تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

الفاشر: عار على جبين البشرية

29 أكتوبر, 2025
الصورة
الفاشر: عار على جبين البشرية
Share

سقطت مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع. ربما الأصوب القول: صمدت مدينة الفاشر فوق الاحتمال، وقاومت بأكثر مما ينبغي لها أن تقاوم. مدينة تقف محاصرة لأكثر من ثمانية عشر شهراً، ترمقها الأنظار بلا حراك، حصادها من الأوصاف ليس السقوط. على امتداد هذه الفترة رأى البعض في الفاشر أزمة إنسانية محضة، وعرج البعض للبعد السياسي باختزال فأنتج واقعاً أكثر تشوهاً. بينما لا يتساءل أحد عن مصير هذا الاختلال في الإنسانية وعدم احترام النظم والقوانين، وكأنما أصبح هذا هو المعتاد، أو كأنما الفاشر والسودان ككل هو الحلقة الأخيرة في هذا المشهد العبثي.

الأزمة الإنسانية

تجسدت في الفاشر كل المآسي والكوارث المرتبطة بالحروب، وربما أخرى لم تشهدها الحروب ولم يعرفها التاريخ من قبل. بدأ الحصار في أبريل/ نيسان من العام الماضي. كانت الفاشر قبلة للآلاف من الذين نزحوا من مناطق دارفور المختلفة التي اجتاحتها قوات الدعم السريع، وحتى من قبل ذلك. حرمت المدينة من الغذاء والدواء، بعد الحصار المطبق الذي فرضته قوات الدعم السريع على المدينة. في أيام الحصار الأولى، كشف المسؤول الأممي المعني بالشؤون الإنسانية بالسودان، توبي هاروارد، عن تحديين رئيسيين: عدم كفاية الموارد لتغطية الحاجيات الإنسانية، وصعوبة توصيل المساعدات الإنسانية بسبب تعقيد التفاهم مع الأطراف المتحاربة.

في الثالث عشر من يونيو/ حزيران 2024، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2736، بخصوص مدينة الفاشر. دعا إلى حوالي تسعة أمور على رأسها: دعوة قوات الدعم السريع لرفع حصارها عن الفاشر، دعوة الأطراف الخارجية لوقف دعمها، وإلزام الأطراف المتحاربة بضرورة الالتزام بإعلان جدة الموقع بين القوات المسلحة والدعم السريع في مايو/ أيار 2023، بالإضافة لحث المجتمع الدولي على سد فجوة التمويل الخاصة بخطة الاستجابة الإنسانية.

إن الحديث عن السودان وأزماته، تاريخياً، يأتي عبر عدسات غربية تختزل القضايا لتسهيل فهم الأمور وتفسيرها، ومن ثم إنتاج معارف وعلوم حول السودان والسودانيين؛ فقد طغت هذه التفسيرات لكل من أراد الحديث عن السودان وأزماته

من البديهي أن يدرك القارئ أن قوات الدعم السريع لم تستجب لقرارات مجلس الأمن، بل لم تلتزم بمخرجات إعلان جدة الخاص بحماية المدنيين. هجمت قوات الدعم السريع على الأعيان المدنية من مشافي ومساجد ومساكن للناس. تساقطت المشافي العاملة في الفاشر، واحداً تلو الآخر، لتصبح المدينة التي تضم الآلاف من المواطنين مخدومة بمشفى واحد فقط لا غير. لم تسلم دور العبادة من القصف بالطيران المسير، وكان من أبرز تلك الهجمات ما وقع قبل حوالي ستة أسابيع؛ إذ ترك خلفه حوالي ثمانين قتيلاً وعشرين من الجرحى. لم تتردد قوات الدعم السريع في الإغارة على مخيمات النازحين على تخوم الفاشر وحرقها، كما يغير الجيش على جيش مكافئ. فعلت قوات الدعم السريع ذلك بدم بارد دون أن تعبأ بإعلان أو قرار. حاولت أن تغطي سوءتها بالسماح للمدنيين بالخروج من الفاشر بأمان دون أن تلاحقهم، لكنها كانت تستدرجهم إما للموت أو طلباً للفدية من أقاربهم.

إن فكرة المخرج الآمن المقدم من الدعم السريع أمر يدعو للسخرية. إذ أن المدينة ضاقت على أهلها بسبب انعدام الغذاء والدواء، لدرجة أن الناس تحولوا لأكل أعلاف الحيوانات. وقد كانت المدينة، بعد شهرين من الحصار، في المستوى الرابع من مقياس المجاعة، وهو الطوارئ، بينما أجزاء أخرى في المستوى الخامس والأخير - المعروف بالكارثة. على الأرجح لقد تحولت المجاعة إلى مستويات تفوق الوصف والقياس بعد أكثر من عام. لم يكن ذلك ليحصل لولا الحصار المضروب على المدينة من قبل الدعم السريع، والتهديد بإسقاط أي محاولة لإسقاط إغاثة على المدينة. وقد هددت قوات الدعم السريع باستعمال أنظمة دفاعها الجوي في أغسطس/ آب المنصرم.

عاشت الفاشر مأساة إنسانية فوق الوصف، امتدت لأكثر من عام ونصف العام، اختبرت فيها الإنسانية وسقطت، وضربت خلالها القرارات الدولية عرض الحائط، وتحولت أخبار الضحايا والشهداء لمجرد أرقام تتناولها غرف الأخبار، ويحكي عنها الناشطون.

البعد السياسي

لا تكمن المشكلة في وجود أزمة إنسانية في الفاشر. إذ لا يمكن النظر إلى الأزمة الإنسانية كحدث معزول عن السياق السياسي. لماذا تحاصر الفاشر من الأساس؟ ومن أين للدعم السريع بأنظمة دفاع جوي؟ وماذا يدفع المرتزقة للقدوم من أقاصي العالم للموت على تخوم الفاشر؟ لماذا هناك حرب دائرة في السودان من الأساس؟

يحاول البعض الخروج من البعد الإنساني للأزمة، والولوج للجانب السياسي. ولأن الحديث عن السودان وأزماته، تاريخياً، يأتي عبر عدسات غربية تختزل القضايا لتسهيل فهم الأمور وتفسيرها، ومن ثم إنتاج معارف وعلوم حول السودان والسودانيين؛ فقد طغت هذه التفسيرات لكل من أراد الحديث عن السودان وأزماته.

ظلت الحرب في الجنوب مختزلة في نظرة الشمال العربي المسلم الذي يقاتل الجنوب المسيحي الأفريقي. كان هذا الفهم مدخلاً لكل من يدلي بدلوه في حرب الجنوب، مغفلاً جميع الأبعاد الأخرى مثل: العوامل الخارجية، والخلافات بين المكونات الجنوبية فيما بينها، والتي لا تخضع لثنائية عربي مسلم -أفريقي مسيحي. وقد عزز من هذه السردية أن بعض المؤرخين من ذوي الأصوات العالية والمؤثرة كانوا بالأساس يخدمون في الإدارة الكولونيالية بالسودان.

في الحرب الحالية، لا يبذل الناس جهداً لفهمها وتعقيداتها. وتأتي بعض التحليلات الاستشراقية أن السودان له تاريخ ممتد مع الحروب والنزاعات لذلك هو أمر طبيعي أن تكون هناك حرب؛ وكأنما الحروب تنشأ من العدم ويعتاد عليها الناس، دون أن تكون هناك أسباب مادية وتعقيدات من ورائها

لا يمكن النظر لما كتبه هارولد ماكمايكل عن تاريخ العرب في السودان دون وضع اعتبار لنظرته هو للمسألة، كموظف في الجهاز الإداري للاحتلال البريطاني. وقد أورد محمود ممداني في كتابه عن "المستوطن والأصلاني"، في الفصل الخاص بالسودان، جانباً من المراسلات الرسمية لماكمايكل التي كان واضحاً من خلالها استفادته من التقسيم الثنائي لخدمة الأجندة الكولونيالية.

عندما اندلعت الحرب في دارفور عام 2003، تبارى الناس لوصفها بأنها حرب بين القبائل العربية والقبائل الأفريقية في دارفور. أغفل المجتمع الدولي والعالم النظر لأي نزاع خارج هذه الثنائية، وباتت هذه الصراعات التي لا يوجد فيها عنصر عربي يقاتل عنصراً غير عربي أمراً خارج نطاق البحث والاهتمام. بل إن المنظمات الحقوقية والإنسانية نفسها تتجاهل، قدر الإمكان، تناول نزاعات لا تحقق شروط الثنائية المختزلة.

في الحرب الحالية، لا يبذل الناس جهداً لفهمها وتعقيداتها. هناك تقسيمات جاهزة للمسألة: حرب جنرالين، حرب على السلطة، حرب أشعلها الإسلاميون. وتأتي بعض التحليلات الاستشراقية أن السودان له تاريخ ممتد مع الحروب والنزاعات لذلك هو أمر طبيعي أن تكون هناك حرب؛ وكأنما الحروب تنشأ من العدم ويعتاد عليها الناس، دون أن تكون هناك أسباب مادية وتعقيدات من ورائها.

تناول جون يونق، في كتابه عن الحرب الأهلية جنوب السودان. وهي حرب اندلعت في الجنوب في ديسمبر/كانون الأول عام 2013 بعد عامين من اضمحلال الشمال العربي المسلم من المشهد؛ ومع ذلك شهد الجنوب أكثر الحروب دموية. يحكي جون أن عدداً من العاملين في الحقل الإغاثي في الجنوب، إبان الحرب بين الشمال والجنوب، كانوا يتبنون مواقف ضد الشماليين، وآراء عدوانية تجاه الشمال، وهم لم يقابلوا شمالياً أو سودانياً عربياً في حياتهم قط.

في مسألة دارفور بعد عام 2003، انتبهت الكاتبة الصحفية جولي فلينت إلى أمر في غاية الأهمية. ذكرت في تقرير لمسح الأسلحة الصغيرة، والذي ركز على الصراع العربي العربي في دارفور، أن أرقام الضحايا الأبرز خلال السنوات الأربع الماضية (2006-2010) لم يكن بسبب المعارك بين الحكومة والمتمردين، بل بين القبائل العربية فيما بينها. وقد أوضحت أن أرقام الضحايا نفسه وتوثيق المواجهات لا يجد اهتماماً خارج السودان.

بالعودة للحرب الدائرة حالياً، بقصد أو بغيره، يغفل الدور الخارجي تحت مظلة صراع جنرالين، أو أنه قتال بين السودانيين. تتجاهل التحليلات مئات الرحلات الجوية التي تنقل العتاد إلى قوات الدعم السريع عبر ليبيا وتشاد وغيرها. لم يكن للسودانيين يوماً أصولاً من كولومبيا حتى ينخرط المئات من الكولومبيين في "حرب أهلية". كذلك لا يمكن أن يفسر الوجود الكثيف للمرتزقة القادمين من جنوب السودان في الحرب على أنه حرب أهلية. يثير تقرير لفريق الخبراء الأممي المعني بجنوب السودان الدهشة نظراً لاحتوائه على مقابلة مع ضابط كبير من جنوب السودان كان موجوداً في الخرطوم للقتال بجانب الدعم السريع.

سياسة الاختزال

هذه النظرات القاصرة التي لا تقدم فهماً عميقاً للحرب، لا تساهم في تسطيح الأمور فحسب، بل إنها لا تقدم حلولاً وتساعد في تقديم الحلول المجزأة والمؤقتة. على سبيل المثال، لم يستنكر العالم وجود أطراف متورطة في دعم قوات الدعم السريع، إعلامياً وعسكرياً وسياسياً، في الآلية الرباعية المعنية بوجود حل للحرب في السودان. على النقيض من ذلك تهاجم الحكومة السودانية ل “تعنتها" في الانخراط تحت الآلية الرباعية.

التعنت الحكومي المزعوم ليس مرده رفض الجلوس بالمطلق، بل لأن المنطق الحكومي يقتضي الجلوس مع راعي قوات الدعم السريع في مفاوضات مباشرة. وقد عبر عن ذلك من قبل وزير المالية جبريل إبراهيم، عندما قال إن الحكومة لا ترفض الجلوس مع داعمي الدعم السريع بقدر ما ترفض أن يكونوا وسطاء. وقد كان هذا المنطق، المتعنت لدى البعض، هو سبباً لقبول السودان بالوساطة التركية التي عرفت الأزمة تعريفاً صحيحاً.

في هذا العالم غير المبالي، لا ينبغي على دول الجوار والشعوب المجاورة أن يكونوا نسخاً من العالم الغربي الذي يستسهل القضايا، ومن ثم يستسهل الحلول. ينبغي أن يبذل الناس جهدهم لفهم أبعاد الموضوع، ليس لأن من واجبهم التعاطف مع السودان، والنظر إليه بعين الشفقة، بل لأن ما جرى في السودان قد يجري في مكان آخر

لم يختل المنطق في معالجة الأزمة عبر الإخلال في تحديد من هو الوسيط ومن هو الطرف المتورط فيها. تجاوز الأمر ليدخل في مضمون الوساطة نفسها. فخلال المحادثات التي جرت في واشنطن، قبيل أيام، كانت مسألة الفاشر ومعالجتها أمراً غير قابل للنقاش؛ ليس من الأطراف المتورطة، بل من أحد الوسطاء كما كشفت تقارير صحفية. ومن الغرابة أن يكون هناك وسيط بين طرفين، وبالتزامن مع جلسات التفاوض، طائراته الحاملة للعتاد العسكري تنطلق لدعم أحد الطرفين الذين يتوسط بينهما.

مخرجات الاختزال

إن غياب تفسير جاد وحقيقي لما يجري في السودان، وتبني السرديات المختزلة، هو ما يدفع لخلق هذا الواقع الشائه. ولعل أبرز مظاهر هذا الواقع الشائك هي الشخصيات الغربية التي تتولى ملف السودان. في الولايات المتحدة، خلال فترة جو بايدن، أوكل الملف لتوماس برييلو الذي قضى فترته يتجول بين البلدان دون أن يزور السودان إلا مع قرب انتهاء فترته. لم تكن لتوم سيرة سياسية تؤهله لتولي ملف بهذا الخطورة. وعندما جاءت إدارة ترمب، تم تكليف مستشار ترامب للشؤون الشرق أوسطية، مسعد بولس، بهذا الملف. لم يكن لبولس أي خلفية سياسية تذكر، وحتى سيرته كرجل أعمال تنحصر في مشاريع لا يمكن أن تخلق له هالة صانع الصفقات. وعلى الرغم من أوصاف الملياردير التي تطلق عليه يمنة ويسرة؛ فبولس مدير تنفيذي لشركة بالكاد حققت أرباحاً سنوية قدرها ست وستون ألف دولار. وربما لو عقدت جلسة استماع لبولس في مجلس الشيوخ، لما قدم أداء أفضل من مرشح ترامب لسفارة الولايات المتحدة في سنغافورة، إن لم يكن أسوأ. مع ذلك، تولي الولايات المتحدة ملفاً بهكذا أهمية لشخصية مؤهلها الأبرز للوجود في هذا المنصب هو مساندة ترامب في الظفر بأصوات المسلمين والعرب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2024.

ستالنقراد وجيشنا الأحمر

كان البعض يشبه الفاشر بستالنقراد، لأنها تكسرت أمامها مئات الهجمات لقوات الدعم السريع، وظناً أن التمويل الخارجي سيتوقف. ربما الفرق كان في الأمل؛ فستالنقراد كانت تعلم أن الجيش الأحمر آت، لكن مدن السودان المحاصرة وعلى رأسها الفاشر وكادقلي والدلنج وبارا، والتي تستهدف من قبل قوات الدعم السريع، لم تكن تعتقد أن جيشها الأحمر، البشرية جمعاء، القريب والبعيد، قد ركنوا للتسطيح وتبسيط القضايا.

في هذا العالم غير المبالي، لا ينبغي على دول الجوار والشعوب المجاورة أن يكونوا نسخاً من العالم الغربي الذي يستسهل القضايا ومن ثم يستسهل الحلول. ينبغي أن يبذل الناس جهدهم لفهم أبعاد الموضوع، ليس لأن من واجبهم التعاطف مع السودان والنظر إليه بعين الشفقة، بل لأن ما جرى في السودان قد يجري في مكان آخر. إن كان الغرب يقدم نظرة مختزلة للأمور لعدم ارتباطه ولا تأثره بما يجري؛ فما عذرنا نحن أن نتبنى ذات الاختزال؟