تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 12 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
كتب

الذاكرة الحضرية والتاريخ المصوَّر: قراءة في كتاب "تاريخ وصور موقع ويندهوك القديم"

28 أكتوبر, 2025
الصورة
الذاكرة الحضرية والتاريخ المصوَّر: قراءة في كتاب "تاريخ وصور موقع ويندهوك القديم"
Share

تُعدّ العلاقة بين الصورة والتاريخ إحدى الإشكاليات الأساسيّة في دراسات الذاكرة الحديثة؛ إذ لم تعد الصورة مجرّد تمثيل للماضي، بل أصبحت وسيلة لإنتاج المعرفة التاريخية وإعادة تشكيلها. وقد ساهمت التحوّلات النظرية في مجالات التاريخ الشفوي ودراسات ما بعد الاستعمار في إعادة الاعتبار لما يُسمّى بالأرشيف الهامشي (Peripheral Archive)؛ أي الأرشيف الذي يتكوّن من الشهادات الفردية والصور الفوتوغرافية والمواد البصرية التي سجّلتها الذاكرة اليومية، لا المؤسّسات الرسمية. من هذا المنظور، يمكن القول إنّ قراءة المدن الأفريقية من خلال الصورة تمثّل اليوم مسارا تأمّليا لفهم التكوين الرمزي للمكان وتاريخ مقاومته للاستعمار.

في هذا الإطار، يشكّل كتاب "The Windhoek Old Location: History and Photographs" (تاريخ وصور موقع ويندهوك القديم) للباحث هينينغ ميلبر والمصوّر ديتر هينريكس أحد أهم الإصدارات الحديثة التي تجمع بين التوثيق البصري والتحليل التاريخي لتجربة الاستعمار والفصل العنصري في ناميبيا. صدر الكتاب عن مطبوعات بازلر أفريكا ببليوغرافين عام 2025، في صيغة مزدوجة: بحث تأريخي وبصري مصوَّر، يقدّم تاريخا للمكان من خلال الأرشيف والصورة معا، في محاولة لتثبيت الذاكرة الجمعية لحيّ الموقع القديم في ويندهوك قبل تهجير سكانه القسري عام 1959.

تتمثّل القيمة الأولى للكتاب في أنّه لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يشتغل على إعادة بناء سردية المكان

ولا يقتصر اهتمام هذا العمل على إعادة سرد حدث تاريخي محدّد، بل يسعى إلى مساءلة الكيفية التي يُبنى بها الوعي الجمعي في فضاءات التهميش. المكان هنا ليس خلفيّة جغرافيّة للأحداث، بل كيانا لذاكرة حيّة، تتقاطع فيه السياسة بالوجدان، والتاريخ بالهوية. إنّ إعادة استحضار الحي من خلال الصورة والنص تضع القارئ أمام تجربة مزدوجة: مواجهة الماضي الاستعماري من جهة، وفهم دور الذاكرة البصرية في بناء الحاضر من جهة أخرى. ومن ثمّ يمكن النظر إلى الكتاب بوصفه محاولة لإعادة تأسيس الذاكرة كمجال للمقاومة الثقافية، لا كمجرّد سجلّ للتاريخ.

الكتاب بوصفه شهادة ذاكرة استعمارية

تتمثّل القيمة الأولى للكتاب في أنّه لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يشتغل على إعادة بناء سردية المكان من خلال الصورة كوثيقة حيّة. ميلبر الذي يُعدّ من أبرز الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار في جنوب القارة الأفريقية، ينطلق من قناعة بأنّ التاريخ الرسمي الذي كتبته سلطات الاستعمار الجنوب أفريقية، تجاهل كليّا التجارب اليومية للسكان الأفارقة الذين عاشوا داخل الحيّ. ومن هنا تأتي أهميّة الصور التي التقطها هينريكس، إذ تتيح إعادة تأمّل الماضي من زاوية معكوسة: زاوية الحياة اليوميّة والوجوه والاحتفالات والأسواق ومباريات كرة القدم، أي ما يُشكّل النسيج الحيّ لما يمكن تسميته بـ"ذاكرة الشارع".

الصور التي التقطها هينريكس خلال تلك الفترة لا تُظهر فقط العنف، بل تسجّل أيضًا تفاصيل الصمود والروابط الاجتماعية التي بقيت قائمة رغم الخراب

الصورة هنا ليست مجرّد توثيق بصري بل أداة مقاومة. فهي تُظهر ما كان الاستعمار يسعى إلى إخفائه: إنسانيّة السكّان. هذا ما يجعل الكتاب يندرج ضمن ما يسمّيه الباحث الهندي أشيش ناندي بـاستعادة الذاكرة المقموعَة (Reclaiming the Suppressed Memory)؛ أي إعادة صوت المقهورين داخل فضاء التمثيل التاريخي.

الموقع القديم كفضاء حضري للمقاومة

يُقدّم الكتاب خلفيّة دقيقة عن نشأة الموقع القديم، وهي منطقة أنشأها الألمان عام 1903 كمستوطنة للسكان الأفارقة في مدينة ويندهوك. بعد الحرب العالميّة الأولى، خضعت ناميبيا لإدارة جنوب أفريقيا التي فرضت نظام الفصل العنصري؛ فتمّ تقسيم المدينة وفق خطوط عرقيّة صارمة، وكان على سكان الموقع القديم أن يعيشوا في ظروف قاسية تفتقر إلى الخدمات الأساسيّة. غير أنّ هذا الحيّ تحوّل تدريجيّا إلى فضاء للمقاومة الثقافية والسياسية، حيث نظّم السكان مهرجاناتهم واحتفالاتهم ونقاشاتهم العامّة، التي صارت بؤرا لتشكّل الوعي الجمعي.

من أبرز المحطات التي يوثّقها ميلبر هي انتفاضة 10 ديسمبر/ كانون الأول 1959، حين رفض السكان قرار نقلهم إلى منطقة كاتوتورا (Katutura) البعيدة والهامشيّة، فخرجوا في مظاهرات قمعتها الشرطة بعنف مفرط. كانت تلك اللحظة، بحسب ميلبر، بمثابة التأسيس الفعلي للحركة الوطنية الناميبية التي قادت لاحقا إلى الاستقلال. الصور التي التقطها هينريكس خلال تلك الفترة لا تُظهر فقط العنف، بل تسجّل أيضًا تفاصيل الصمود والروابط الاجتماعية التي بقيت قائمة رغم الخراب.

بين التاريخ البصري والسياسة الثقافية للذاكرة

يتميّز الكتاب بقدرته على دمج المنظورين التأريخي والبصري، ما يجعله وثيقة فريدة ضمن ما يُعرف بدراسات الذاكرة البصريّة. ميلبر لا يتعامل مع الصورة كعنصر تزييني، بل يقرؤها بوصفها خطابا، أي لغة بديلة عن النص. الصور تُعيد كتابة التاريخ بلغة الضوء، وتُكمل ما عجزت الوثيقة الرسميّة عن قوله.

من الناحية المنهجية، ينتمي هذا التوجّه إلى ما يسمّيه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو بأركيولوجيا المعرفة؛ أي التنقيب في ما تمّ إسكاتُه أو نسيانه. الكتاب لا يعيد ترتيب الوقائع فقط، بل يحفر في البُنى الرمزيّة للمدينة: في علاقة السلطة بالمكان، وفي ذاكرة الجسد الذي يسكن الفضاء.

التذكّر فعل سياسي بامتياز. ومن هذا المنظور، تصبح كلّ صورة في الكتاب إعلانا مضادّا لمحو التاريخ

يُبرز ميلبر كذلك دور الصورة في مقاومة النسيان المؤسساتي، وهي فكرة قريبة من طرح بول ريكور في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (Memory, History, Forgetting)، حيث يشير إلى أنّ التذكّر فعل سياسي بامتياز. ومن هذا المنظور، تصبح كلّ صورة في الكتاب إعلانا مضادّا لمحو التاريخ.

البعد الجمالي والإنساني في صور هينريكس

الصور التي اختارها هينريكس تتجاوز التوثيق الواقعي إلى ما يمكن وصفه بالأنسنة الجماليّة. فهو لا يصوّر المأساة فحسب، بل يحتفي بالحياة داخلها. وجوه النساء والأطفال والباعة المتجوّلين، حركة الأيدي في الأسواق، نظرات المتفرّجين في مباريات كرة القدم… كلّها تشكّل سرديّة بصرية موازية للنص المكتوب. هذه الاستراتيجية تذكّر بما وصفه جون بيرغر في كتابه طرق الرؤية (Ways of Seeing) حين اعتبر أنّ الصورة ليست انعكاسا للعالم، بل طريقة لتشكيله.

من خلال هذا المنظور، يتحوّل كتاب ميلبر وهينريكس إلى فعل مزدوج: تأريخي وجمالي، يواجه به المؤلفان سلطة النسيان والتشويه عبر الجمال نفسه، فالصورة الجميلة ليست هنا نقيض الألم، بل لغته الأصفى.

في راهنية الكتاب وسياق دراسات ما بعد الاستعمار

تأتي أهميّة هذا الكتاب اليوم من كونه يوسّع حقل دراسات ما بعد الاستعمار في الجنوب الأفريقي، خصوصا في سياق النقاشات حول العدالة الانتقالية والذاكرة الحضريّة. ميلبر الذي كتب سابقا عن الهوية والسياسة في ناميبيا "Understanding Namibia: The Trials of Independence" (فهم ناميبيا: اختبارات الاستقلال)، يواصل في هذا العمل اهتمامه بتحليل العلاقة بين السلطة والمعرفة والذاكرة، مستفيدا من أدوات النقد الثقافي والسوسيولوجيا التاريخية.

يضع الكتاب الذاكرة في مواجهة السلطة، ويعيد الاعتبار لما يُسمّيه ميلبر المعرفة المُمَوضعة؛ أي المعرفة التي تنشأ من داخل التجربة المعاشة لا من فوقها. وهذا المفهوم، الذي يعود في أصله إلى الفيلسوفة الأمريكية دونا هاراوي، يتجلّى هنا في سرديّة أهالي الموقع القديم الذين يروون تاريخهم بأصواتهم وصورهم.

إنّ الكتاب ليس مجرّد عمل تأريخي أو ألبوم صور؛ إنّه مشروع لإعادة امتلاك الذاكرة من قِبل أصحابها الأصليين. فالصور والنصوص تتضافر لتشكّل أرشيفا بديلا، يعيد للمدينة المنسية ملامحها الإنسانية.

بهذا المعنى، يُمكن القول إن ميلبر وهينريكس يقدّمان نموذجا للمقاومة الثقافية (Cultural Resistance)» التي لا تُمارَس بالشعارات، بل بالتذكّر. فالذاكرة هنا ليست حنينا إلى الماضي، بل استراتيجية للوجود (Strategy of Being) في مواجهة محوٍ استعماري متواصل. والكتاب بذلك لا يخصّ ويندهوك وحدها، بل كلّ المدن التي نُزعت عنها ذاكرتها بالقوّة، ثم استعادت صوتها بالصورة والكلمة.