الاثنين 28 أبريل 2025
عرفت أفريقيا الإسلام مبكرًا، إذ كانت أراضيها ملجأ للهاربين بدينهم من بطش أسياد مكة في الجزيرة العربية، ورغم أنها لم تكن موطنا أصليًا للدين الإسلامي، إلا أنها سرعان ما تحولت للقارة الأكثر إسلاما، حتى أنها توصف بـ"قارة الإسلام" فأكثر من نصف سكانها حاليا من المسلمين، ومن بين كل 10 أفراد يتحولون عن الأديان الأفريقية التقليدية، يختار تسعة منهم الإسلام، الذي تسلل إلى القلوب مع قوافل التجار القادمة عبر المدقات الصحراوية من الشرق والشمال. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال العلاقة بين الإسلام والأفارقة واحدة من أكثر العلاقات تعقيدا، كون الدين الذي ظهر في الجزيرة العربية يأتي مرات مندمجا مع الثقافات الأفريقية، وفي أخرى يقف أتباعه متهمين بالعنصرية تارة، أو احتقار الأفارقة تارة أخرى.
عام 95 للهجرة وبينما الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، يرغب في أداء مناسك الحج إذ عنت له مسألة تتعلق بالفريضة الخامسة من أركان الإسلام، فلم يكن لها إلا عطاء بن رباح، الملقب بـ"سيد فقهاء أهل الحجاز"، إلا أن هذه السيادة اجتمعت لعبد أفريقي يعود لامرأة من أهل مكة، يضرب المثل بهذه الرواية التي سجلها البغدادي في كتابه "الفقية والمتفقه"، في تفاعل الأفارقة مع الدين الإسلامي، وأنهم ارتقوا بهذا الدين بشكل لم يحدث مع مماثل له، حتى أن الذهبي يسجل في "سير أعلام النبلاء"، أن عبد الله بن عباس لما سئل في بعض المسائل الفقهية قال: "يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء"، يقصد صاحب الواقعة السالفة.
تأخذنا الواقعة السابقة إلى الحديث عن العلاقة التي أنشأها الإسلام مع الأفارقة، سواء كانوا في داخل الجغرافيا الأفريقية، أو حتى خارجها، فالتاريخ يسجل بصمات رئيسية للعرق الأسود في حضارة المسلمين، وهو ما يذكره المفكر الأفريقي إدورد بلايدن، في كتابه "Christianity, Islam and the negro race/ المسيحية والإسلام والأفارقة، إذ يقر بأن الإسلام كان أكثر الأديان التي اندمج فيها الأفارقة، حتى أنهم تحولوا بعد سنوات لدعاة لهذا الدين في مناطق غرب ووسط القارة.
يقول بلايدن إن الإسلام لم ينتشر على يد أجانب في أفريقيا، بل على يد أفارقة من الشمال، وسرعان ما نجح في تجنيد الأفارقة أنفسهم لنشر تعاليمه بين السكان. كما أنه احترم الثقافات الأفريقية، وتفاعل معها، ولم يقاوم إلا العادات والتقاليد الشريرة فقط.
الإسلام لم ينتشر على يد أجانب في أفريقيا، بل على يد أفارقة من الشمال، وسرعان ما نجح في تجنيد الزنوج أنفسهم لنشر تعاليمه بين السكان، كما أنه احترم الثقافات الأفريقية وتفاعل معها ولم يقاوم إلا العادات والتقاليد الشريرة فقط
يستدل المفكر الذي يوصف بـ"رائد القومية الأفريقية في غرب أفريقي" بما حدث مع القبائل النيجيرية التي استسلمت بسرعة لتأثير الإسلام، وشكلت من تعاليمه عادات وتقاليد حتى أن الدين أصبح هو المحور المشكل للأنماط والطقوس الاجتماعية للسكان في مناطق غرب القارة، لافتا إلى أن المحمدية الأفريقية تضم في صفوفها القبائل الأكثر طاقة وحيوية. كما أن أتباعها يتمتعون بالكياسة، وهم الوحيدون الذين شكلوا حكما مدنيا قائما على رابطة التنظيم الاجتماعي. فضلا عن قيامها ببناء واحتلال أكبر المدن في قلب القارة، وقوانينها هي المنظمة لأقوى الممالك في القارة (فتاح ومسينة والهوسا وبرنو ودارفور وكردفان وسنار).
عن هذه الحالة يقول الباحث النيجيري عبد المجيد حسن بيلو، من جامعة أويو، في ورقة بحثية له إن الإسلام سجل تأثيره الأول على شرق أفريقيا في نفس الوقت تقريبًا الذي شهده في شمال أفريقيا، مشيرا إلى هذا التأثير لم يأت عبر الغزو المسلح، بل من خلال التجارة عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي مرورا بالقرن الأفريقي وساحل شرق أفريقيا، كما أن المصادر التاريخية تشير إلى أن الدعوة المحمدية وصلت مدينة زيلع في شرق أفريقيا قبل المدينة المنورة ذاتها.
ينقل الباحث قول المفكر السنغالي، الشيخ أنتا ديوب، الذي رفض القول بأن الإسلام فرض على الشعوب الأفريقية، مؤكدا أن "السبب الرئيسي لنجاح الإسلام في أفريقيا السوداء، ينبع من حقيقة أنه انتشر سلميًا في البداية عن طريق مسافرين عرب وأمازيغ منفردين إلى بعض الملوك والأعيان السود، الذين نشروه بعد ذلك بين من كانوا تحت ولايتهم".
يؤكد الباحث أنه في القرن ما بين الثالث والقرن السابع عشر، لم يُشن أي غزو عبر النيل، ولم يكن هناك أي غزو عربي لموزمبيق أو أي دولة أخرى في شرق أفريقيا، بل وصل العرب إلى هذه المناطق، الذين أصبحوا فيها قادة دينيين، كما في كل مكان آخر، فرادى، واستقروا بسلام؛ ولاحقًا، انتشر الإسلام من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء الكبرى، من خلال الهجرة السلمية والتجارة.
يتفق بيلو مع العرض الذي قدمه بلايدن من أن الإسلام اندمج بطريقة مذهلة مع الثقافات الأفريقية المحلية، ويرجع ذلك إلى أن الإسلام يعد الأعراف أحد مصادر التشريع طالما لا تتعارض مع مصادر الدين المتمثلة في القرآن والسنة، وهو ما حافظ على الهوية الثقافية الأفريقية، ولم يعمل على اندثارها.
السبب الرئيسي لنجاح الإسلام في أفريقيا السوداء، ينبع من حقيقة أنه انتشر سلميًا في البداية عن طريق مسافرين عرب بربر منفردين إلى بعض الملوك والأعيان السود، الذين نشروه بعد ذلك بين من كانوا تحت ولايتهم
يستدل على ذلك بأن بعض الطقوس الأفريقية القديمة، مثل الرقص والطبل، والتي كانت منتشرا بين شعوب شرق القارة، تحول بعد الإسلام لأحد مظاهر الاحتفالات الإسلامية ذاتها، مشير إلى أنه يمكن القول إن "حقائق الإسلام تبدو أقل غرابة عن القيم الأصيلة، وبالتالي فإن تكيفها يُسبب اضطرابًا أقل".
يعارض عدد من الباحثين هذا الرأي، حيث ترى ماري هيل من جامعة ستانفورد الأمريكية أن الاندماج الإسلامي في أفريقيا لم يكن ذو طابع واحد، بل تدرج حسب الحالة ما بين "الاحتواء والاختلاط والإصلاح"، مشيرة إلى الملوك الأفارقة حاولوا في المرحلة الأولى فصل المجتمعات الإسلامية عن مجتمعاتهم، وفي المرحلة الثانية مزج الحكام الأفارقة الإسلام مع التقاليد المحلية، حيث استولى السكان بشكل انتقائي على الممارسات الإسلامية، وأخيرا في المرحلة الثالثة، ضغط المسلمون الأفارقة من أجل الإصلاحات، في محاولة لتخليص المجتمعات الأفريقية من الممارسات القديمة، وفرض التقاليد الإسلامية، وهو ما حدث على يد الطوارق على سبيل المثال.
يتبنى باحثون في قسم فنون أفريقيا بمتحف متروبوليتان هذه الرؤية أيضا، في مقال نشره المتحف على موقعه الرسمي، من أن انتشار الثقافة الإسلامية في أفريقيا لم يكن متزامنا ولا موحدا، بل في كثير من الأحيان تحول الأفارقة للإسلام، إما رغبة في التوسع التجاري، كما هو الحال في المدن الكبرى، أو هربا من العبودية، كما أن بعض القبائل الأفريقية قاومت المد الإسلامي بالفعل، كما حدث مع قبائل "بامانا".
على الرغم من اختلاف الأراء حول هذه النقاط، إلا أن الواقع يشير إلى اندماج حقيقي بين الطقوس الإسلامية والأفريقية في كثير من المجتمعات المحلية في القارة، على حد قول الأكاديمي الأميركي إدوارد كيرتس، في كتابه "نداء بلال.. الإسلام وتحولاته في الشتات الأفريقي"، والذي يؤكد فيه أن هذا الاندماج لم يستطع الاستعمار الأوروبي بكل ما أوتي من أدوات مواجهته.
يضيف الكاتب أن "البشرة السوداء لم تكن وصمة في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، كما أن اللون لم يكن دليلا على العبودية في المجتمعات الإسلامية، بل كانت التفرقة دينية مسلم وغير مسلم"، لافتا إلى أن الأفارقة تبوء مكانة عظيمة في المجتمعات الإسلامية، وصلوا لمناصب قيادية، وحظوا باحترام ربما لم يصل إليه غيرهم.
وعلى الرغم من طغيان رواية التصالح العربي والإسلامي مع الأفارقة، إلا أن كتابات عربية أخرى ترى غير ذلك، وتؤكد أن الأفارقة عانوا بشكل كبير في بعض الفترات في التاريخ الإسلامي، لاسيما في العصر العباسي (750/1258م) وقت أن تحولت تجارة العبيد إلى تجارة عابرة للحدود، على حد قول الأكاديمية القطرية نورة محمد فرج في كتابها "العنصرية في الخليج، إشكالية السوَاد: التاريخ، الثقافة الشعبية، الرواية".
بعض الطقوس الأفريقية القديمة مثل الرقص والطبل والتي كانت منتشرا بين شعوب شرق القارة، تحول بعد الإسلام لأحد مظاهر الاحتفالات الإسلامية ذاتها
تستدل الكاتبة على هذه الرؤية بعدد من النصوص العربية التي تحمل في طياتها أوصافا قاسية بحق ذوي البشرة السوداء، من بينها كتابات ابن خلدون الذي يصف الأفارقة بـ"الحمق وتفشي الروح الحيوانية بينهم"، منوهة إلى أن هذا الاحتقار فجر فيما بعد ما عرف بثورة الزنج في العصر العباسي، عام 255 هجرية تقريبا، والتي اندلعت من مزارع مدينة البصرة، رفضا للظروف القاسية التي يعانيها العبيد.
رغم تعارض الروايات في كثير من الأحيان إلا أنه يكاد يتفق الباحثون في أن الاندماج الأفريقي في الإسلام ظهر حتى من قبل انتشار الدين في القارة الأفريقية، حيث يزخر التاريخ الإسلامي بقادة أفارقة أثروا في الحضارة الإسلامية، كان أولهم بلال بن رباح الذي عينه النبي محمد مؤذنا خاص للمسلمين، وكان يصفه كبار الصحابة بأنه سيدهم، رغم أنه قبل سنوات قليلة من إسلامه كان عبدا لأحد أعيان مكة.
الحضور الأفريقي في المؤسسات الإسلامية الأولى لم يقتصر على عطاء بن أبي رباح الفقيه الشهير، بل امتدت لكثير من الأفارقة، كان منهم المقداد الأسود الذي لقب بفارس بدر، وهو صاحب الموقف الذي سجلته كتب السير، حين قال للنبي: "لَا نَقُولُ كما قال قَوْمُ مُوسَى: اذهبْ أنت وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، ولكنَّا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك".
تضم القائمة أيضا الصحابي جُليْبيب الذي قال عنه الرسول: "هذا مني وأنا منه"، وكذلك مفتى الديار المصرية أبو رجاء الأزدي، الذي كان يوصف بأنه أول من أظهر العلم بمصر، وكذلك مَقْرَأِ مدينة رسول الله أبو رُوَيْم نافع بن عبد الرحمن المدني، وأبو الخير التيناتي صاحب "الأحوال والكرامات"، كلهم وردت ترجمات لهم في كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي.
كان نتاج هذا الحضور الطاغي للأفارقة في أروقة السياسة الإسلامية، وصول كافور الإخشيدي الذي كان عبدا حبشيا، إلى حكم مصر في واحدة من أكثر فتراتها قوة في التاريخ الإسلامي
كان نتاج هذا الحضور الطاغي للأفارقة في أروقة السياسة الإسلامية، وصول كافور الإخشيدي الذي كان عبدا حبشيا، إلى حكم مصر في واحدة من أكثر فتراتها قوة في التاريخ الإسلامي، وكان يوصف بأنه حاكما "مهيبا وجوادا وقورا "، ووصل صيته إلى حد الدعاء له على منابر الشام ومصر والحرمين والثغور.
من نفس الاسم عرف كثير من الساسة الأفارقة في أروقة الحكم الإسلامي، منهم كافور شبْل الدولة، أو كافور الطواشي الْكَبِير، الذي ذات صيته في عصر الدولة الأيوبية، وعرف بدوره الكبير في التوسع العمراني، وكذلك كافور الصوري؛ وهو مصري من أصول أفريقية سكن مدينة صور اللبنانية، وإليها نسب، وعرف عنه كثرة الترحال وغزارة العلم.
على الرغم من اختلاف التفسيرات التي حاولت قراءات العلاقة التي تكونت بين الأفارقة والدين الإسلامي، إلا أن الواقع حاليا يشير إلى تماسك ثقافي كبير بين الطرفين، حتى أن كثير من الدول الأفريقية باتت توصف بأنها "بلد المليون شاعر" أو بلد المليون حافظ للقرآن، كما أن مدراس القرآن تعد أحد المظاهر الثقافية المنتشرة في غالبية الدول الأفريقية ذات الأغلية السكانية المسلمة، كما هو الحال مع السنغال.