الأربعاء 19 فبراير 2025
تتمتع أفريقيا بثروة ثقافية وتاريخية ولغوية فريدة من نوعها، إذْ كانت مهدًا للحضارات العريقة على مر العصور. فقد تركت كل حضارة منها بصمة عميقة في مسار الإنسانية، بدءًا من أهرامات مصر القديمة وصولًا إلى مخطوطات تومبكتو، مرورًا بالممالك المزدهرة في النوبة وغانا ومالي وغيرها من الحضارات التي نقشت الذاكرة التاريخية للإنسانية. مع ذلك، فإن هذا التراث الثري مهدد بالزوال، جراء النزاعات المسلحة والنهب والتغيرات المناخية وغياب البنية التحتية أو تدهورها، في العديد من المناطق، مما يعرض هذه المعالم التاريخية لخطر الاندثار.
وفي ظل العزلة السياسية والصراعات التي تواجهها العديد من الدول الأفريقية وعلى رأسها صوماليلاند، تظل فكرة الأرشفة نموذجًا ملهمًا. إنها فكرة تتجاوز مجرد حفظ الوثائق إلى بناء ذاكرة جمعية، تعبر عن الهوية الثقافية والسياسية للشعوب، كما تركز على التقاليد الشفوية والممارسات اليومية، لتشكل سجلاً نابضًا يعكس تجارب الشعوب بدلاً من الاقتصار على سرديات القوى المهيمنة. إن أرشفة الماضي من أجل المستقبل، تُظهر كيف يمكن للذاكرة الثقافية أن تكون أداةً للصمود والمقاومة، وفي الوقت ذاته وسيلة لرسم ملامح مستقبل أكثر شمولية.
تولت حفصة عمر، في عام 2021، شابة من صوماليلاند، وهي أخصائية أرشفة مَهَمَّةَ كبيرة تتمثل في رقمنة حوالي 14,000 شريط من مختلف أنحاء صوماليلاند. تحتوي هذه الأشرطة، التي تناقلتها الأجيال، على موسيقى وشعر ورسائل شخصية ونشرات بث سياسية سرية وغير ذلك. تحافظ هذه المجموعة الثمينة من المواد الصوتية على تاريخ شعب يرتكز أساسه الثقافي على تقاليد شفوية عريقة.
تقول حفصة: "شعبي لا يكتب كثيرًا؛ هم يتحدثون. كل ما يفعلونه هو الكلام." التقاليد الشفوية الصومالية، التي تعود لقرون، ليست مجرد وسيلة لروايات والحكايات، بل شكلت المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي للمنطقة. بدءا من الشعر الثوري الذي حفّز الحركات السياسية إلى موسيقى الفانك الصومالية الفريدة التي ظهرت في القرن العشرين، توفر هذه الأشرطة نافذة لعالم طالما طمسته الحرب والعزلة. إنها، بمعنى ما، القلب النابض لهوية صوماليلاند الثقافية.
إلى جانب الموسيقى والشعر، تحمل هذه الأشرطة أهمية سياسية لا تُقدر بثمن. بعض التسجيلات أُعدت سرًا خلال أيام الديكتاتورية الصومالية تحت حكم سياد بري، عندما كانت مقاومة الحكومة تُقابل بالقمع العنيف. في قبو إذاعة هرجيسا، التي تأسست عام 1943، تم حفظ أكثر من 5,000 شريط، توثق كل شيء من الحياة اليومية إلى الاضطرابات السياسية العنيفة في الثمانينيات. هذه الأشرطة ليست مجرد بقايا من عصر مضى؛ إنها شهادات حية على نضال أمة من أجل البقاء والاستقلال.
تصبح عملية أرشفة الماضي في هذا الإطار مهمة أساسية، لا تقتصر فقط على حفظ ذاكرة الشعوب الأفريقية، بل تسهم أيضًا في بناء مستقبل متجذر في الثقافة. لكن، ما المقصود بـ"الأرشفة"؟ يحيل هذا المصطلح ـ لأول وهلة ـ على حفظ الوثائق في المكتبات أو المتاحف، غير أن الأرشفة في أفريقيا تتخذ بُعدًا أوسع بكثير. فهي تشمل، إلى جانب الحفاظ على القطع الأثرية المادية، التقاليد الشفوية والحرف اليدوية والموسيقى والفنون الشعبية، بالإضافة إلى اللغات المحلية. أرشفة الماضي بهذا المعنى، ليست سوى نقل هذا التراث المادي واللامادي إلى الأجيال القادمة، وهو في جوهره مقاومة للنسيان وضمان استمرارية الذاكرة الثقافية.
يواجه التراث المادي الأفريقي تحديات كبيرة، تهدد استمراريته، وتعرضه للتدهور السريع. فالمخطوطات القديمة، مثل تلك الموجودة في تومبكتو، تُعد من أندر وأثمن الأصول الثقافية في العالم، لكنها غالبًا ما تتعرض للتهديد، بسبب الظروف المناخية القاسية أو النزاعات المسلحة.
أظهر تدمير الأضرحة، في عام 2012، من طرف جماعة "أنصار الدين" المتحالفة مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ما يقارب سبعة أضرحة في تومبكتو أغلبها مشيد بالطين - قائلة إنها "شرك بالله" - الحاجة الملحة للحفاظ عليها. وبالرغم من تمكن السكان المحليين من تهريب آلاف المخطوطات، إلا أن العديد منها لا يزال عرضة للخطر، بسبب نقص الموارد الضرورية المساعدة على حفظها وأرشفتها بالشكل المطلوب.
تم الاستيلاء، خلال الحقبة الاستعمارية، على جزء كبير من التراث الأفريقي، فالعديد من القطع الأثرية الثمينة، مثل: منحوتات بنين البرونزية والأقنعة التقليدية، تعرض الآن في متاحف أوروبية، فيما تظل الشعوب الأفريقية جاهلة بوجود هذه الكنوز الثقافية خارج حدودها. مع تزايد النقاش حول استعادة هذا التراث، أصبح هناك اهتمام بالمطالبة بإعادته إلى موطنه الأصلي. قدم تقرير سارفوي، في عام 2018، وبطلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مقترحات ملموسة لإعادة هذا التراث المادي إلى أفريقيا، إلا أن الإجراءات لا تزال طويلة ومعقدة، وتشوبها حساسية سياسية.
علاوة على ذلك، تمتاز أفريقيا بذاكرة شفوية ينتقل قطارها عبر الأجيال. يعتبر "الجريو "(Griot) أو الحكواتي، من الشخصيات المحورية في حفظ الروايات والمعارف الموروثة، حيث يلعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على تاريخ الشعوب وثقافتها. مع تقدم الزمن، بدأت هذه الأنماط التقليدية في التراجع، وأخذت الثقافات المحلية تتعرض لتحديات جديدة بسبب سرعة التحولات الاجتماعية. يهدد هذا التغير السريع في الأنماط الحياتية، بالإضافة إلى اختفاء العديد من اللغات المحلية بوتيرة مقلقة، بفقدان جزء كبير من التراث الثقافي والروحي الذي يمثل مرجعية أساسية للمجتمعات الأفريقية.
تصبح عملية أرشفة التراث، في مواجهة التحديات التي تهدد التراث الثقافي الأفريقي، أكثر من مجرد فعل حفظ؛ إنها خطوة حاسمة نحو استعادة السيادة الثقافية للأمم الأفريقية. فالأرشفة لا تقتصر على الحفاظ على الأصول المادية فحسب، بل تسهم في إحياء الهوية الثقافية، وتعزيز الفخر الجماعي لدى المجتمعات المحلية. وتشمل هذه العملية العديد من المبادرات التي تعمل على عدة مستويات، سواء على الصعيد الحكومي أو المجتمعي أو الأكاديمي.
تعاني العديد من الدول الأفريقية من نقص في المؤسسات التي يمكنها حفظ التراث في ظروف ملائمة، مما يجعل إنشاء المتاحف الحديثة والمكتبات ومراكز الأرشيف أمرًا بالغ الأهمية. ولكن، يجب ألا تقتصر هذه الأماكن على كونها مجرد مساحات للتخزين، بل يجب أن تُصمم المؤسسات كمواقع حية، حيث يمكن للجمهور المحلي التفاعل معها، والمشاركة في استعادة تاريخهم وثقافتهم.
تعد عملية إعادة الأعمال الفنية والمنحوتات الفنية إلى بلدانها الأصلية خطوة من خطوات العدالة التاريخية؛ إنها بحق عملية ضرورية لاستعادة التراث الأفريقي المنهوب خلال الحقبة الاستعمارية. إن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية ومستدامة، بالإضافة إلى القدرة على استقبال وحفظ هذه القطع في بيئة ملائمة. تظهر بعض المبادرات، كتلك التي نادت بعودة منحوتات البنين البرونزية أن التغيير ممكن، وإن كان بطيئًا. لكن هذه الخطوات مهمة، فهي تمثل بداية مسار طويل نحو استعادة ما تم نهبه، وتدعيم الهوية الثقافية للقارة.
من ناحية أخرى، توفر التقنيات الحديثة أدوات فعّالة للحفاظ على التراث الأفريقي، ومشاركته مع العالم. تمثل مشاريع مثل رقمنة مخطوطات تومبكتو أو رسم خرائط ثلاثية الأبعاد للمواقع التاريخية نماذج مبتكرة، تتيح حفظ الآثار بشكل دائم، مع ضمان إمكانية وصول الباحثين والجمهور إليها. لكن يجب أن ترافق هذه المبادرات برامج تدريب تقني مكثفة للمجتمعات المحلية، لضمان استمراريتها والاستفادة الكاملة منها على المدى الطويل.
عُقد مؤتمر دولي في برلين برعاية وزارة الخارجية الألمانية ومنظمة اليونسكو عام 2014، وذلك إثر تعرضها للتهديد وتلف بعضها خلال القتال عام 2012 آنف الذكر، وبمشاركة خبراء دوليين، لمناقشة وضع استراتيجية دائمة لحفظ مخطوطات تمبكتو التي تعكس إرثًا حضاريًا وإنسانيًا، يمتد من القرن الثاني عشر الميلادي حتى القرن العشرين. تمت الإشارة إلى التحديات التي تواجه هذه المخطوطات، خاصة نقلها إلى باماكو وما يسببه المناخ الرطب من خطر التلف، مع دعوات لتنفيذ مشروع شامل لحمايتها. وتشمل هذه المخطوطات، المكتوبة بالعربية ولغات أفريقية، مواضيع علمية وأدبية وثقافية متنوّعة، ما يجعلها رمزًا للنهضة الفكرية الأفريقية وصلتها بالعالم الإسلامي
لا تقتصر الأرشفة فقط على الحفاظ على الأشياء المادية؛ بل تشمل أيضًا الممارسات الثقافية الحية واللامادية. فتصوير وتسجيل الأغاني وفنون الرقص الشعبية والأساطير والطقوس التقليدية... هو أمر بالغ الأهمية لمنع اختفائها. يحفظ توثيق هذه الممارسات الثقافة الحية، ويعزز التواصل بين الأجيال. هكذا يصبح إدراج هذه المعارف في المناهج الدراسية أحد الطرق الفعّالة لتعزيز الهوية الثقافية للأجيال الشابة، وضمان استمراريتها في المستقبل.
إن حفظ التراث الأفريقي ليس مجرد اهتمام بالماضي، بل هو استراتيجية حيوية لبناء مستقبل مستدام. يمكن للدول الأفريقية من خلال تعزيز وترسيخ هذا التراث، جني العديد من الفوائد التي تسهم في نهضتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
يمثل حفظ التراث، في عالم معولم، حيث تسهم التأثيرات الخارجية في تجانس الثقافات، ركيزةً أساسية للهوية الثقافية. فهذا يتيح للمجتمعات استعادة تاريخها الغني، واستخدامه أساسا قويا لمواجهة التحديات المعاصرة. فالعناية بالتراث تعزز من الفخر الجماعي وتساهم في خلق شعور بالانتماء، مما ينعكس إيجابًا على استقرار المجتمعات، وقدرتها على التعامل مع تحديات الحاضر.
يمكن أن يكون التراث أيضا محركًا اقتصاديًا قويًا، لا سيما في قطاع السياحة. فالمواقع التاريخية والمتاحف والمهرجانات الثقافية تجذب ملايين الزوار سنويًا، مما يساهم في توليد دخل كبير للاقتصادات المحلية. ولكن، لتحقيق استفادة مستدامة، يجب إدارة هذا النوع من السياحة بحذر، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على الموارد الثقافية من الإفراط في الاستغلال.
يشكل التراث الأفريقي، وبعيدًا عن كونه مجرد إرث جامد، مصدر إلهام للمبدعين والفنانين المعاصرين. فالموضة والموسيقى والسينما والفن البصري كثيرًا ما تعتمد على الأنماط والتقاليد القديمة لإنتاج أعمال أصلية، تلامس قلوب الجمهور في مختلف أنحاء العالم. وبذلك، يصبح التراث ليس فقط موروثًا ثقافيًا، بل محفزًا للإبداع المعاصر.
تعد أرشفة الماضي وسيلة هامة للدول الأفريقية لتحديد موقعها على الساحة الدولية. إذ توفر لها الفرصة لرواية قصتها الخاصة، بدلاً من السماح للآخرين بتشكيل رواياتها نيابة عنها. إن هذه العملية تمثل خطوة أساسية نحو تقرير المصير، تساهم في بناء أفريقيا فخورة، قادرة على التحكم في مصيرها، والمشاركة الفاعلة في الحوار الثقافي العالمي.
إن أرشفة الماضي من أجل المستقبل تمثل قضية حيوية وأساسية لأفريقيا، فهي ليست مجرد عملية لحفظ الآثار، بل هي جسر حيوي يربط بين الأجيال، بين جذور الماضي وتطلعات المستقبل. هذا الجهد يتطلب تكاتفًا جماعيًا من جميع الأطراف المعنية: الحكومات والمؤسسات الثقافية والمجتمعات المحلية والشركاء الدوليين، لضمان استمرار التراث الأفريقي في إلهام العالم وتعزيز قيمه الثقافية.
وفي نهاية المطاف، إن الحفاظ على الماضي لا يعني فقط حماية ما هو قديم، بل هو منح المستقبل الأدوات اللازمة لبناء ذاته على أسس متينة وأصيلة. أفريقيا، بتراثها الغني والعريق، قادرة على تأكيد مكانتها المرموقة، ليس فقط كذاكرة حية للبشرية جمعاء، بل كمصدر دائم للابتكار والإبداع للأجيال القادمة.