تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 9 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة
العنوان

الذهب غير المشروع وتأجيج الصراعات داخل القرن الأفريقي

7 مارس, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

تشهد أفريقيا تصاعدًا متزايدًا في حالات التنافس الدولي والاقتتال الداخلي على الموارد الثمينة، وعلى رأسها الذهب، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستويات الصراع المتنامية في المنطقة. لقد أصبح الذهب متشابك بشكل كبير مع العنف المستمر وعدم الاستقرار السياسي، واندلاع الحروب الأهلية في منطقة القرن الأفريقي، والتي تغذيها أطراف دولية، راغبة في الاستيلاء على المعدن الأصفر الذي يمثل ملاذا آمنًا وسط الاختلالات الاقتصادية التي يشهدها العالم.
تعددت النماذج في القرن الأفريقي حول دور الذهب في تنامي الصراعات الداخلية، والتكالب الدولي لاقتناء هذا المعدن، في مقدماتها الحرب في السودان، وما حدث في إقليم تيجراي، وأيضًا الصراعات الممتدة في الكونغو. وعملت أطراف دولية، نظرًا لأهمية هذا المعدن، على دعم عدم الاستقرار في تلك المناطق، ودفعت الأطراف المتصارعة إلى التعاون مع شركات التنقيب الكبرى بشكل غير قانوني، مقابل نظير مادي وتقديم الأسلحة والإمدادات اللازمة في الحرب؛ مما ساهم في تحوٌّل تلك المنطقة إلى ساحة للصراعات الداخلية، ووجهة للتنافس الاقتصادي الخالص بين الدول على حساب دماء الشعوب.

لعنة الذهب في حرب السودان

يعوم السودان البلد الواقع في القرن الأفريقي، على كميات كبيرة من الذهب، قادرة على تحويل السودان إلى بلد غني بإمكانياته الهائلة، حيث يصنف كثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، بعد غانا وجنوب أفريقيا. ويحتل كذلك المرتبة الثالثة عشر عالميًا، باحتياطات تُقدر بـ 1550 طنًا. اتجهت السودان إلى الاعتماد على المعدن الأصفر مصدرا رئيسيا لدخل في البلاد بدلًا عن النفط، عقب انفصال جنوب السودان عنها في 2011. لا يقتصر الذهب على هذا الدور فقط ، بل أصبح أيضًا محركًا أساسيًا في استمرار الحرب الدائرة، التي نشبت نيرانها في أبريل/ نيسان 2023، بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. 
ينتج السودان أكثر من 100 طن سنويًا من الذهب، يعود منه فقط 30 طنًا إلى خزينة الدولة، فيما يتم تقاسم الباقي بين طرفي الصراع في السودان، حيث يلعب الذهب دورًا هامًا في تمويل الحرب. ولأن الذهب قابل للنقل، ولا يتطلب استخراجه سوى استثمارات قليلة نسبيًا، فإن هذه السلعة تشكل موردًا رئيسيًا لكلا الجانبين، في توفير الموارد والاتصالات العابرة للحدود الوطنية التي تسمح لهما بشراء الأسلحة وغيرها من الإمدادات لاستمرار القتال. 


تستخدم كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع مبيعات الذهب لتمويل جهودهما الحربية، مما يخلق مجالًا خصبًا لتدخل الدول الأجنبية في السودان، ودعمها لاستمرار الحرب


يعد قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، تاجر الإبل الذي تحول إلى أمير حرب، بفضل استيلائه على أحد أكثر مناجم الذهب ربحية، منجم جبل عامر بشمال دارفور في عام 2017. المنجم الذي أضحى حجر الزاوية لإمبراطورية بمليارات الدولارات، والتي حولت مجموعته المسلحة، قوات الدعم السريع، إلى قوة هائلة. في وقت لاحق، باع حميدتي المنجم للحكومة مقابل 200 مليون دولار، وقام بتوجيه الأرباح إلى شبكة تضم ما يصل إلى 50 شركة دفعت ثمن الأسلحة والنفوذ والمقاتلين، حسب الأمم المتحدة.
اشتدت حدة الصراع على الذهب مع اندلاع الحرب. ففي إحدى هجماته الأولى، استولى الجنرال حميدتي على المنجم الذي باعه للحكومة. وبعد أسابيع، هاجم مقاتلوه مصفاة الذهب الوطنية في العاصمة أيضًا، ونهبوا سبائك ذهب بقيمة 150 مليون دولار، حسبما تقول الحكومة، وتهدف معظم العمليات الهجومية التي تشنها قوات الدعم السريع للاستيلاء على مناطق التعدين في البلاد.
اعتمدت قوات الجيش، هي الأخرى على مناجم الذهب في مقاومتها لقوات الدعم السريع، فعلى بعد مئات الأميال من مناجم الذهب المربحة التي تملكها قوات الدعم السريع في دارفور، يوجد منجم ذهب صناعي حديث يساعد الجيش على مواصلة القتال أيضًا. يُطلق عليه اسم منجم كوش، يحتوي على حفارات عملاقة وآلات باهظة الثمن تستخرج الذهب، وتولد دخلاً ثمينًا لحكومة السودان في زمن الحرب. 
تستخدم كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع مبيعات الذهب لتمويل جهودهما الحربية، مما يخلق مجالًا خصبًا لتدخل الدول الأجنبية في السودان، بل ودعمها  لاستمرار الحرب نظرًا للأرباح التي تجنيها من خلال عمليات التسليح والمساعدات للفصائل القتالية في مقابل الحصول على الذهب.


يرتبط اسم روسيا كثيرًا بمجريات الحرب في السودان، فمنذ وصول قوات فاجنر الروسية إلى السودان في 2017، تركزت أعمال القوات الخاصة بفاجنر للسيطرة على مناجم الذهب، وتنتشر شركات التعدين الروسية بشكل كبير داخل السودان


اتجه حميدتي إلى دولة الإمارات، للحصول على المساعدات سواء بتقديم الأسلحة أو الإمدادات، وذلك في مقابل تهريب الذهب إليها، وأصبحت الإمارات، بحسب الأمم المتحدة، بمثابة خط أنابيب للأسلحة وغيرها من الإمدادات، تحت غطاء شحنات المساعدات الإنسانية. تمتلك قوات الدعم السريع سوقًا جاهزة لذهبها في الإمارات، ووفقًا لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية، تم تهريب 2500 طن من الذهب غير المصرح به من أفريقيا إلى الإمارات، بقيمة تصل إلى 115 مليار دولار، بين عامي 2012 و2022 .
على جانب آخر، ترتبط الإمارات بعلاقات جيدة مع الحكومة السودانية، إذ تمتلك شركة إماراتية، يربطها مسؤولون بالعائلة المالكة، أكبر منجم صناعي في السودان. ويقع المنجم في منطقة تسيطر عليها الحكومة، ويسلم جزءًا كبيرًا من المال لآلة الحرب التي تعاني من نقص السيولة النقدية في الجيش، وهو مثال آخر على التحالفات والتحالفات المضادة التي تغذي الحرب. ورغم كل الأدلة التي تدين دولة الإمارات إلا أنها ترفض وبشدة، مرارًا وتكرارًا، كل تلك الاتهامات الموجهة إليها.
يرتبط اسم روسيا كثيرًا بمجريات الحرب في السودان، فمنذ وصول قوات فاجنر الروسية إلى السودان في 2017، تركزت أعمال القوات الخاصة بفاجنر للسيطرة على مناجم الذهب. تنتشر شركات التعدين الروسية بشكل كبير داخل السودان، وتتعدد أهداف موسكو في دعمها قوات الدعم السريع، حيث نجد في مقدماتها الحصول على الذهب الذي يمثل ملاذا آمنًا في التعاملات الاقتصادية للتحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ 2014، ولتمويل غزوها لأوكرانيا منذ 2022. 
تدعم موسكو قوات الدعم السريع بالأسلحة والإمدادات لاستمرار الحرب ضد قوات الجيش السوداني، فبعد فترة وجيزة من نشوب الحرب، بدأ الدعم السريع في تلقي شحنات من الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك صواريخ أرض-جو عبر ليبيا بفضل مجموعة فاجنر الروسية. وكشف تحقيق لقناة سي إن إن الأمريكية في يوليو/تموز 2022 عن نهب موسكو لكميات هائلة من الذهب، تجاوزت قيمتها مليارات الدولارات ساعدتها في تضخيم احتياطاتها من المعدن الأصفر. وكشفت تقارير أممية أيضًا عن فقد السودان أكثر من 206 أطنان من الذهب خلال الفترة من 2013 – 2018م؛ بسبب عمليات التنقيب غير القانوني والتهريب بواسطة شركة فاجنر الروسية التي تفرض سيطرتها على أكثر من 80٪ من المناجم السودانية.

الصراعات في شرق الكونغو

لا يختلف الوضع في الكونغو الديمقراطية كثيرًا، حيث لعب الذهب غير المشروع دورا كبيرًا في تحريك بواعث الصراعات داخل البلد، وعمل على إطالة أمد الصراعات التي أودت بحياة الآلاف من المواطنين، وكانت سبب في دخول المنطقة الإقليمية حالة من النزاعات المتشابكة والممتدة. 
تمثل الزاوية الشمالية الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية موطنا لأحد أغنى حقول الذهب في أفريقيا. وقد أدت المنافسة على السيطرة على مناجم الذهب إلى إشعال  الصراع الدموي الذي اجتاح هذه المنطقة، منذ بداية الحرب الكونغولية في عام 1998، وما زال مستمرًا حتى يومنا هذا. فقد خاض الجنود وزعماء الجماعات المسلحة، الذين رأوا في السيطرة على مناجم الذهب وسيلة للحصول على المال والسلاح والسلطة.
وفقًا لتقارير خدمة معلومات السلام الدولي (IPIS) لعام 2016، فإنّ حوالي 21٪ من المناجم في شرق الكونغو كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة في ذلك الوقت. وتُشير دراسات أحدث إلى أنّ الوضع قد تغير بمرور الوقت؛ حيث أظهرت بيانات عام 2022 أنّ 27٪ من عمال المناجم يعملون في مواقع تخضع لسيطرة غير قانونية من قبل الجيش الكونغولي، أو جهات أخرى.


شهدت إثيوبيا كغيرها من دول القرن الأفريقي صراعات داخلية وإقليمية على مدار سنوات عديدة، ومثلّ الذهب غير المشروع محرك أساسي في تأجيج تلك الصراعات


يعد من أبرز الجماعات المسلحة التي تستفيد من تجارة الذهب غير المشروع في شرق الكونغو، القوات الديمقراطية المتحالفة، وهي جماعة متمردة تأسست في أوغندا خلال أوائل التسعينيات بهدف الإطاحة بالحكومة الأوغندية. ومع تصاعد الضغوط العسكرية عليها، نقلت الجماعة عملياتها إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، فانخرطت في أنشطة مسلحة واسعة النطاق. تُتَّهَم أيضا بتنفيذ هجمات إرهابية، والتورط في عمليات التهريب، بما في ذلك تجارة الذهب، لتمويل أنشطتها. تمثل هذه الجماعة خطورة على الأمن الإقليمي لإعلان ولائها لتنظيم الدولة منذ 2019. كما تُتهم جماعة "إم 23" هي الأخرى بالسيطرة على طرق تهريب المعادن بين الكونغو ورواندا، ويُشتبه في تلقيها دعمًا عسكريًّا من رواندا، وهو ما تنفيه كيغالي. ناهيك عن استفادة الجماعة من نهب الذهب في المنطقة؛ لتمويل عملياتها العسكرية.
يتضح أنّ الجماعات المسلحة ليست الوحيدة المستفيدة من تجارة المعادن، حيث تلعب أطراف دولية وإقليمية دورًا هامًا في استدامة هذه الأزمة، فقد أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للأمم المتحدة تقريرًا يُشير إلى تورط شركات في دول مجاورة للكونغو في تهريب المعادن الثمينة، بما فيها الذهب، مع احتمال تورط شركات غربية في سلاسل التوريد. 
كشف التقرير أنّ تهريب الذهب يُستخدم لتمويل الجماعات المسلحة في شرق الكونغو، مما يؤدي إلى استمرار العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. كما يعزز التقرير المزاعم حول الدور الغربي في تأجيج النزاعات من خلال غض الطرف عن تدفقات المعادن غير المشروعة إلى الأسواق الأوروبية والأميركية.

إثيوبيا وعمليات التعدين غير المشروعة

تمتلك إثيوبيا احتياطيات كبيرة من الذهب، وخاصة في المناطق المتاخمة للسودان. وقد شكلت هذه الاحتياطيات أكثر من 95٪ من صادرات البلاد المعدنية البالغة 428 مليون دولار بين عامي 2023 و2024. وقد صدرت إثيوبيا رسميًا ما يصل إلى 12 طنًا من الذهب بين عامي 2011 و2012.
شهدت إثيوبيا كغيرها من دول القرن الأفريقي صراعات داخلية وإقليمية على مدار سنوات عديدة، ومثلّ الذهب غير المشروع محركا أساسيا في تأجيج تلك الصراعات. وكان الصراع في إقليم تيجراي والحرب الأهلية التي بدأت في 2020، واستمرت لعامين متتاليين مثالا جللا على ذلك، حيث ساعد وجود الذهب في إقليم تيجراي قوات الدفاع على المقاومة ضد جيش أبي أحمد على مدار الحرب، وذلك من خلال تهريب الذهب إلى بورتسودان في السودان، ومن ثم نقله إلى أماكن البيع العالمية، حال روسيا، وبالتالي توفير سيولة لشراء الأسلحة والإمدادات. 
لم يقتصر الذهب على تأجيج وإطالة أمد الحرب في تيجراي فقط، بل امتدت آفاقه حتى بعد الانتهاء من الصراع النشط، فبالرغم من توقف القتال، لا تزال الأزمة الأمنية والسياسية تتعمق بفعل الصراعات على عمليات تعدين الذهب، حيث ينمو قطاع الذهب غير المشروع بشكل ملحوظ، وتزداد عمليات التهريب خارج سيطرة الحكومة الإثيوبية، مما يؤدي إلى مزيد من النزاعات على الأراضي، تودي بحياة الكثيرين نتيجة لعمليات العنف والجرائم المميتة الناتجة عن تلك العمليات المربحة. ومنذ حرب تيجراي، تم تهريب الكثير من ذهب المنطقة، يصل إلى 6 أطنان من الذهب سنويًا، وتتصاعد مشاركة الجماعات المسلحة والأجانب في تجارة الذهب المحظور في منطقة تيجراي.
نتج عن عمليات التعدين غير القانونية عن مقتل عشرات الأفراد في منجم راوا، الواقع في شمال غرب تيجراي، في أبريل/ نيسان الماضي، وقد شهدت مواقع أخرى مثل: منجم هينتسات وبني شنجول وأوروميا، أعمال عنف مميتة، بسبب المشاحنات التي تنطوي على هذه التجارة المربحة.
إجمالاً؛ تبرز الأبعاد المأساوية لتجارة الذهب غير المشروع في القرن الأفريقي بوضوح كيف يمكن لموارد طبيعية ثمينة أن تتحول إلى مصدر للصراع والمعاناة بدلاً من أن تكون دافعًا للتنمية والازدهار. إن تداخل المصالح الدولية مع الصراعات المحلية يجعل من الذهب حلقة وصل معقدة بين الأطراف المتنازعة، حيث تُستغل ثروات الشعوب في تمويل الحروب، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية وتدهور الأوضاع الأمنية.