسفية الشاعر شارل بودلير في كتاباته عن "رسام الحياة الحديثة"، فأطلق عليه اسم "الفلانور" ووصفه بأنه شخص يتجول في شوارع المدينة، يذوب في الزحام، لكن يظل يراقب ويتأمل، ثم يحوّل التفاصيل العابرة إلى شعر وصور جمالية. يعد الفلانور من أبرز الرموز التي ولدتها الحداثة في باريس، في القرن التاسع عشر، وهو عند بودلير شاعر اللحظة العابرة، القادر على التقاط الجمال وسط العشوائية اليومية.
بعد عقود، أعاد الفيلسوف والناقد الثقافي فالتر بنيامين إحياء هذا المفهوم في مشروعه الضخم "أروقة باريس"، وعدّ الفلانور أكثر من مجرد شاعر أو متأمل، بل ناقدا اجتماعيا غير مباشر، مؤرخا غير رسمي للمدينة، ورمزًا لفهم الحداثة وعلاقتها بالرأسمالية، واعتبره شكلا من أشكال التمرد الحضاري، وفعلا لاستعادة المدينة، وممارسة فلسفية بحد ذاتها.
يعيش المتسكع داخل المدينة الحديثة، ولكنه يقف على مسافة منها، مراقبًا التغيرات في أنماط الاستهلاك، وفي علاقة الفرد بالجماعة، وفي التجربة الحسية لها. وهكذا انتقل اسم الفلانور من مجرد وصف "للمتسكع" إلى رمز ثقافي معقّد، ليظل حتى اليوم علامة على تجربة المشي والتأمل في قلب المدينة.
وقد حددت كتابات بودلير ومن بعده فالتر بنيامين ملامح الفلانور، فهو كائن يسير بلا غاية أو وجهة، خرج عن إطار المجتمع البرجوازي، وتمرد عليه، يعيش ببطء على الهامش، ولديه قدرة على تأمل الحياة اليومية، وملاحظة التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه إليها الآخرون.
وقد قام بيير لارووس بوصف المتسكع بأنه شخص يترك نفسه للصدفة، لكن في الوقت نفسه مراقب حاد للتفاصيل، كما ميز بين أنواع متعددة للمتسكعين، فيوجد المتسكع في الحدائق الحالم الهائم على الطبيعة، وهناك متسكع في الأسواق والمحلات التجارية، وآخرون يتجولون في المقاهي ويندمجون في أجواء تسودها نقاشات وحوارات، إضافة إلى المتسكع الذكي الأصيل الذي يعيش تفاصيل الفضاء بحرية تامة.
يعيش المتسكع داخل المدينة الحديثة، ولكنه يقف على مسافة منها، مراقبًا التغيرات في أنماط الاستهلاك، وفي علاقة الفرد بالجماعة، وفي التجربة الحسية لها
وللتسكع أيضًا بعد نفسي وروحي آخر، فحين يترك المرء نفسه يمشي بلا قصد، يدخل عقله في حالة من الشرود اليقظ، الأفكار تنبثق بلا ترتيب مسبق_ ذكرى قديمة، فكرة مؤجلة، أو حدس جديد، ويمنح العقل فسحة للربط بين ما لم يكن مترابطًا. وليس غريبًا أن كثيرًا من الكتّاب والفنانين وجدوا في المشي العشوائي مصدر إلهام.
كان سورين كيركغارد يؤكد بأن أفضل أفكاره وكتاباته وُلدت وهو يتجول في شوارع كوبنهاغن، بلا هدف ظاهر سوى الإصغاء لخطواته وإيقاع المدينة من حوله، والمشي بالنسبة له كان الطريق إلى التفكير، والفضاء الذي تتشكل فيه الأفكار، وتتبلور الأسئلة الوجودية.
واعتبر أن السير بلا غاية محددة يدفع الإنسان في حوار صامت مع ذاته، حيث تتدفق الأفكار بحرية بعيدًا عن صرامة الجلوس خلف مكتب أو الانشغال في عمل ما، وهكذا فالتسكع عنده ممارسة وجودية تفتح المجال أمام مواجهة الذات، والتفكر في قلقها، ومصيرها، وحريتها.
كذلك ربط كيركغارد بين المشي وبين العلاج النفسي الداخلي؛ فقد كتب "كل مشاكلي تُحل عندما أخرج للمشي"، ملخصا تصوره عن التسكع باعتباره دواءً للروح، ومتنفسًا يخفف من ثقل الحياة الحديثة، ويعيد للفرد صلته البسيطة بوجوده.
وقد عبّر عن هذه الفكرة بوضوح أكثر في رسالة كتبها إلى زوجة شقيقه، التي كانت تعاني من المرض والاكتئاب، مشيرا إلى أهمية المشي للصحة النفسية والجسدية، قائلا: "فوق كل شيء، لا تفقدي رغبتك في المشي. كل يوم أمشي حتى أصل إلى حالة من "الرفاهية"، وأبتعد عن كل مرض؛ لقد مشيت لأصل إلى أفضل أفكاري".
التسكع فنّ لأنه ممارسة للوجود بلا غاية، حيث يصبح المرء كائناً واعياً للحظة، شاهداً على المدينة ونفسه في آن مع، فيه يتحرر الشخص من الإملاءات العملية، ويصير الزمن امتدادًا شعوريًا
في مكان آخر، يعتبر هرمان هسه التسكع تجربة وجودية تتجاوز الجسد، لتصبح ممارسة معرفية وروحية، فالسير في تصوره، ليس تنقلا من نقطة إلى أخرى، وإنما انفتاحا على أفق جديد للوعي، إن الطريق لا يُعرَّف بالمسافة التي يقطعها السائر، بل بالتحوّل الذي يحدث في داخله.
في سدهارتا، تتجلى هذه الرؤية بوضوح؛ إذ لا يتلقى البطل حكمته من المعلمين ولا من الكتب، بل من الإصغاء إلى العالم كما يُعطي نفسه عبر النهر والطبيعة.
أما في رحلة إلى الشرق، فإن الطريق ذاته يغدو رمزًا للبحث المستمر، كل خطوة تفكك أوهام الذات، وكل منعطف يُدخل المسافر في بعد آخر من الوجود، والهدف هو أن يصبح السائر هو نفسه "الطريق"، المشي هنا اكتسب معنى صوفيا، إنه عبور داخلي نحو هوية أعمق، نحو الانسجام مع الكلّ.
وجد جان جاك روسو، الذي عاش ملاحقًا من مجتمعه، في التجول الحرّ عزاءً يعيد له توازنه الداخلي، كان يؤمن بأن الإنسان حين يسير بلا وجهة محددة، يذوب في الطبيعة ويستعيد انسجامه معها، فيشعر بكيانه أكثر صدقًا وأقل تكلّفًا.
وضع روسو المشي في منزلة فلسفية راقية، حين اعتبر في كتابه الشهير -ايميل- بأن أفضل طريقة لتهذيب النفس هي "المشي الحر" في أحضان الطبيعة، لأنه فعل استعادة للبراءة الأولى التي فقدها الإنسان حين انخرط في المجتمع، وعودة إلى علاقة أصلية مع الوجود.
التسكع فنّ لأنه ممارسة للوجود بلا غاية، حيث يصبح المرء كائناً واعياً للحظة، شاهداً على المدينة ونفسه في آن مع، فيه يتحرر الشخص من الإملاءات العملية، ويصير الزمن امتدادًا شعوريًا، تُقرأ فيه الحياة من تفاصيلها الصغيرة.