تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 14 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

الاستعمار البيئي: الوجه الخفي للاستثمارات الخضراء في أفريقيا

13 أبريل, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

تمتلك القارة الأفريقية فرصًا واعدة للاستثمارات الخضراء، إذ أصبح الحديث عن الاقتصاد الأخضر أحد أبرز العناوين التي تسيطر على المحافل السياسية، والمنتديات الاقتصادية في القارة وخارجها، والتي كان آخرها قمة الاتحاد الأفريقي التي عقدت في كيب تاون في فبراير/ شباط 2025، تحت شعار "بناء أفريقيا قادرة على مواجهة تغيرات المناخ"، والتي أكدت حاجة القارة لـ 277 مليار دولار أمريكي استثمارات في هذا القطاع، لافتة إلى أنها استقطبت حتى الآن 27 مليار دولار، إلا أنها كالعادة أغفلت الحديث عن سلبيات هذا الاستثمار الذي يراعي في المقام الأول، مصالح مموليه.

"الاستثمار النظيف وحماية البيئة والتنمية المستدامة وإنقاذ الكوكب" كلها شعارات ترفعها الشركات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني الدولية المعنية بالبيئة، وتنظر في تحقيقها صوب القارة الأفريقية، التي تمثل فرصة ذهبية لمثل هذه الاستثمارات، وهو ما كان ملموسا بشكل واضح في القمة سالفة الذكر، حيث ضمت أكثر من 130 متحدثًا من 35 دولة، بمشاركة 200 مطور مشروع و550 مندوبًا؛ مما يعكس تزايد الاهتمام الدولي بالاستثمار في الاقتصاد الأخضر داخل أفريقيا.

على الرغم من عظم حجم الفرص التي قد توفرها مثل هذه الاستثمارات، وحالة التفاؤل التي قد تصاحبها، إلا أن هذه الآمال قد تصطدم بالحقائق المؤلمة والتجارب القاسية التي شهدتها القارة على مدار السنوات الماضية، حيث تحولت مثل هذه الشعارات، لأداة جديدة للهيمنة الاقتصادية والاستحواذ على الموارد الطبيعية، فيما بات يُعرف بـ"الاستعمار البيئي" أو "الغسل الأخضر"، فتحت هذه المزاعم عادة ما يتم  تهجير السكان المحليين وتلويث البيئة واحتكار الأراضي والموارد لصالح الشركات الأجنبية، وترك أصحاب الثروة الحقيقيين غارقين في الفقر والصراعات التي تغذيها التدخلات الدولية.

نماذج مؤلمة للاستثمار الأخضر في أفريقيا

تظهر الادعاءات السابقة بشكل فج في شمال كينيا، وتحديدا في مشروع بحيرة توركانا لطاقة الرياح، والذي بدأ الحديث عن أهميته منذ عام 2006، حيث روجت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، تقاريرا حول مدى أهمية المشروع كونه واحدا من أكبر مشروعات الطاقة النظيفة في القارة، وبحلول عام 2019 كانت شركة فيستاس الدنماركية المنفذة للمشروع، قد أعلنت عن دخول المشروع مرحلة التشغيل التجاري الكامل، إلا أن ما غفل عنه الجميع هو حقوق السكان المحليين للمنطقة التي دشن فيها المشروع العملاق.

المشروع الذي يُعد جزءًا من خطة طموحة لتوفير الطاقة لجميع الكينيين، تقول عنه مجموعة العمل الدولية لشؤون الشعوب الأصلية (IWGIA)، إنه لا يعترف بحقوق السكان المحليين، إذ يقطن المنطقة أربعة مجموعات رعوية، هي: "سامبورو وتوركانا وإل مولو ورينديل"، ولا يعترف المسؤولون عن المشروع بحقوق هؤلاء، إذ لم تُطبّق سياسات الشعوب الأصلية ومعايير الحماية الخاصة بها، مثل الحق في الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة (FPIC)، على الرغم من كونه حقا يقره القانون الدولي لحقوق الإنسان.

ليس هذا فحسب، بل لم تُجرِ الشركة المنفذة استشارة حرة ومسبقة ومستنيرة للمجتمعات المتضررة بشأن تخصيص 150,000 فدان من أراضي كانت مملوكة في الأصل لهم، ولم تُعوّضهم تعويضًا كافيًا، حيث سرعان ما ظهرت الآثار السلبية للمشروع، والتي من بينها النقل القسري لقرية ساريما المحلية لشق الطريق المؤدي إلى مزرعة الرياح. كما اندلعت صراعات وأعمال عنف بين شهري أبريل/ نيسان ومايو/ آيار 2015 في منطقة المشروع، بسبب تفاقم المشكلات المجتمعية هناك.

ما بات يُعرف بـ"الاستعمار البيئي" أو "الغسل الأخضر"، فتحت هذه المزاعم عادة ما يتم  تهجير السكان المحليين وتلويث البيئة واحتكار الأراضي والموارد لصالح الشركات الأجنبية، وترك أصحاب الثروة الحقيقيين غارقين في الفقر والصراعات التي تغذيها التدخلات الدولية

إلى جانب فقدان الأراضي والتهجير القسري، أدى هذا الوضع إلى تفاقم الفقر وزيادة المشاكل الاجتماعية، كما أن تدفق العمال الأجانب لبناء المشروع جلب معه مشاكل جديدة، مثل: انتشار الدعارة والملاهي الليلية التي تقدم خدمات لطالما كانت غريبة على ثقافات السكان المحليين.

علاوة على ذلك، تعاني المجتمعات الأربع المتضررة، من انقسام وصراع على الأراضي والموارد، حيث لجأت الشركة المنفذة إلى حلية خطيرة، فاقمت الانقسام، وذلك بمنح بعض التعويضات والمزايا لقرى/مجتمعات محددة فقط، وهو أسلوب شائع تتبعه الشركات التي ترغب في استغلال أراضي السكان الأصليين، حيث تعمل على تقسيم المجتمع إلى أجزاء من خلال تعويض جزء، وترك الباقي دون أية حقوق لضمان توفير جزء من التأييد الشعبي لمشروعاتها.

في هذا الإطار يقول السكان المحليون إنهم لا يعارضون التنمية، لكن موقفهم الرافض يعود إلى عدم حصولهم على معلومات صحيحة حول المشاريع المخطط لها، كما أنهم قدموا مطالب واضحة إلى جمعية الشركات التي أنشأته فيما يتعلق بالتعويض عن الأرض، وحصلوا على أحكام قضائية تؤيد مطالبهم، حيث اعتبرت محكمة محلية أن صكوك الملكية التي حصلت من خلالها الشركة المنفذة على الأرض "غير نظامية وغير قانونية".

الأمر لم يقف عن الشمال الكيني، فالاتهامات نفسها تلاحق مشروع الممر الأخضر الضخم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي يفتقر إلى دعم مجتمعات الغابات، حيث حذّر خبراء البيئة من أن منطقة محمية جديدة ضخمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية - تعادل مساحتها مساحة فرنسا - لم تُشرك السكان الأصليين والمجتمعات المحلية في تصميمها حتى الآن، ويبدو أنها أداة لتعزيز التجارة بدلاً من حماية الطبيعة.

تعود بداية الأزمة إلى إعلان رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، عن إنشاء "ممر أخضر" بطول 2600 كلم، يمتد من منتزه فيرونغا الوطني في منطقة شمال كيفو الشرقية التي مزقتها الصراعات، مروراً بغابات إيتوري الشاسعة ونهر الكونغو، وصولاً إلى كينشاسا في الجنوب الغربي وساحل المحيط الأطلسي.

وقتها قدم الرئيس تشيسكيدي المشروع ليكون بمثابة "بالوعة حيوية للكربون كجزء من حوض الكونغو، حيث تمتص أشجارها وتخزن ثاني أكسيد الكربون الذي يُسبب ارتفاع درجة حرارة الكوكب"، ورغم نبل الهدف الذي يتبناه المشروع إلا جماعات السكان الأصليين والمحليين في شرق الكونغو الديمقراطية أخبرت منظمة "كلايمت هوم" أنهم لا يعرفون شيئًا عن كيفية تنفيذ هذا المشروع الرائد، ويخشون أن يؤثر ذلك على أراضيهم.

وجه جديد للاستعمار الأوروبي

إلى ذلك أيضا قالت منظمة "غرينبيس أفريقيا" إن المشروع، الممول جزئيًا من الاتحاد الأوروبي، قد يُديم الاستعمار الجديد، ويفتقر حتى الآن إلى نهج شامل لعدم احترامه مبدأ كسب تأييد المجتمعات المحلية المتضررة خلال مرحلة التخطيط، كما وصفه ممثل جماعة البيغمي المحلية بأنه مفروض على الكونغو من الخارج.

تتلاقى هذه التصريحات مع ما قاله دانيال ماكاسي ماهامبا، المحلل البيئي والصحفي الكونغولي، والذي أكد أن المتنزهات الطبيعية السابقة ذات الأهداف المماثلة لم تُحقق فائدة تُذكر للمجتمعات المحلية. وأضاف: "إن الرغبة في إنشاء المزيد تعني حرمان المجتمعات الأصلية من حقوقها في استخدام الموارد الطبيعية في هذه الأراضي التي كانت في السابق جزءًا من تراثها الثقافي".

المشروع، الممول جزئيًا من الاتحاد الأوروبي، قد يُديم الاستعمار الجديد، ويفتقر حتى الآن إلى نهج شامل لعدم احترامه مبدأ كسب تأييد المجتمعات المحلية المتضررة خلال مرحلة التخطيط، كما وصفه ممثل جماعة البيغمي المحلية بأنه مفروضا على الكونغو من الخارج

تكررت الأزمة في مشروع تطوير مشاريع الكربون بتنزانيا، الذي تنفذه شركة فولكس فاجن الألمانية، حيث تلاحق المشروع اتهامات بتقوّيض حقوق الإنسان، حيث أصدر تحالف الماساي للتضامن الدولي (MISA) دراسة أكد فيها أن تجارة ائتمان الكربون تهدد سبل عيش رعاة الماساي في شمال تنزانيا، مطالبا بضرورة وقف المشروعات.

لقد كشفت النتائج عن ضغوط كبيرة تُمارس على مجتمعات الماساي لدخول تجارة الكربون، مما يُثير مخاوف أخلاقية وقانونية بشأن افتقارهم إلى الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة (FPIC)، حيث وثقت الدراسة الآثار المتوقعة لمشروعين كبيرين لائتمان الكربون على أراضي الماساي، والتي تشمل دفعات مُقدّمة للقرى المحلية، وعقودًا غير شفافة وغير عادلة، وتجاهلًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان - لا سيما فيما يتعلق بموافقة المجتمعات المحلية.

تقول الدراسة إن معظم أفراد شعب الماساي الذين أجريت معهم المقابلات، يفتقرون إلى المعرفة الكافية بأسواق الكربون وشروط العقود الخاصة بها، وهم غير قادرين على توقع جميع العواقب طويلة المدى لهذه الاتفاقيات، ويخشون أن تؤدي هذه العقود إلى فقدانهم السيطرة على أراضي الرعي التقليدية الخاصة بهم. كما ستمنعهم عقود الكربون من تقاسم المناطق الاستراتيجية للبقاء في أوقات الجفاف، وستؤثر أيضًا على تقنياتهم العريقة في إدارة الأراضي المستدامة، والتي تُعد حيوية لبقائهم.

تكمن المشكلة هنا، في أن مسارات الرعي التقليدية تعتمد على توافر المياه الموسمي وأنماط هجرة القطعان، وهذه الممارسات ليست جوهرية لهوية السكان الثقافية فحسب، بل تُسهم أيضًا الحفاظ على الأراضي الجافة وقدرتها على الصمود. ومع ذلك، في ظل مشاريع تعويض الكربون الجديدة، يخضع استخدام أراضي الماساي لعزل الكربون - ومن المتوقع أن تستمر الاتفاقيات لمدة 40 عامًا.

يقول إيمانويل ياب، مسؤول سياسات الغذاء والأراضي في CIDSE: "لا تُشكل مشاريع ائتمان الكربون تهديدًا لشعب الماساي فحسب، بل تُشكل أيضًا تهديدًا كبيرًا للعديد من الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية حول العالم، حيث لا تزال مصالح الشركات الكبرى تُهمل مسؤولياتها في الحدّ الفعلي من انبعاثات الكربون الخاصة بها".

وفي شمال القارة تتهم جمعيات حقوقية مشروعات الهيدروجين الأخضر المقترحة في تونس، بأنها تعطي الأولوية لاحتياجات الطاقة الأوروبية، بغض النظر عن السيادة المحلية، وحقوق السكان التونسيين.

تحت عنوان "مقاومة الاستعمار الأخضر"، نشرت منظمة التقدمية العالمية، تقريرا ركزت فيه على الآثار السلبية المحتملة على موارد المياه، وإمكانية الحصول على الطاقة، ونزع ملكية الأراضي، والتهجير، من جراء تنفيذ مشروعات خضراء في تونس. وأكدت المنظمة أنه رغم الإقرار بوجود فوائد اقتصادية، إلا أنها قد تكون محدودة، وليس كما يروج لها، حيث ستكون هناك واردات كبيرة من التقنيات عالية القيمة بينما يتم تصدير المواد الخام لأوروبا. كما أكدت أن "سعي الاتحاد الأوروبي نحو اقتصاد الهيدروجين الأخضر هو شكل جديد من أشكال الإمبريالية في مجال الطاقة، والتي تستغل الموارد من جنوب الكرة الأرضية لتحقيق مصالحها الخاصة".

سعي الاتحاد الأوروبي نحو اقتصاد الهيدروجين الأخضر هو شكل جديد من أشكال الإمبريالية في مجال الطاقة، والتي تستغل الموارد من جنوب الكرة الأرضية لتحقيق مصالحها الخاصة

علقت المنظمة على المناقشات التي دارت حول مذكرة التفاهم (MoU) التي وقعت في 28 مايو/ آيار 2024، بين شركتي توتال إنرجيز الفرنسية ومجموعة إيرين الفرنسية وشركة فيربوند النمساوية والحكومة التونسية، مؤكدة أن مثل هذه الاتفاقيات تضمن توريد الهيدروجين المتجدد منخفض التكلفة والمنتج في الجنوب العالمي إلى تكتلات الطلب الأوروبية الرئيسية، ويترك أصحاب الثروة الحقيقيين يواجهون عجزا في إمدادات الطاقة.

انتقال عادل للطاقة

في محاولة لفهم هذه الوقائع وتفادي أثارها يطالب الكاتبان حمزة حموشان وكايتي ساندويل في مقدمة كتاب: «تحدي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية»، بضرورة تطبيق مشروعات أكثر عدالة، مؤكدين أن هناك ضرورة ملحة لتطبيق ما يسمونه  «الانتقال العادل» في الطاقة، والذي يتطلب مشاركة الأطراف المتضررة في صناعة القرار المتعلقة بالاستثمارات البيئية.

يؤكد الكاتبان أن الانتقال العادل للطاقة يشمل تقديم حلول قادرة على إبداع تحولات جذرية في ملف الأزمة المناخية، بما يشمل التصدي للأسباب الجذرية، مع إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان ومواجهة التدهور الإيكولوجي وسيادة الشعوب.

السرد السابق لا يعادي التوجهات العالمية نحو الاقتصاد الأخضر، أو المطالب بضرورة تبنى مبادئ التنمية المستدامة لحماية حقوق الأجيال الجديدة في الموارد، لكنه يعارض إزدواجية المعايير الدولية، والتلويح بشعارات براقة تضاهي شعارات حقوق الإنسان، التي تطبق حين تتوافق مع مصالح القوى الدولية، بينما تختفي تماما حين تتعارض مع هذه المصالح، فالقارة التي تمتلك رصيدا هائلا من الموارد، قد تحتاج إلى إنشاء هياكل حوكمة شفافة وخاضعة للمساءلة، يما يضمن تحقيق العدالة في مثل هذه العمليات، على حد قول الدكتورة فانيسا أوشي، القائمة بأعمال مدير المركز الأفريقي لإدارة واستثمار، حيث يُعدّ التحكم الفعال في الموارد أمرًا أساسيًا لضمان مساهمة هذه الثروات في نمو القارة بدلًا من إدامة دورات التبعية.