تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 23 يونيو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
كتب

الاستعمار الإيطالي في أفريقيا: سردية الهيمنة بين الرماد والرمزية

9 مايو, 2025
الصورة
كتاب
Share

حين تُذكر الإمبراطوريات الاستعمارية، تقفز إلى الأذهان فورًا بريطانيا وفرنسا وهولندا، فيما يبقى الاستعمار الإيطالي هامشيًا في الذاكرة الجمعية، محصورًا في سطور قليلة من كتب التاريخ. غير أن كتاب "الاستعمار الإيطالي" (Italian Colonialism) يأبى إلا أن يعيد تشكيل هذا الحضور المنسي، مُقدّمًا قراءة نقدية تُقارب الاستعمار الإيطالي في الصومال وإريتريا لا بوصفه استثناءً ناعمًا، بل مشروعا أيديولوجيا لم يخلُ من العنف والرمزية والفشل البنيوي. إنه استحضار لذاكرة مشوشة، يزيل عنها الغبار ليكشف وجهاً استعمارياً أقل شهرة، لكنه لا يقل قسوة أو تعقيداً.

هوية استعمارية تبحث عن شرعية

لم يكن دخول إيطاليا إلى الساحة الاستعمارية نابعًا من قوة راسخة، بل من شعور تاريخي بالنقص أمام القوى الأوروبية التقليدية. فالدولة التي توحّدت حديثًا كانت تبحث عن اعتراف دولي، ودور في نظام عالمي لا يرحم المتأخرين. فقد أرادت أن تثبت ذاتها بين الإمبراطوريات الكبرى عبر مشروع استعماري يمنحها المجد والهيبة. لذلك، لم يكن الاستعمار بالنسبة لإيطاليا مجرد توسع جغرافي، بل محاولة لتعويض الفجوة الحضارية والتاريخية. من هنا، انطلقت بروح تنافسية محمّلة بالرمزية أكثر من التخطيط الواقعي أو الاستعداد الفعلي.

سعت إيطاليا إلى استنساخ النموذجين البريطاني والفرنسي، لكنها افتقرت إلى المقومات البنيوية لذلك الطموح. فلا جيش مؤهل، ولا موارد اقتصادية كافية، ولا فهم دقيق للتعقيدات الاجتماعية في المستعمرات. وُلدت هويتها الاستعمارية من خيال مضخم عن الذات، أكثر مما تشكّل من تجارب ميدانية راسخة. فبدلاً من بناء مشروع متماسك، جاءت تجربتها في أفريقيا-خاصة في الصومال وإريتريا-متذبذبة، تتأرجح بين الحضور الرمزي والمحاولات الاستعراضية. وهذا ما جعل مشروعها الاستعماري هشًّا في الجوهر، حتى وإن بدا صلبًا في الصورة.

المقارنة بين الصومال وإريتريا: استعمار بدرجتين

لجأت إيطاليا إلى نموذج استيطاني مكثف في إريتريا، محاولة تحويل المستعمرة إلى نموذج مصغر لحضارتها المفترضة. أُقامت ثلاث منظومات قضائية متوازية، واحتلت المشاريع العمرانية المشهد في العاصمة أسمرة، لتبدو وكأنها "مدينة أوروبية في أفريقيا". لكن هذا الوجه المتحضر لم يكن سوى قناعا يغطي هشاشة التنمية، إذ بقيت البنية الاقتصادية ضعيفة، والتغيرات الاجتماعية مفروضة لا نابعة من الداخل. الاستيطان الإيطالي وإن أحدث تحولًا ديموغرافيًا، إلا أنه افتقر إلى الاستدامة والتناغم مع الواقع المحلي، مما جعله أقرب إلى استعراض أيديولوجي منه إلى مشروع استعماري فعال.

بدلاً من بناء إيطاليا مشروعا متماسكا، جاءت تجربتها في أفريقيا-خاصة في الصومال وإريتريا-متذبذبة، تتأرجح بين الحضور الرمزي والمحاولات الاستعراضية. وهذا ما جعل مشروعها الاستعماري هشًّا في الجوهر

أما في الصومال، فقد بدا الاستعمار الإيطالي هشًا منذ البداية، يتسم بالسطحية والارتجال. لم تسعَ إيطاليا إلى دمج السكان في مشروعها، بل اكتفت بالحكم غير المباشر عبر تحالفات مع شيوخ القبائل، وبممارسات "فرق تسد" لضمان الحد الأدنى من السيطرة. كما فشلت محاولات الاستيطان، وبقيت البنية العشائرية عصيّة على الاختراق، تُحافظ على استقلالها الرمزي والفعلي. لم يكن هناك حضور إداري فعّال أو بنى تحتية ذات معنى، مما جعل الوجود الإيطالي أقرب إلى احتلال رمزي لا يملك أدوات التحكّم الحقيقي، فقد كانت الصومال بالنسبة لإيطاليا مساحة استعراض، لا مشروعًا للاستثمار الاستعماري.

العمارة والدعاية: حين تُبنى الأوهام بالإسمنت

لم يقتصر الاستعمار الإيطالي على السيطرة المادية، بل سعى لإنتاج خطاب بصري يُجسد هيمنته من خلال المعمار والتخطيط الحضري. في العاصمة الإريترية أسمرة، تحوّلت المدينة إلى ما يشبه معرضًا مفتوحًا للحداثة الإيطالية، حيث شُيدت شوارع واسعة، وساحات مستوحاة من الطراز الأوروبي، ومبانٍ حكومية بأساليب معمارية فاشية مهيبة. كانت هذه المنشآت محاولة لصياغة مشهد حضاري يخدم الدعاية الفاشية، مقدِّمة إيطاليا باعتبارها قوة متمدنة تُحضر الشعوب "المتخلفة". لكن خلف هذا البريق المعماري، كانت المجتمعات المحلية تُقصى من الفضاء الحضري، لتظل العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة هيمنة بصرية دون تكامل حقيقي.

الاستيطان الإيطالي وإن أحدث تحولًا ديموغرافيًا، إلا أنه افتقر إلى الاستدامة والتناغم مع الواقع المحلي، مما جعله أقرب إلى استعراض أيديولوجي منه إلى مشروع استعماري فعال

وفي الصومال، ورغم ضعف الاستيطان مقارنة بإريتريا، حاولت الإدارة الإيطالية استخدام الصور والخرائط والخطب الدعائية لخلق انطباع زائف بالسيطرة والتنمية. استخدمت الصحافة والسينما والملصقات لتصوير المستعمرات بوصفها امتدادا طبيعيا "للحضارة الإيطالية". لكن هذه الحملات الدعائية اصطدمت بواقع هش، تغيب فيه البنية التحتية، وتُهيمن عليه القبائل والنظم التقليدية. فبينما بُنيت بعض الهياكل في مقديشو لأغراض رمزية، بقيت المناطق الريفية خارج أي خطة عمرانية أو اقتصادية متماسكة. لقد كانت العمارة والدعاية في هذا السياق وسيلتين لتعويض فشل المشروع الاستعماري في تحقيق تحول حقيقي ومستدام.

مقاومة بملامح متعددة

يرفض الكتاب الصورة النمطية للاستعمار بأنه مجرد علاقة تسلط أحادية. فالسكان المحليون، في الصومال وإريتريا، لم يكونوا ضحايا فقط، بل أطرافًا فاعلة تفاوضت وقاومت وتكيّفت. فعلى سبيل المثال لم يكن الاستيطان الإيطالي في إريتريا مجرد وجود أجنبي، بل احتلالًا للفضاء والهوية معًا، ما أدى إلى احتكاك مباشر بين المستعمر والمجتمع المحلي. هذا الاحتكاك ولّد مقاومة اجتماعية وسياسية مبكرة، اتخذت أشكالًا متعددة، من رفض العمل في المشاريع الإيطالية إلى تنظيم احتجاجات ومواجهات رمزية مع السلطة الاستعمارية. 

لقد كان التمييز القانوني والعنصرية المؤسساتية ومحاولات طمس الثقافة المحلية وقودًا لغضبٍ متصاعد. ومع تصاعد الاستيطان، لم تعد المقاومة مجرد رد فعل، بل تحولت إلى وعي جمعي يسعى لحماية الذات واللغة والخصوصية التاريخية.

لم يكن هناك حضور إداري فعّال أو بنى تحتية ذات معنى، مما جعل الوجود الإيطالي أقرب إلى احتلال رمزي لا يملك أدوات التحكّم الحقيقي، فقد كانت الصومال بالنسبة لإيطاليا مساحة استعراض، لا مشروعًا للاستثمار الاستعماري

بينما في الصومال، كانت القبيلة هي الحصن الأخير ضد الاختراق حيث لعبت البنية العشائرية دورًا حاسمًا في صد محاولات الاختراق الإيطالي. لم تواجه إيطاليا مقاومة مسلحة شاملة بالضرورة، بل مقاومة ناعمة لكنها فعالة، تجلت في عدم الاندماج، ورفض النموذج الإداري المفروض، والاعتماد على الولاءات التقليدية بدل النظام الاستعماري. كما أن تحالفات "فرق تسد" التي حاول الإيطاليون ترسيخها كثيرًا ما ارتدت عليهم، إذ سرعان ما تفككت مع أي تغيير في المصالح، فالقبيلة لم تكن مجرد إطار اجتماعي، بل مؤسسة مقاومة حافظت على التماسك الداخلي، ورفضت الانصهار في مشروع استعماري غريب عن واقعها وتاريخها.

ما بعد الاستعمار: أشباح الماضي في جسد الحاضر

لا يتعامل الكتاب مع الاستعمار بوصفه حقبة من الماضي فقط، بل كظل طويل يمتد حتى الحاضر. فما بعد الاستعمار ليس مجرد فصل يُطوى، بل مرآة تعكس اختلالات الحاضر بملامح الماضي. يُظهر الكتاب أن الاستعمار الإيطالي، رغم ما يُروّج له من كونه "أخف وطأة"، خلّف وراءه هشاشة مؤسسية وتشوهات اجتماعية، ومسارات تنموية مقطوعة لا تزال تطارد الصومال وإريتريا. 

إن الفقر والانقسامات الداخلية، وضعف الدولة الحديثة ليست أزمات طارئة، بل نتاج تراكمات استعمارية لم تُعالج جذورها. وبينما تحاول الرواية الإيطالية الرسمية تجميل الماضي، يذكّرنا الكتاب بأن الاعتراف بالحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التصالح مع الذات. إن الاستعمار، مهما تلونت ملامحه، يترك أثرًا لا يُمحى، وظلًا يطول أكثر مما نتصور.