تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

البُن الإثيوبي: من عطر الثقافة إلى ساحة التفاوض

30 أبريل, 2025
الصورة
coffe
Share
للقهوة وجهان لكل منهما طابع مضاد للأخر، فتارة مظهر للسلم وتارة مظهرًا دمويًا، تتجاوز حبة القهوة مجرد التجارة والاستهلاك، لتشمل شكلًا من أشكال القوة الناعمة لإثيوبيا للتحسين نفوذها السياسي والثقافي وإظهار الطابع السلمي.

تلعب القهوة دورًا محوريًا في السياسة والأمن والاقتصاد، وتعد أداة محفزة للتفاعل الاجتماعي والحوار السياسي. كما تعزز الروابط الاجتماعية، ما يجعلها رفيقًا لا غنى عنه في النقاشات وجلسات المصالحة بين المجتمعات المحلية. بل يتجاوز تأثير رشفة القهوة التقليد الإثيوبي، لتصبح من أهم أدوات السياسة الخارجية في تعزيز العلاقات الثنائية، حيث شكلت تجارة القهوة العلاقات الدبلوماسية، وحسنت مكانة إثيوبيا السياسية والثقافية. فتجارتها وإنتاجها يٌشكلان الروابط الاقتصادية مع الدول، وورقة تفاوضية رابحة باعتبارها سلعة عالمية قادرة على تغيير موازين الأمن في الداخل الإثيوبي.

البٌن ذهب إثيوبيا الأسود

عرفت إثيوبيا القهوة، قبل أن يعرفها العالم لاحقا. يحكى أن الإثيوبيين أول من اكتشف القهوة، بواسطة راعي غنم، ينتمي إلى قبيلة الأورمو، يُدعى "كالدي"؛ عندما لاحظ الأثر المنشط لحبوب النبتة الحمراء على أغنامه، وبدافع الفضول، تناول كالدي الثمار بنفسه، واستشعر النشاط والحماس. ومن ثم دفع الرهبان لتحضير أول فنجان قهوة إثر انبعاث رائحة ذكية بعد أن ذهب كالدي إلى الدير، ولكن أحد الرهبان رفض تناولها وألقاها في النار.

بدأ استخدام القهوة أثناء الصلاة لبقاء المُصلين مستيقظين، وسرعان ما انتشر تأثير البُن المنشط في الخارج، وعُرفت إثيوبيا على نطاق واسع بأنها موطن القهوة. ومع مرور الوقت، أصبحت القهوة جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإثيوبية، وتطورت من اكتشاف بالصُدفة إلى تقليد عريق بطقوس لا تزال قائمة حتى الآن.

لا تقتصر أهمية البُن الإثيوبي على كونه مجرد سمة من سمات الهوية الثقافية، بل تتجلى أهميته في تحوله لحجر الزاوية في الاقتصاد الإثيوبي؛ حيث ترتكز 24٪ من صادرات البلاد على البُن، ويعمل حوالي 25٪ من السكان في صناعته، من بينهم 4 ملايين مزارع من مالكي الحيازات الزراعية الصغيرة بنظام الحراجة، الذي خلق مناخا محليا مثاليا يضفي مظهرا فريدا على القهوة الإثيوبية.

يلًقى البُن الإثيوبي الذي يُزرع في غابات كافا في جنوب غرب إثيوبيا قبولًا ورواجًا عالميًا؛ نظرًا لجودته وطبيعته المناخية؛ مما يجعل إثيوبيا في المركز السادس عالميًا للتصدير البٌن؛ بإجمالي إنتاج يصل إلى 8.35 مليون عبوة، تتوزع ما بين 3.5 مليون موجهة للاستهلاك المحلي، فيما تصدر 4.82 مليون عبوة للخارج تستهدف 50 دولة مستوردة.

القوة الناعمة للقهوة

يلعب البُن دورًا مزدوجًا في إثيوبيا من ناحية تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي عن طريق تنمية الصادرات كأداة لتدفق العملات الأجنبية في الداخل، وترسيخ النفوذ السياسي في الخارج. في الوقت ذاته على الصعيد الاجتماعي باعتباره سمة مميزة للتراث التاريخي والثقافي للمجتمع الإثيوبي، ورمزًا للضيافة. استفادت إثيوبيا بطقوس "جبينا بونا"، أو ما يٌعرف بحفل القهوة الإثيوبي، كورقة تفاوضية في الفترة ما بين 1889-1913 في عهد الإمبراطور"مينيليك"، عند استخدم نبات القهوة هدايا إلى الدول الأوربية والقبائل ورعاياه المسيحيين؛ لتأسيس أمة مشتركة وسلمية للحصول على دعمهم وتعزيز الاعتراف السياسي.

لا تقتصر أهمية البُن الإثيوبي على كونه مجرد سمة من سمات الهوية الثقافية، بل تتجلى أهميته في تحوله لحجر الزاوية في الاقتصاد الإثيوبي

ظهرت القهوة مرة أخرى كورقة مساومة في المفاوضات الدولية في عام 2005-2007، واستطاعت إثيوبيا من خلالها انتزاع حقوق الملكية الفكرية للأنواع المختلفة من القهوة الإثيوبية، بعد شن حملة تجارية على شركات البُن العالمية، أسفرت عن نجاح  تسجيل علامات تجارية من أنواع: ييرغاتشيف وسيدامو وهرار، وتوقيع ما يُقارب من 100 اتفاقية مع شركات الاستيراد، مما ساهم في تحسين مستويات المعيشة لمُنتجي القهوة، وتحسين مكانة إثيوبيا في التجارة العالمية واتساع نفوذها السياسي.

كما استُخدمت القهوة كأداة للدبلوماسية الناعمة، حيث سعت إثيوبيا لتقديم نفسها كوجهة ثقافية دبلوماسية؛ من خلال ترسيخ مبدأ حسن النية وتعزيز أواصر التفاهم المُتبادل والعلاقات الثنائية. وشاركت إثيوبيا في العديد من المعارض والاحتفالات الدولية تعزيزًا لصورتها الثقافية، ومن أبرز هذه الفعاليات مهرجان "رينالد أرابيا" في جدة ضمن فعليات مهرجان القهوة والشاي السنوي 2018، الذي دعا الحاضرين إلى تذوق القهوة التقليدية الإثيوبية، وشهدت الثقافة الاثيوبية قبولًا واسعًا لدى الجماهير. 

كما شاركت عام 2022 في المعرض الدولي للقهوة المتخصصة في طوكيو بمجموعة متنوعة من حبوب البُن الإثيوبي، مما فتح لها بابا الدعم لسوق القهوة الاثيوبي في اليابان.

تولي إثيوبيا اهتمامًا خاصًا بالفعاليات على المستوى الإقليمي، وذلك من خلال مقر الاتحاد الأفريقي، بهدف الترويج لمذاق القهوة الإثيوبية التقليدية. حيث قدمت وزارة السياحة الإثيوبية طقوس القهوة الشعبية في قمة الاتحاد لعام 2023 فقرة ترحيبية بالضيوف المشاركين في القمة الإفريقية 42 للقادة ورؤساء الدول الأفريقية بأديس أبابا. 

تعمل إثيوبيا أيضا على استخدام مراسم القهوة كأداة دبلوماسية فعّالة داخل مهرجان القهوة الأفريقية في أديس أبابا؛ لتعزيز الشراكة الاقتصادية وتوطيد العلاقات مع كبرى الدول المستوردة. وذلك عن طريق فتح حلقات نقاشية تهدف لتبادل وجهات النظر حول إنتاج وجودة أصناف القهوة الإثيوبية داخل الفاعليات الدولية.

تجلَى استخدام القهوة كعادات للمصالحة والسلام التقليدي بين المجتمعات المحلية من خلال حفل القهوة "Buna ceremony"، حيث يتم نثر العشب الأخضر على الأرض و تحميص حبوب البن في أواني معدنية لتنتشر بها الرائحة وتصبح جزءا من التسلية الجماعية والتعمق وزيادة الدفئ ، ثم يتم تقديم القهوة وتناوله بعد أن يغلى في إناء جبينا "Jebena" على ثلاث مراحل متتالية، تسمى المرحلة الأولى (Abol)، وتعني البداية لفتح باب الحديث، في هذه المرحلةيُقدم الفنجان الأول مع الفشار أو قطعة خبز معدة بطريقة تقليدية يقال لها (Qurs). تليها المرحلة الثانية، وهي تقديم الفنجان الثاني بعد أن تم تخفيف القهوة ، تُدعى هذه المرحلة (Tona)، تعقبها خاتمة الجلسة أو ما يُسمى (Baraka)؛ وهي مرحلة تقديم الفنجان الثالث والأخير ليتم إنهاء الأحاديث والجلسة .

فقد كان تقليد حفل القهوة يتخلل العديد من جلسات المصالحة ومبادرات السلام في السياسة الإثيوبية، على سبيل المثال، عمليات المُصالحة بين القبائل التي تشهد نزاعات بين الحين والأخر كقبيلتي الأورمو والأمهرة، وقبيلتي الأورمو الإثيوبية والرينديلي الكينية، أيضًا شهدت تقليد القهوة في جلسات المصالحة لإطفاء طابع روحي وسلمي لتحييد الخلافات كدلالة على حسن النية والسلام، كما تواجدت القهوة في قلب مبادرات السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018 كدلالة على مد يد السلم وتعزيز الروابط الاجتماعية المشتركة بين الطرفين.

استُخدمت القهوة كأداة للدبلوماسية الناعمة، حيث سعت إثيوبيا لتقديم نفسها كوجهة ثقافية دبلوماسية؛ من خلال ترسيخ مبدأ حسن النية وتعزيز أواصر التفاهم المُتبادل والعلاقات الثنائية

القهوة مقابل السلاح 

يمثل قطاع البُن في إثيوبيا على مر التاريخ وسيلة فعالة لتمويل الحروب، وأداة فاعلة في عمليات الضغط السياسي والاقتصادي، حيث تعد القهوة المورد الرئيسي الذي يقوم عليه اقتصاد البلاد بجانب المساعدات الدولية والقروض. يساهم قطاع البُن بإجمالي عائدات تتراوح ما بين 30 إلى 35٪؛ مما يجعله عاملا رئيسيا في تدفق الأموال وقت الأزمات. 

برزت أهمية البٌن كأداة لتمويل الحروب في ظل الهجمات المتبادلة بين إثيوبيا وإقليم تيغراي 2020-2023، حيث تبنت الحكومة الإثيوبية على إثرها خطة تصدير للبُن بقيمة 2 مليار دولار للتدفق العملات الأجنبية، وتحويلها موردا لشراء الأسلحة واستكمال الحرب.

في السياق ذاته؛ أدت نشوب التوترات بين إثيوبيا وتيغراي إلى ضغوط أمريكية على قطاع البُن، في محاولة لتباطؤ الصراع أو إيقافه، كما تعرضت شبكة تصنيع البن للصدمات، في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي- جو بايدن – بإلغاء اتفاقية  أغوا "AGOA"؛ على إثره فقدت إثيوبيا صفة المستفيد من الاتفاقية والإعفاء الجمركي، موجهًا ضربة خطيرة لرفاهية ملايين العمال ذات الدخل المنخفض.

اعتمدت إثيوبيا في سبعينات القرن الماضي القهوة سلاحا تفاوضيا للحصول على الأسلحة وقمع المتمردين، بعد أن توافقت حاجة ألمانيا الديموقراطية مع مصالح الحركات الاشتراكية التي تقطن إثيوبيا وبعض دول إفريقيا، في عرض ثمين كان مفادها القهوة مقابل السلاح، بعد أن تعرضت ألمانيا لأزمة قهوة ناتجه عن تدمير المحصول البرازيلي إثر اضطرابات مناخية. وبالفعل قبلت إثيوبيا  بقيادة  زعيم المجلس العسكري "منغيستو هيلا مريام " صفقة الأسلحة مقابل توفير الكميات المطلوبة من القهوة، فكان لها عظيم الأثر على تشكيل مذبحة النظام الإثيوبي في التخلص من آلاف المعارضين المشتبه بهم، في ظل تعقيدات الحرب الباردة.

يمثل قطاع البُن في إثيوبيا على مر التاريخ وسيلة فعالة لتمويل الحروب، وأداة فاعلة في عمليات الضغط السياسي والاقتصادي

للقهوة وجهان لكل منهما طابع مضاد للأخر، فتارة مظهر للسلم وتارة مظهرًا دمويًا، تتجاوز حبة القهوة مجرد التجارة والاستهلاك، لتشمل شكلًا من أشكال القوة الناعمة لإثيوبيا للتحسين نفوذها السياسي والثقافي وإظهار الطابع السلمي، من خلال المشاركة في المهرجانات والمعارض الدولية، وانتزاع علامات تجارية تبرز سمات الثقافة الإثيوبية، مع تعزيز روابط المجتمعات المحلية وتحييد الخلافات في جلسات القهوة التقليدية، وعلى الجانب الآخر تضفي مظهرًا دمويًا يحول كوب القهوة الصباحي الذي يظهر بطابع سلمي إلى أصوات مزعجة في الداخل الإثيوبي إثر صفقات القهوة مقابل السلاح.