تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

العدالة والتعويض من أجل الأفارقة: "هل تعلم الأسود الكتابة"؟

23 فبراير, 2025
الصورة
AFrica
Share

كانت القمة الأخيرة للاتحاد الأفريقي بأديس أبابا (16 و17 فبراير/ شباط) عادية في موعد انعقادها، واستثنائية في مخرجاتها، بدءا بضخ نفس جديد في هياكل ومؤسسات الاتحاد، بإجراء انتخابات شفافة وتنافسية، انتهت بفوز الجيبوتي محمود علي يوسف برئاسة المفوضية الأفريقية، وانتهاء بموقفها الشجاع من القضية الفلسطينية، فقد كان البيان الختامي صريحا فصيحا بشأن الحرب في غزة، التي اعتبرها إبادة جماعية تستوجب المحاكمة، كما عبّر الزعماء الأفارقة عن الرفض القاطع لما يُشاع من خطط أمريكية لتهجير أو ترحيل الفلسطينيين.

لكن المثير في هذه الدورة هو الشعار الذي حمل عنوان "العدالة من أجل الأفارقة والمنحدرين من أصول أفريقية عن طريق التعويضات"، الذي يعني أن الأفارقة استطاعوا أخيرا رص صفوفهم، ونجحوا في تشكيل جبهة قارية عريضة، تتولى إثارة المظالم التاريخية التي كانت الشعوب الأفريقية عرضة لها، على مدار عقود من الاستعمار الأوروبي، وطرح هذه المطالب على الصعيد الدولي، فالإجماع قائم على اعتبار المسألة قضية أفريقيا لعام 2025.

أضحى الموضوع هذه المرة محل اتفاق أفريقي، خلافا للسابق حيث يُنفض عنه الغبار عادة عند كل توتر بين الدولة المستعمِرة والمستعمَرة، فالعزم قائم على توحيد الجهود للمطالبة بتعويضات عن الحقبة الاستعمارية، وفتح النقاش حول جرائم الاستعباد والتمييز العنصري، واستهداف المخزون التراثي والثقافي للقارة. لقد حانت لحظة فتح ملفات الذاكرة الكولونيالية، وبسط أرشيف المشروع الاستعماري الأوروبي في أفريقيا، أملا في كتابة تاريخ آخر لذاكرة الاستعمار، فيبدو أن الأسود تعلم الكتابة، كما يقول المثل الأفريقي: "ستظل كل القصص تمجد الصياد، حتى يتعلم الأسد الكتابة".

لقد صادق الاتحاد الأفريقي على لائحة "العدالة للأفارقة" التي تقدمت بها غانا، في خطوة وصفها مونيك نسانزاباغانو، نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، ب "التاريخية التي تعيد لأفريقيا حقوقها التاريخية، وتعزز المطالب المشروعة للقارة". بذلك تصبح قضية العدالة التعويضية، وبشكل رسمي، على أجندة العمل الأفريقي، ما سيحولها إلى ملف ساخن ومفتوح لدى عدد من الأجهزة في الاتحاد، مثل: اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب والمحكمة الأفريقية ومفوضية الاتحاد الأفريقي للقانون الدولي.

لقد حانت لحظة فتح ملفات الذاكرة الكولونيالية، وبسط أرشيف المشروع الاستعماري الأوروبي في أفريقيا، أملا في كتابة تاريخ آخر لذاكرة الاستعمار

في اللائحة التي تبنتها القمة، دعوة مفتوحة للعمل الجماعي من أجل تجاوز الظلم التاريخي، ومعالجة مخلفات الاستعمار، وذلك عن طريق "العدالة التعويضية" التي قد تأتي في أكثر من صورة، مثل: التعويض المالي والاعتراف التاريخي واستعادة الأراضي وحتى المساءلة الدولية، وقد تمتد إلى إصلاحات السياسات واستعادة التراث الأفريقي المنهوب، لعل ذلك يساعد في تضميد جروح الذاكرة. فقد سبق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، التأكيد على أن "الحكومات الأوروبية تغفل التأثيرات المستمرة لإرثها الاستعماري في القارة".

واضح أن المعركة لن تكون أبدا سهلة، فطريق الأفارقة نحو انتزاع هذه المكاسب يتطلب ضغوطا دبلوماسية، وربما حتى إجراءات قانونية في المحاكم الدولية. ما يعني أن الطموح الأفريقي تحُول دونه عقبات عديدة، لعل أولها تصاعد موجات الشعبوية اليمينية في أوروبا، ما يمنع إثارة أي نقاش موضوعي وجاد بشأن القضية، وإن وقع وحدث ذلك فلا ضمانات على تحقيق تقدم حقيقي في معالجة الملف.

يكفي أن نذكر هنا بأن حزب "كفايا" (تيشغا) اليمني المتطرف في البرتغال؛ الدولة الأكثر انخراطا في تجارة الرقيق؛ فما بين القرنين 15 و19 تم اختطاف ما لا يقل عن 12,5 مليون أفريقي، ونقلهم قسرا عبر المحيط الأطلسي بواسطة السفن البرتغالية، دعى إلى محاكمة الرئيس مارسيلو ريبيلو دي سوازا بتهمة الخيانة، لأنه اعترف بضرورة "دفع التكاليف" عن العبودية وجرائم الحقبة الاستعمارية، داعيا إلى النظر في "كيفية إصلاح الأمر".

من جانبه، رفض رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمز، في قمة الكومنولث الأخيرة (أكتوبر/ تشرين الأول) في ساموا، الانخراط في أي نقاش حول التعويض عن تجارة الرقيق، أو التاريخ الاستعماري للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، مبررا موقفه ذاك بأن القضية ليست على جدول أعمال القمة. ومضى الرجل، فيما يشبه التنكر لموقع حزب العمال، في تأكيده وجهة نظره بالقول أن اللحظة تفرض "النظر إلى الأمام" عوض الاستغراق في "نقاش طويل بلا نهاية عن دفع تعويضات عن الماضي". يبدو أن الزعيم العمالي عمِل بنصيحة اليميني المتطرف نايجل فاراج، الذي حذره من أن الانخراط في أي محادثات حول الملف سوف تجعله ضعيفا.

إن الطموح الأفريقي تحُول دونه عقبات عديدة، لعل أولها تصاعد موجات الشعبوية اليمينية في أوروبا، ما يمنع إثارة أي نقاش موضوعي وجاد بشأن القضية، وإن وقع وحدث ذلك فلا ضمانات على تحقيق تقدم حقيقي في معالجة الملف

أما فرنسا صاحبة التاريخ الأكثر دموية في مناطق القارة المختلفة؛ الشمال والغرب والوسط، الذي بدأ منذ عام 1524، واستمر حتى بسطت سيطرتها على 35٪ لأكثر من ثلاثة قرون، وجعلت من دول مثل: السنغال وبينين ساحل العاج مراكز لتجارة الرقيق، فلا تزال تُكابر في مفاوضات قوامها التلكؤ والمماطلة، فأقصى ما تستطيع باريس هو الاعتراف والمصالحة بعيدا عن أي تعويضات، وحتى الاعتراف نفسه يجب أن يكون وفق مزاج فرنسا، حيث اختارت بضعة سنوات فقط من 132عاما من الاستعمار في الجزائر.

إن اللائحة، وباختصار شديد، إعلان صدام بين دول القارة الأفريقية ومختلف القوى الأوروبية التي شاركت في الموجات الاستعمارية؛ الأولى والثانية، (البرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا...) بلا تمييز، مع التباين طبعا في حدته من قوة لأخرى، حسب السياقات المرتبطة بكل قوة استعمارية. نشير هنا إلى أن 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 صادف الذكرى 140 لافتتاح مؤتمر برلين لإفريقيا (1884)، حيث اجتمعت 19 دولة أوروبية مع الولايات المتحدة لتنظيم وتوسيع الهيمنة والاستغلال في أنحاء أفريقيا.

خوفا من مواجهة لا مفر منها، اقترح عقلاء في البرلمان الأوروبي، ممن يدركون أن معالجة الإرث التاريخي لأوروبا ليس خيارا، بل التزاما بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، مشروع قرار بشأن العدالة التعويضية والتنمية المستدامة، معترفين بتأثيرات الاستعمار الأوروبي على عدم المساواة العرقية في العالم. لكن الأغلبية داخل البرلمان، لا تزال أسيرة الزمن الاستعماري، تداولت في القرار أواخر عام 2023، ثم أحالته إلى الرف دون بث ولا تصويت.

شجعت هذه الاعتراف المتناثرة الأفارقة للمضي قدما في هذا ملف، معالجة المظالم التي واجتها الشعوب الأفريقية، من خلال المطالبة بالنظر في هذه الجرائم التي لا تسقط بالتقادم

فضلت قوى استعمارية معالجة الموضوع مع مستعمراتها، بهدوء وروية، حيث فتحت ألمانيا باب النقاش، منذ 2015، مع الحكومة الناميبية، بشأن أول إبادة جماعية في القرن العشرين، انتهى باعتراف برلين، في مايو/ آيار 2021، أن ما حدث هناك كان إبادة جماعية (75 ألف قتيل)، قضت على 80٪ من قومية هيريرو و50٪ من قومية ناما. مع تعهد ألماني بدفع 1,1 مليار يورو كمساعدات للحكومة الناميبية خلال 30 عاما، بغرض إنفاقها في المناطق التي يعيش فيها أحفاد الضحايا.

بينما اكتفى ملك بلجيكا لويس فليب ليوبولد ماري بكلمات منتقاة في رسالة التهنئة إلى رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي، بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال البلاد، قائلا: "أود أن أعرب عن أسفي العميق لجروح الماضي، هذه التي يستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الذي لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا". اعتذار متأخر مقارنة بخطوة الكنسية البلجيكية عام 2017 التي قدمت اعتذارا أقر فيه الأساقفة بأن الكنائس في أفريقيا الوسطى التي تحولت إلى دار أيام للأطفال السود حرمت الكثرين من حقوقهم المدنية.

شجعت هذه الاعتراف المتناثرة الأفارقة للمضي قدما في هذا ملف، معالجة المظالم التي واجتها الشعوب الأفريقية، من خلال المطالبة بالنظر في هذه الجرائم التي لا تسقط بالتقادم. عزيمة تؤكدها نتائج هذه القمة التي ليست سوى ثمرة مؤتمر العاصمة الغانية أكرا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، الذي وضع خطة عمل للضغط من أجل التعويضات، وحدد 2025 عاما العدالة لأفريقيا من خلال التعويضات.

تحرك عالمي ضد الاستعمار قد يشكل سندا للفلسطينيين أيضا للمطالبة بالتعويض عن عقود من الظلم والقهر والتشريد، فالاستعمار ملة واحدة، وإن تعددت الصورة والأشكال التي يتخذها

كان مؤتمر أكرا حينها فرصة كذلك لتنسيق الجهود مع مجموعة البحر الكاريبي للضغط من أجل تشكيل محكمة خاصة بجرائم الاستعباد في حقبة الاستعمار. وقد تحقق ذلك، حيث ذكرت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية أن كاريكوم؛ وهو تجمع من 15 دولة سيفاوض القوى الاستعمارية بشأن خطة من 10بنود، تشمل اعتذارا رسميا من الحكومات الأوروبية، وتعويضات بقيمة 33 تريليون دولار، زيادة على تمويل الصحة والتعليم وإلغاء الديون، وذلك بسبب استعبادها 20 مليون شخص على مدى أربعة قرون.

مطالب جدد ديكون ميتشل، رئيس وزراء غرينادا، بصفته رئيس مجموعة كاريكوم، تأكيدها يوم الأربعاء 19 فبراير/ شباط الجاري، في كلمة افتتاح الاجتماع السنوي في بربادوس، مخاطبا الأوربيين بقوله: "لا أريد أن أكون وقحا، لكنني أؤكد لكم أن قضية التعويضات عن العبودية واستعباد الشعوب الأفريقية ستكون على طاولة النقاش معكم"، مضيفا بأن أساس هذا المطلب منطلق إنساني "ما دمنا لا نرفض بشكل واضح وصريح فكرة أن إنسانا يمكن أن يمتلك إنسانا آخر، فإننا نخاطر بترسيخها مجددا والسماح بحدوثها مرة أخرى".

تحرك عالمي ضد الاستعمار قد يشكل سندا للفلسطينيين أيضا للمطالبة بالتعويض عن عقود من الظلم والقهر والتشريد، فالاستعمار ملة واحدة، وإن تعددت الصورة والأشكال التي يتخذها، وما عاش الفلسطينيون من صنوف الاضطهاد في الحرب الأخيرة على غزة يشكل إبادة جماعية مكتملة الأركان، لا تقل وحشية عن تلك التي حدث في أفريقيا أو الكاريبي أو غيرها من الأماكن في العالم.

يتساءل الكثيرون حول مدى قابلية القرار للتنفيذ، وقدرة الأفارقة على مطالبة الأوروبيين بالتعويض عن جرائم الحقبة الاستعمارية... ما لذلك من الأسئلة التي تخشى من تحول المسألة إلى مجرد لغوي كلامي بلا قرارات فعلية على أرض الواقع. لكن، ومهما يكن من أمر، فيكفي أن الأفارقة نجحوا في إشاعة النقاش بشأن الموضوع، لا بل وتدويله ليخلق الحدث في قمة الكومنولث، ويتصدر أشغال قمة مجموعة كاريكوم، ما يؤكد عزم الأفارقة الصادق على إعادة كتابة التاريخ.