الاثنين 23 يونيو 2025
دخلت الحرب في السودان عامها الثالث، مخلفة وراءها آثار كارثية على السودان والسودانيين. خلفت الحرب أكبر أزمة نزوح في العالم، حسب الأمم المتحدة؛ حيث أجبرت أكثر من 12 مليون شخص على النزوح، وضاقت أرض البلاد بحوالي 4 مليون منهم اضطروا إلى اللجوء.
رغم عدم وجود إحصائيات متكاملة عن عدد الذين قضوا نحبهم في الحرب؛ إلا أن كلية لندن للصحة والطب الاستوائي كشفت عن مقتل ما يزيد عن 60 ألف مواطن بولاية الخرطوم في الفترة بين أبريل/ نيسان 2023 ويونيو/ حزيران 2024. وبحسب الدراسة التي نشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي؛ فإن أكثر من 26 ألفاً من حالات الوفاة كانت نتاج العنف المرتبط بالحرب، وترجح الدراسة أن حوالي 90٪ من حالات الوفاة بولاية الخرطوم لم يتم الإبلاغ عنها؛ مما ينبئ بأن أعداد الضحايا أكبر من ذلك بكثير.
إلى جانب الخسائر في الأرواح؛ تلقى السودان ضربات موجعة في بناه التحتية واقتصاده الذي لم يكن على أفضل حال قبيل اندلاع الحرب. فقد أعلن وزير الصحة الاتحادي، هيثم محمد إبراهيم، أن قوات الدعم السريع قامت بنهب وتدمير 250 مستشفى، وهو يعادل ثلث المستشفيات بكل البلاد. وقال هيثم في المؤتمر الصحفي، الذي عقد أواخر العام الماضي، أن خسائر القطاع الصحي تعادل 11 مليار دولار أمريكي. تكبدت مختلف القطاعات الإنتاجية ضربات موجعة. فقد صرح رئيس اتحاد الغرف الصناعية، معاوية البرير، أن خسائر القطاع الصناعي والزراعية حوالي 80 مليار دولار أمريكي. وقد قدر وزير التعليم العالي، محمد حسن دهب، عدد منشآت التعليم العالي التي تم تدميرها بالكامل داخل ولاية الخرطوم وحدها 115 مؤسسة.
ورغم أن قوات الدعم السريع تحصد نصيب الأسد من التسبب في هذا الدمار؛ إلا أن بعض الأطراف تعمل على تحويل الإدانة. في المقابل تشهد القوى السياسية المؤيدة للدولة ومؤسساتها ضعفا بائناً.
منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان عام 2023، وسؤال الطلقة الأولى يلقي بظلاله على المشهد. رغم أهمية السؤال؛ فقد حاولت عدد من القوى السياسية، من بينها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، أن تتخذ منه ذريعة لتبرئة الدعم السريع من تورطه في دماء السودانيين محاولة تلميع صورته. قالت قوى الحرية والتغيير في بياناتها أن النظام البائد ممثلاً في حزب المؤتمر الوطني هو من أشعل الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بهدف قطع الطريق أمام الانتقال الديمقراطي.
أعلن وزير الصحة الاتحادي، هيثم محمد إبراهيم، أن قوات الدعم السريع قامت بنهب وتدمير مئتين وخمسين مستشفى، وهو يعادل ثلث المستشفيات بكل البلاد
تشاء الصدفة، أو ربما غير الصدفة، أن تكون السردية التي تتبناها قوات الدعم السريع متطابقة مع رواية المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير. تمسك الطرفان، عبر قياداتهما، أن عناصر يتبعون للنظام البائد من خلال وجودهم داخل الجيش؛ قاموا بإشعال الحرب باستهداف قوات الدعم السريع بمنطقة سوبا جنوبي العاصمة الخرطوم. هذه الرصاصة، بشكل أو بآخر، قادت لكل هذا الدمار الذي ما كان للدعم السريع أن يرتكبه لو أن فلول النظام البائد لم يشعلوا هذه الحرب كما يحاول البعض حصر الخراب في هذه الطلقة.
يشغل النقاش حول سؤال من أطلق الرصاصة الأولى في 15أبريل/ نيسان 2023، عمداً أو بمحض الصدفة، عن مسألة أكثر أهمية: ماذا كان يجري قبل تلك الرصاصة التي قامت بتحريض القوات المسلحة والدعم السريع على بعضهم البعض؟
قبيل هذه الرصاصة، في 12 من أبريل/ نيسان 2023، قامت قوات الدعم السريع بالتحرك نحو مدينة مروي شمالي البلاد دون تنسيق أو توجيه من القوات المسلحة؛ وهو ما يعتبر ضمنياً تمرداً على الأوامر. خرج الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد نبيل عبد الله، ليدق ناقوس الخطر في 13 من أبريل/ نيسان 2023 من تحشيد وانفتاح لقوات الدعم السريع، وتحركها بالبلاد دون موافقة قيادة القوات المسلحة أو تنسيق معها.
لم تستجب قوات الدعم السريع لدعوات الانسحاب من مروي، معتبرة أن انتشارها أمر طبيعي، قبل أن تتحول رواية الدعم السريع ومؤيديه، بعد اندلاع الحرب، إلى أن الدعم السريع تحرك خشية من تهديد مصري متمثل في القوات الجوية المصرية الموجودة بمطار مروي؛ رغم أن التدريبات العسكرية المشتركة بقاعدة مروي الجوية لم تكن أمراً جديداً.
هذا التوتر نتج عن خلاف عميق حول العملية السياسية بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وخاصة ملف الإصلاح الأمني والعسكري، وبالتحديد دمج قوات الدعم السريع بالقوات المسلحة السودانية. لم تخلص ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، في الفترة بين 26-29 مارس/آذار 2023، إلى نتائج خاصة بعد أن رفضت القوات المسلحة توصيات الورشة، فحسب مصادر لم تتضمن مواقيت واضحة لدمج القوات المسلحة في مدة أقصاها ثلاثة أعوام، وضرورة وقف التجنيد بالدعم السريع فوراً.
كان القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قد أشار في كلمة ألقاها في فبراير/شباط 2023 أن قبولهم بالاتفاق الإطاري، وما نتج عنه من عملية سياسية، لأنه يشمل دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وأن هذا البند هو الفيصل بينهم وبين العملية السياسية. وقطع البرهان بعدم قبول الجيش السوداني بأي حل لا يمضي في هذه البنود. وقد كان خالد عمر يوسف، الناطق باسم العملية السياسية آنذاك، ذكر أن قوات الدعم السريع والقوى المدنية المشاركة في التفاهمات التي أجريت حول أسس ومبادئ الإصلاح الأمني والعسكري، في 15 من مارس/ آذار 2023، ترى أن الإشارة لفترة عشرة أعوام كحد أقصى لدمج الدعم السريع بالجيش تعني أن هذه العملية ستستغرق عشرة أعوام، تزيد أو تنقص قليلاً حسب كلام خالد. في المقابل، كانت القوات المسلحة السودانية ترى أن الحد الأقصى لا يعني بالضرورة الانتظار كل هذه المدة وأن عملية الدمج يمكن أن تتم في عامين أو ثلاثة.
كان فولكر بيرتس، الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان، قد أشار في حوار صحفي، أجرته معه دير شبيغل الألمانية في أغسطس/ آب 2023، أن مسألة دمج قوات الدعم السريع بالقوات المسلحة هي ما أوصلت الخلاف إلى مرحلة الصراع، مبيناً أن الدعم السريع كان أكثر استعداداً لهذه الحرب، مستشهداً بسيطرته السريعة على عدد من المواقع بالعاصمة والهجوم المباغت على منزل القائد العام للقوات المسلحة.
رغم الحالة الدعائية التي أغرقت المشهد السياسي حول رغبة الدعم السريع في دمج قواته بالقوات المسلحة، التي لم توقفها سوى الرصاصة التي أطلقت في جنوب الخرطوم يوم اندلاع الحرب؛ تسقط هذه الدعاية تهديدات قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، في بدايات يونيو/ حزيران 2021، بأن أي حديث حول دمج الدعم السريع سيقود لتفكيك البلاد.
كان فولكر بيرتس، الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان، قد أشار أن مسألة دمج قوات الدعم السريع بالقوات المسلحة هي ما أوصلت الخلاف إلى مرحلة الصراع، مبيناً أن الدعم السريع كان أكثر استعداداً لهذه الحرب
قد قال دقلو أن الدعم السريع ليس سرية أو كتيبة حتى يتم دمجها في الجيش. كان هذا الموقف ثابتاً لمحمد حمدان دقلو منذ أن تمت إجازة قانون قوات الدعم السريع في مطلع عام 2017، بالمجلس الوطني الذي كان يسيطر عليه حزب المؤتمر الوطني. قال دقلو، في لقاء تلفزيوني عقب إجازة القانون، أن الدعم السريع سيظل قوة قائمة بذاتها تساند الجيش حتى بعد انتهاء مهمته الموكلة إليه، ولا يمكن دمجه بالجيش لأنه ليس قوة صغيرة. وقد شبه قواته بالحرس الجمهوري الذي يأتمر بأمر رئيس الجمهورية فقط. وقدم إجابة مبهمة حول مسألة دمج الدعم السريع في الجيش في لقاء تلفزيوني أجري بعد اتفاق البرهان- حمدوك في نوفمبر/تشرين الأول 2021، مشيراً إلى أن رئيس الوزراء - وقتها- عبدالله حمدوك ليس معنياً بمسألة الدمج، وأنه لا يتلقى تعليمات من حمدوك بهذا الخصوص.
رافق هذه الدعاية الضخمة لتبيض صورة الدعم السريع تارة، وإلقاء اللوم على النظام المخلوع تارة أخرى، والإثنين معاً في معظم الأحيان انكماشاً في دور القوى السياسية المناوئة لهذا الطرح. تعاني الدولة السودانية، ومن خلفها القوات المسلحة السودانية، من ضعف وتواضع القوى السياسية المساندة لها. ولأن العمل العسكري لا يجري بمعزل عن مكتسبات السياسية؛ فإن ما تحصده القوات المسلحة من انتصارات، يظل منقوصاً من الجانب السياسي.
تفتقد القوى السياسية المساندة للدولة ومؤسساتها لأي بوصلة تحكم تصرفاتها، حيث وقعت عدد من القوى السياسية والمجتمعية في القاهرة، في مايو/ أيار 2024، ما عرف بميثاق السودان. نص هذا الميثاق على أن القوات المسلحة السودانية هي المؤسسة الشرعية الوحيدة المسؤولة عن حفظ الأمن والدفاع عن وحدة البلاد، والمسؤولة عن الاحتكار الشرعي للعنف.
بعد ذلك الميثاق بستة أشهر، قامت عدد من القوى والشخصيات السياسية الموقعة عليه بالمشاركة في مباحثات نظمتها وزارة الخارجية السويسرية و منظمة برو مدييشن الفرنسية، والتي أنتجت ما عرف بوثيقة جنيف. تنازلت الأطراف الموقعة عن قناعتها بأن القوات المسلحة هي المؤسسة الشرعية الوحيدة، ووقعت على نص لا يشير إلى القوات المسلحة كقوة محتكرة للعنف، واستعاضت عنها بعبارة "جيش واحد موحد ومهني". كان من بين المشاركين في وثيقة جنيف كل من جعفر الميرغني، ومبارك الفاضل ومبارك أردول، وسالي زكي الذين كانوا أطرافاً رئيسية في ميثاق السودان الموقع بالقاهرة.
لقد ظلت يد السودان مغلولة إقليمياً بسبب تجميد عضويته بالاتحاد الأفريقي، فقد طرحت وزارة الخارجية السودانية خارطة للطريق قبل شهرين، تشمل تشكيل حكومة واضعة نصب عينيها دعم الاتحاد الأفريقي لهذه الخارطة، وبالتالي رفع تجميد عضوية السودان.
بينما يعجم السودانيون كنانتهم ليصوبوا أسهم الانتقاد على القوى السياسية التي اختارت صف الدعم السريع، أو ادعت ممارسة حياد زائف؛ تغيب القوى السياسية المساندة للدولة ومؤسساتها عن مستوى الأنظار وتتقزم أمام أسهم الانتقاد
رفض حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، تشكيل حكومة في هذه المرحلة معتبراً أن الأولوية يجب أن تنصب على العمليات العسكرية، وأن أي حكومة ستشكل ستكون فاقدة لصلاحية إدارة أزمة البلاد.
يعلل البعض أن حركات المسلحة تقاوم تشكيل حكومة خشية تراجع نفوذها لصالح أطراف أخرى. في الجانب الآخر تخوض حركة العدل والمساواة، التابعة لوزير المالية جبريل إبراهيم، حرباً كلامية مع قائد قوات درع السودان، أبو عاقلة كيكل، الذي انشق من قوات الدعم السريع، وانضم لصفوف القوات المسلحة أواخر العام الماضي. وقد قامت الحركة بنشر مقال مسيء لكيكل، شمل ألفاظاً خادشة، قبل أن تقوم بحذفه. وقد تداولت الوسائط بياناً يحمل اعتذاراً لكيكل موقع من رئيس الحركة جبريل إبراهيم؛ إلا أن الحركة نفت صحة البيان، وأعلنت أن المقال المنشور يعبر عن كاتبه دون أي إشارة لتوجيه إجراءات بحقه، وقد كانت الحركة قد نشرت عبر صفحاتها الرسمية مقالاً آخر حوى عبارة " أن الحركة لا تعتذر عن حق"، دون أن توضح هذه المرة هل يعبر عن رأي الحركة أم كاتبه.
بدأت الخلافات بين الطرفين بعد تحرير ولاية الجزيرة مطلع العام الحالي، واللغط الذي أحدثه تعيين قادة من حركة العدل والمساواة في لجنة إعادة إعمار مشروع الجزيرة. وقد هاجم كيكل وزارة المالية، التي يقودها جبريل إبراهيم منذ أربعة أعوام، بسبب إهمالها لمشروع الجزيرة، متوعداً بأنه سيأخذ حق الجزيرة، وألمح إلى أن البعض يبتزون الحكومة بأخذ الأموال بحجة الحرب، في إشارة للحركات المسلحة، دون أن يساهموا في المجهود الحربي.
بينما يعجم السودانيون كنانتهم ليصوبوا أسهم الانتقاد إلى القوى السياسية التي اختارت صف الدعم السريع، أو ادعت ممارسة حياد زائف؛ تغيب القوى السياسية المساندة للدولة ومؤسساتها عن مستوى الأنظار، وتتقزم أمام أسهم الانتقاد. يصمت الساسة دهراً، ثم يظهرون في زي القوات المسلحة عند تحرير أرض ما، ثم يخوضون في ثبات عميق، لا يوقظهم منه إلا انتصار ميداني جديد، يدفعهم لارتداء الزي العسكري والتقاط الصور به، ويتكرر المشهد. تتحين القوى العسكرية المساندة للجيش المنابر السياسية والمناسبات الاجتماعية لا للتعبير عن دعمها السياسي للقوات المسلحة؛ بل لتقديم هدايا لصالح الدعم السريع مفادها أننا لسنا متفقين.
وإلى أن ينصلح الحال، تدخل مأساة السودان والسودانيين عامها الثالث، والبلد وأهلها بين مطرقة الدعم السريع وسندان عدم مسؤولية الأطراف المساندة للقوات المسلحة.