تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

العدالة التصالحية.. هل يقدم الإرث التاريخي لأفريقيا حلولا لنزاعات المستعصية؟

7 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

يصف الباحثان، نياجالي باجايوكو، وإيلودي ريش، في كتابهما "الاقتصاد الأفريقي 2025"، أفريقيا بأنها  "قارة الحروب"، إذ أنها تشتمل على العدد الأكبر من الصراعات المسلحة عالميا، بواقع  28 نزاعا مسلحَا، وتفقد آلاف الضحايا سنويا، قدروا ما بين عامي 1989 و2023، بحوالي 2 مليون شخص، يضاف إليهم أكثر من 40 مليون نازح داخل القارة، وذلك على الرغم من كثرة المبادرات الدولية والإقليمية التي تسعى لوضع حد لهذه الصراعات.
الوضع المأساوي السابق، جعل كثير من الباحثين الأفارقة، يطالبون بضرورة العودة للتراث الأفريقي، والتعرف على الآليات التي اعتمدها سكان القارة قبل آلاف السنين لإنهاء خلافاتهم، وضمان التعايش السلمي فيما بينهم. لاسيما في ظل الاتهامات التي تلاحق منظومات العدالة المتبعة حاليا، في كثير من الدول الأفريقية، والتي جرى استعارتها من النظم الغربية إبان الاستعمار، كونها لم تحقق أهدافها في كثير من المواقع التي تشهد صراعات في القارة، وهو ما دفع الكثيرين للتفكير في منظومة العدالة التصالحية التي تدمج ما بين الإرث التاريخي للأفارقة، والمنظومة العدلية القائمة حاليا.

الدمج بين القيم الثقافية والمبادئ القانونية

على الرغم من التطوير الذي لحق منظومات العدالة الأفريقية، إلا أن الباحث بقسم الدين والعلاقات الإنسانية، بجامعة تشوكويميكا أودوميغو أوجوكو، إغباريام، النيجيرية، إيفياني أ. تشوكوديبيلو، يرى أن هناك ضرورة ملحة للعودة للجذور الأفريقية القديمة، مؤكدا أن الدمج ما بين القيم الثقافية والمبادئ القانونية قد يجلب السلام لكثير من المجتمعات الأفريقية.


كثيرًا ما أدى فرض أنظمة المحاكم الرسمية في جميع أنحاء أفريقيا إلى تهميش ممارسات العدالة الأصلية، مما خلق بيئة عدالة تُعزل فيها العديد من المجتمعات عن الإجراءات القانونية التي تحكمها


يشير الباحث في ورقة بحثية له إلى أن العدالة لطالما كانت حجر الزاوية في المجتمعات البشرية، لكن أنظمة العدالة الرسمية الحديثة، المتأثرة إلى حد كبير بالتقاليد القانونية الغربية، غالبًا ما تفشل في تلبية الاحتياجات الفريدة والديناميكيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الأفريقية، حيث لا تتوافق الآليات القانونية الرسمية مع الواقع المعيشي، والقيم المجتمعية لكثير من المجتمعات الأفريقية.
يقر الباحث بأن هناك حاجة ملحة لاستكشاف وفهم أنظمة العدالة الأفريقية التقليدية التي حافظت على المجتمعات من خلال مبادئ المصالحة والمشاركة المجتمعية والوئام، لافتا إلى أن هذه الإجراءات رغم بساطتها، إلا أنها كانت قادرة على خلق التعايش بين المجتمعات الأفريقية.
يعتبر الباحث النيجيري في ورقته أنه "كثيرًا ما أدى فرض أنظمة المحاكم الرسمية في جميع أنحاء أفريقيا إلى تهميش ممارسات العدالة الأصلية، مما خلق بيئة عدالة تُعزل فيها العديد من المجتمعات عن الإجراءات القانونية التي تحكمها، حيث تميل أنظمة العدالة الرسمية إلى التركيز على التدابير العقابية والإجراءات التخاصمية، مما قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية ويفشل في استعادة الوئام المجتمعي".
يوضح أنه في كثير من البلدان الأفريقية، لا يزال الوصول إلى الأنظمة القانونية الرسمية محدودًا، لا سيما في المناطق الريفية حيث يحتكم غالبية السكان، إلى أنظمة العدالة التقليدية، التي يُديرها قادة المجتمع المحلي، والتي تنطوي على مشاركة فعّالة من أفراده، حيث تلعب هذه الإجراءات دورًا محوريًا في حل النزاعات، لافتا إلى أن هذه الأنظمة تُعطي الأولوية لإصلاح الضرر الناجم عن الجرائم، مُركزةً على رد الحقوق والتعويض والاعتذار العلني، وهو ما لا تقره المنظومة العقابية الغربية، والتي غالبًا ما تُفاقم الانقسامات الاجتماعية.


هذه الأنظمة تُعطي الأولوية لإصلاح الضرر الناجم عن الجرائم، مُركزةً على رد الحقوق والتعويض والاعتذار العلني، وهو ما لا تقره المنظومة العقابية الغربية، والتي غالبًا ما تُفاقم الانقسامات الاجتماعية


على الرغم من المخاوف التي تلازم المطالبات بضرورة اعتماد هذا النوع من العدالة، كونه قد يتعارض مع حقوق الإنسان، وقد يحتكم فيه القادة المحليون لعواطفهم، أو حتى ينتصرون لأصحاب النفوذ، إلا أن الباحثين لا يرونه بديلا عن النظم القانونية الحديثة بشكل نهائي، بل يستخدم كعامل مساعد من خلال دمج هذه الممارسات ضمن الإجراءات المتعبة في معالجة قضايا الصراع الأفريقية، حيث يتركز الهدف الأساسي لأنظمة العدالة الأفريقية التقليدية في التوفيق بين أطراف النزاع واستعادة العلاقات داخل المجتمع، وليس فقط تحقيق الردع أو العقاب.

أدوات العدالة التصالحية في أفريقيا

تشمل ممارسات العدالة التصالحية "الاعتذارات والتعويضات وخدمة المجتمع، وأشكالًا أخرى من التعويض التي تُساعد على إصلاح العلاقات، وتعزيز الشفاء المجتمعي، من خلال التركيز على المساءلة والتسامح والمصالحة"، حيث تستخدم قوانين عرفية تتطور مع احتياجات المجتمع وقيمه، وهو ما يعزز من فعالية منظومة العدالة، ويساهم في الاستقرار الاجتماعي طويل الأمد. 
في ذات السياق تقول الباحثة جولينا جومبي غاباغامبي، "إن العدالة التصالحية أثبت جدارتها في معالجة كثير من الأزمات والقضايا الأفريقية"، لافتة إلى أن كثيرا من الشعوب الأفريقية تفضل هذا النمط من العدالة، حتى أن كثيرا من المجتمعات بدأت تعود إليه، حينما تفشل المنظومة العقابية القانونية في علاج المشكلات.

نماذج من العدالة التقليدية طبقت في القارة

تشير الباحثة في ورقة بحثية إلى أن تنزانيا مارست مثل مثل هذه الإجراءات التصالحية منذ آلاف السنين، وكانت تُعرف باسم "لوغونو"، وبموجبها يجتمع أفراد النزاع سواء كان على مستوى الأسر أو العائلات أو العشائر، في حلقات دائرية، حيث تدعو الجماعة المعنية بإقرار الصلح أفراد النزاع، ويجلسون في دوائر حول المدفأة، ثم يروي المشتكي الحادثة أو يقدم روايته لما حدث، ويُسمح للمدعى عليه أو المدعى عليهم بالرد على الاتهامات والدفاع عن أنفسهم، ويُعقد صلح الأطراف أو يُحتفل به بمشاركة الكحول، المعروف محليًا باسم "أوكوبيلانيلا أولوبيلو"، ويشرب الجميع من نفس الوعاء، أو يتناولون اللحم المشوي معا دلالة على انتهاء الخصومة.


العقوبات لا تشبه بعضها البعض، بل تختلف آليات الحلول وفقا لجسامة الخطأ المرتكب، ففي النزاعات البسيطة، كان يمكن حلها في إطار ضيق، بينما الجرائم الجسيمة أو النزاعات الخطيرة فتتطلب مشاركة أفراد العشيرة والمجتمع


 ووفقا للباحثة "غاباغامبي" فإن العقوبات لا تشبه بعضها البعض، بل تختلف آليات الحلول وفقا لجسامة الخطأ المرتكب. فالنزاعات البسيطة، يمكن حلها في إطار ضيق، بينما الجرائم الجسيمة أو النزاعات الخطيرة تتطلب مشاركة أفراد العشيرة والمجتمع، وبعد قول الحقيقة، كان على الجاني أن يعترف طواعيةً بمسؤوليته عن أقواله أو أفعاله أو امتناعه عن فعل تسبب في ضرر أو إصابة للضحية وعائلته؛ كما كان عليه أن يُظهر ندمه على أفعاله، وبهذا تصبح المصالحة هي جوهر العدالة التصالحية.
تتشابه الطقوس المتبعة في أنظمة العدالة التقليدية في أكثر من موقع أفريقي، حيث دأبت القبائل النيجيرية على القيام بطقوس مشابهة لما يحدث في تنزانيا، حيث يجتمع أطراف النزاع وفق دعوة من مجلس حكماء متخصص في نظر مثل هذه الدعاوى، ويقوم الجميع بعد انتهاء الخصوم بتناول الطعام من وعاء واحد.
 اللافت في مثل هذه الإجراءات أنها تحمل في تفاصيلها حكمة القادة المحليين، الذين فهموا أن كشف حقيقة ما حدث وأسبابه يتطلب مشاركة جميع أفراد المجتمع في مناقشات صريحة ومفتوحة، إما حول خطأ أو مشكلة أو نزاع معين أو مجموعة من القضايا أو النزاعات، وسمحت هذه الآليات للأفراد العاديين بأن يكون جزءا من حل المشكلات التي تواجههم، ومناقشتها بحرية دون تدخل من سلطة مركزية بعيدة عن الدولة، وهو ما لا توفره الأنظمة العقابية التي أقرتها الحكومات الأفريقية بعد الاستقلال، وفقا للباحثة "غاباغامبي".
أتت هذه الممارسات بنتائج إيجابية في بوروندي أيضا، حيث نجحت أنظمة العدالة التقليدية والمعروفة باسم "أوبوشينغانتاهي" في معالجة كثير من النزاعات المحلية، حيث يشترط هذا النظام أداء الأطراف المتنازعة لليمين قبل بدء المحاكمة، وعند التوصل إلى القرار، يُقدّم أطراف النزاع بيرة الموز أو الذرة الرفيعة إلى الباشينغاتاهي تقديرًا لدورهم، وهو ما دفع بعض الباحثين في بوروندي لضرورة اعتماد هذا النظام لجانب النظم القانونية القائمة حاليا.
تعد رواندا من أشهر المناطق الأفريقية التي مارست نظام العدالة التصالحية، وجاءت بنتائج إيجابية عقب المذابح البشرية المروعة التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي. كان للإرث التاريخي دور مهم في حلحلة الصراع، حيث عمدت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة إلى إطلاق برنامج تأهيل وطني لضمان استمرارية المصالحة، وتم ذلك من خلال مناهج التعليم، أو استنادا إلى  الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الثقافية القائمة على المجتمع والتضامن لحل النزاعات أو التحول.
كانت أشهر هذه الآليات في معسكرات الإنغاندو التي أقامتها لجنة المصالحة، وهي عبارة عن معسكرات للتأهيل الوطني، لخلق ثقافة موحدة في البلاد لرفض الصراع، وأنشئت لذلك بعض الكيانات المنبثقة عنها، مثل: أكاديمية التأهيل الوطني، وبرنامج إعادة التأهيل الوطني، ورفع شعار "أنا رواندا" لتوحيد الجميع تحت مظلة الدولة، ورفض الإثنية العرقية.
يشير مصطلح الإنغاندو إلى لحظة فريدة في الثقافة الرواندية، وعبر هذا البرنامج يضطر السكان من كبار السن أو الشباب إلى مغادرة قريتهم والذهاب إلى مكان منعزل للتفكير ومناقشة المشاكل الأساسية التي يواجهها المجتمع، ومثلت هذه الفكرة إعادة إحياء لتقليد ثقافي قديم، كان يفعله السكان القدامى في رواندا لحل النزاعات.
كان هذا البرنامج مخصص لتعليم فضائل الوحدة والوطنية، استمر استخدامه كأحد أساليب المصالحة الوطنية لسنوات، عبر ورش عمل تناقش حل المشاكل المجتمعية، وتكون مساحة للتفاعلات الدينامية بين الناس وأداة للتماسك الاجتماعي والوحدة والاندماج، إلى جانب دورها في إدماج اللاجئين، وإعادة دمج العسكريين.
توسعت هذه المعسكرات لتشمل طلاب المدارس والجامعات، وكذلك موظفي الدولة، وشكلت مدرسة عرفت المشاركين على سير الحياة اليومية في البلاد، وأصبحت مساحة تساعد على فهم أهمية التعايش السلمي، كما أنها ساعدت المجتمع في تنمية على المستوى السياسي والاقتصادي، وقدمت العلاج للناجين من الإبادة.
لم تكن هذه البرامج محلية الطابع بل ذهبت للروانديين في بلدان الشتات أيضا، وهدفت إلى إعادة ترسيخ ثقافة خدمة الوطن من دون مكافأة مالية في فيهم، وزيادة مستويات الوعي بالوحدة والمصالحة، وتشجيع الحس الوطني والوحدة والمسؤولية، باعتبارها سمات تساهم في التقدم والتماسك الاجتماعي والسلام والمصالحة.
استهدفت هذه البرامج جميع الروانديين، وتتضمن مناهج مختلفة تتلائم مع مختلف الشرائح السكانية، ومن بينهم الأطفال من سن السابعة وما فوق، وكان الأطفال يحصلون على تدريب في قراهم ليصبحوا مواطنين مسؤولين ومنتجين عندما يكبرون. وكانت الفئات من عمر 18 إلى 35 سنة تخضع لهذه البرامج بشكل إلزامي.


تشمل ممارسات العدالة التصالحية "الاعتذارات، والتعويضات، وخدمة المجتمع، وأشكالًا أخرى من التعويض التي تُساعد على إصلاح العلاقات وتعزيز الشفاء المجتمعي"


اعتمدت جنوب أفريقيا هي الأخرى نظاما مشابه، تضمن إحياء نموذج العدالة التصالحية، وأُمِر بعض الأشخاص الذين وُجهت إليهم اتهامات بارتكاب عدة جرائم بدفع تعويضات للضحايا وطلب العفو، ولا تزال كثير من المجتمعات الأفريقية تعترف بالنظم العرفية في حل مشكلاتها، حتى أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، أكدت في كتاب صادر عنها أن هذه النظم، وإن كانت خارج سيطرة الدولة إلا أنها ثبت صلاحيتها في كثير من المناطق الأفريقية.

مكاسب تحققها العدالة التصالحية

وفقا للباحث محمد توفيق لادان، فإن هذه الإجراءات لم تضمن فقط معالجة النزاعات الأفريقية بشكل مستدام، بل كانت تضمن وتشجع إعادة دمج المُجرم في المجتمع، حيث تُعد إعادة الإدماج مهمةً، لأنها تُسهّل قبول الجاني في أوساط المجتمع. كما يُعيد هذا القبول إليه شعوره بالانتماء والتعافي، مشيرا إلى أن عدم إعادة إدماج الجاني يُفضي في معظم الحالات، إلى العودة إلى الإجرام.
خلاصة القول إنه نظرا لطبيعة الصراعات الأفريقية المتفاقمة، والتي تأخذ طابعا مستداما في بعض المناطق، كونها تنطلق من أسباب إثنية أو دينية أو حتى اقتصادية، فإن اللجوء للإرث الثقافي والممارسات التاريخية التي نجحت في إرساء السلام سابقا، قد يكون أحد الحلول المقترحة لإنهاء الصراعات المتفاقمة في القارة وذلك عبر الاستعانة بمثل هذه الإجراءات لجانب النظم القائمة حاليا لضمان حل الخلافات الأفريقية بسبل مستدامة.