تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 15 يونيو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

"الأرقام غائبة" أفريقيا عاجزة عن تشخيص أوجاعها المزمنة

20 مايو, 2025
الصورة
"الأرقام غائبة"
Share

في عام 1997 وصف الباحثان الأمريكيان "ويليام إيسترلي، وروس ليفين" معدلات النمو في القارة الأفريقية بـ"المأساة" بسبب عدم قدرة غالبية الدول الأفريقية على تحقيق معدلات نمو تكافئ ما تمتلكه من موارد وثروات، وبعد مرور قرابة ثلاثة عقود على هذه الوصف حققت أفريقيا قفزات هائلة في معدلات النمو، لكن المأساة الحقيقة تكمن في عدم القدرة على التحقق من ذلك إحصائيا، حيث تعاني غالبية دول القارة من تراجع كبير في القدرات الإحصائية، وفي بعض الأحيان غياب كامل للبيانات المعبرة عن حالة مجتمعات ومؤسسات القارة.

واقع متردي لإحصائيات غائبة 

تمثل مشكلة غياب الإحصائيات الدقيقة معضلة جوهرية تواجه خطط التنمية الأفريقية، حيث تعاني كثير من الدول في القارة من عدم وجود بيانات كاملة عن السكان والموارد والفرص الاستثمارية، وهو ما يظهر بشكل ملحوظ في مؤشرات البنك الدولي المتعلقة بالقدرات الإحصائية للدول والمعروفة باختصار (SPI)، والذي يرتب الدول حسب قدراتها الإحصائية اعتمادا على 50 مؤشرًا إحصائيًا، وتمنح البلدان بموجبه درجات من 0 إلى 100 وفقا لقدرتها على جمع البيانات، ويضم 186 دولة حول العالم.

بموجب المؤشر سالف الذكر حصلت كثير من الدول الأفريقية على درجات أقل من المتوسط، حيث سجلت دولة ليبيا خلال عام 2022 واحدة من أقل الدرجات العالمية، بواقع 24 درجة على المؤشر، بينما حصل السودان على 43 درجة، وسجلت إثيوبيا 61 درجة، وسجل الصومال 48 درجة، وكينيا 66 درجة، وجنوب السودان 33 درجة، والنيجر 58 درجة، وتشاد 49 درجة، بينما حلت بعض الدول الأفريقية الأكثر تقدما فوق 60 درجة، كما هو الحال في مصر التي سجلت 79 درجة، وجنوب أفريقيا 82 درجة، ورواندا 70 درجة، وهي أيضا أرقام أقل مما سجلته دولة مثل فنلندا التي حصلت على 93 درجة.

تتفق الإحصائيات السابقة مع يورده مؤشر إبراهيم للحوكمة الأفريقية (IIAG)، والذي يعرض بيانات حول مؤشر "القدرة الإحصائية" (StaCapWB) للعديد من الدول الأفريقية خلال الفترة من 2014 إلى 2023، ويظهر المؤشر  دول "جنوب أفريقيا ومصر والمغرب وتونس والسنغال" في قمة المؤشر، بينما تأتي دول "ليبيا وجنوب السودان والصومال وإثيوبيا وجيبوتي وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا وغينيا بيساو" في ذيل القائمة.

مأساة إحصائية وموارد معطلة 

وعلى الرغم من التطور الكبير في قطاعات التكنولوجيا، وتقدم آليات رصد وتجميع البيانات الرقمية، إلا أن الباحث شانتا ديفاراجان، أستاذ التنمية الدولية بجامعة جورج تاون، يقول إن الوضع في أفريقيا لا يزال ضعيفا للغاية، مشيرا إلى أن كثيرا من الدول الأفريقية لا تزال تعتمد أنظمة قديمة في الرصد بعضها يعود لعام 1960، وهو ما يمثل تضليلا كبيرا للواقع الحالي.

 يشير إلى أن دولة غانا كانت من بين الدول التي تعتمد نظام قياس يعود لعام 1960، ولما جرى تحديث أنظمة الإحصاء المتعلقة بالناتج المحلي للبلاد، واعتماد نظام إحصائي نشر للمرة الأولى عام 1993، أظهرت الأرقام أن الناتج المحلي للبلاد يفوق ما كان مرصود في السابق بحوالي 62٪، لافتا إلى أن كثيرا من دول القارة لا تمتلك بيانات دقيقة، وحتى التي تمتلك بيانات إحصائية، كثير منها غير قابل للمقارنة، لعدم دقته أو عدم شموله للقطاعات المطلوب إحصائها.

تمثل مشكلة غياب الإحصائيات الدقيقة معضلة جوهرية تواجه خطط التنمية الأفريقية، حيث تعاني كثير من الدول في القارة من عدم وجود بيانات كاملة عن السكان والموارد والفرص الاستثمارية

يطالب الباحث بضرورة التعامل بحظر مع الإحصائيات الأفريقية التي تتحدث عن تراجع معدلات الفقر أو البطالة، وذلك لوجود مشاكل جوهرية في الإحصاءات تتمثل في ضعف قدرة البلدان على جمع البيانات وإدارتها ونشرها، وعدم كفاية التمويل، وتوزيع المسؤوليات، والتجزؤ، وغيرها من المشكلات التي تواجه حقل البيانات الأفريقي.

يشير إلى أن كثير من الإحصائيات الأفريقية يتم تسيسها، فمثلا الإحصائيات المتعلقة بالفقر يمكن أن تمنع من النشر بشكلها الصحيح في أوقات الانتخابات، كما أن كثيرا من الحكومات تجرى مسوحات ضيقة، بل وتتوقف عن استكمال مشروعات التعداد أو الإحصاء العام، إذا ما تبين أن الأرقام لن تكون في صالحها، أو ستكشف عن عجز الحكومة في علاج بعض القضايا، موضحا أنه حتى الأرقام التي تنشرها جهات دولية، مثل البنك الدولي، كثيرا ما يشوبها نقص وعوار بسبب السرعة، أو عدم كفاءة العاملين المحليين في جمعها.

 الأمر لم يتوقف على حالة غانا التي أدى تحديث آلية جمع البيانات إلى تغير كبير في الأرقام، بل تكررت العملية في نيجيريا حيث أدت التنقيحات التي أدخلت على سنة الأساس لتقدير الناتج المحلي الإجمالي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا بنسبة 89٪، وهو ما يشير إلى مدى خطورة مثل هذه الأرقام، وقدرتها على التعبير بشكل حقيقي عن واقع الدولة واحتياجاتها، وقدراتها المالية والاجتماعية.

يتفق مع هذه الرؤية كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، شانتا ديفاراجان، الذي يؤكد أن حالة بيانات التنمية في أفريقيا تمثل "مأساة إحصائية حقيقة، مشيرا إلى أنه بعيدا عن عدم موثوقية هذه البيانات، فإننا لا نعرف سوى القليل عن نمو ودخل الاقتصادات الأفريقية، ومع ذلك، تدلي المؤسسات والعلماء بشكل روتيني ببيانات بشأن وتيرة واتجاه التنمية في أفريقيا، معتمدين على أرقام ومؤشرات هشة.

فرص واعدة أهدرتها البيانات الغائبة

يمكن قراءاة مردود غياب الإحصائيات من واقع الدول السابق الإشارة إليها في المؤشرات الدولية، فالسودان الذي يوصف بأنه سلة غذاء القارة، يقع في ذيل المؤشر، كان قد أطلق مبادرة لتحقيق الأمن الغذائي العربي إبان فترة الرئيس السابق عمر البشير، وهي مبادرة اعتمدتها بالفعل جامعة الدول العربية، ورحبت بها أطرافا إقليمية ودولية، بل لا تزال الخرطوم تروج لها حتى الآن، إلا أن الواقع الفعلي يشير إلى صعوبة تنفيذ المبادرة، وفقا لما أعلنه ممثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي محمد فرحات، والذي أكد أن أكبر تحدى يواجه المبادرة هو غياب البيانات، لافتا إلى أنها تحتاج إلى إجراء دراسات بتكلفة تقدر بحوالي 31 مليون دولار.

الأمر نفسه تقريبا تعيشه جنوب السودان الذي يقول بنك التنمية الأفريقي إن أحد أكبر العقبات التي تواجه تنمية القطاعات غير النفطية هو غياب البيانات، لافتا إلى أن عائدات النفط تمثل أكثر من 98٪ من الإيرادات العامة، وفي حال فكرت جوبا في التخلص من هذه العقبة وتنويع اقتصادها، فإنها تحتاج إلى إدارة للإحصاءات كأساس للمساءلة، واتخاذ القرارات السياسية القائمة على الأدلة، معتبرا أن عدم كفاية البيانات الاقتصادية والاجتماعية المصنفة والافتقار إليها، هو أحد أهم أسباب عدم الاستقرار والتراجع الاقتصادي في البلاد.

غياب البيانات المحدثة قد يقلل من قيمة التطور الهائل الحاصل في حقل الذكاء الاصطناعي، وما قد يوفره هذا التطور لقطاعات مثل التعليم والزراعة والبيئة والمياه والطرق، حيث تقف ندرة البيانات كعائق أمام الاستفادة من برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذه القطاعات

تظهر العوائق بشكل أكبر في قطاع العقارات إذ يشكل نقص البيانات عائقا كبيرا أمام الاستثمار العقاري، كما أن عدم وجود بيانات موثوقة يخلق حالة من عدم اليقين، مما يعقد قرارات الاستثمار للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، وفقا لما تقدمه منصة (Africa.vc) المتخصصة في الكشف عن الفرص الاستثمارية في أفريقيا، لاسيما في قطاع العقارات.

تشير المنصة إلى أن نقص البيانات لا يؤدي إلى زيادة المخاطر الاستثمارية فحسب، بل يؤدي أيضا إلى ضياع الفرص في سوق العقارات الأفريقي، مؤكدة أن معالجة هذا النقص في البيانات أمر بالغ الأهمية لإطلاق الإمكانات الكاملة للاستثمار العقاري في القارة.

وتوضح أن نقص البيانات يتسبب في نقص المعلومات الموثوقة، ويحول دون اتخاذ القرارات الفعالة، مشيرة إلى أن غياب البيانات يعود إلى عدد من الأسباب في مقدمتها إرث أنظمة حيازة الأراضي الاستعمارية، واعتماد كثير من البلدان في القارة على نظم الأراضي العرفية، مما يؤدي إلى عدم كفاية الوثائق الرسمية، إضافة لغياب البنية التحتية التكنولوجية التي تساهم في جمع البيانات.

لا يقف الأمر على حد القطاع العقاري بل إن غياب البيانات المحدثة قد يقلل من قيمة التطور الهائل الحاصل في حقل الذكاء الاصطناعي، وما قد يوفره هذا التطور لقطاعات مثل: التعليم والزراعة والبيئة والمياه والطرق، حيث تقف ندرة البيانات عائقا أمام الاستفادة من برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذه القطاعات، على حد قول ينستون أوجينج، وهو زميل باحث أول في برنامج العلوم والتكنولوجيا والابتكار والمعرفة والمجتمع في المركز الأفريقي للدراسات التكنولوجية في نيروبي.

يشير في مقال له إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي عادة ما تعتمد على البيانات الحكومية وغير الحكومية المخزنة عبر شبكة الإنترنت، والتي عادة ما تكون غير محدثة، أو ناقصة بالنسبة لكثير من الدول الأفريقية، مشيرا إلى بيانات وزارة الزراعة الكينية على سبيل المثال، والمتعلقة بإنتاج الأسماك في البلاد، ترصد ما بين عامي 2012 و 2016، ولا يوجد ما يشير للأعوام التالية.

ويوضح أنه حتى البيانات التي توفرها الجهات الدولية مثل البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية، في كثير من الأحيان، تكون بيانات أولية أو ملخصات. كما أن كثير من المؤسسات البحثية والجامعات الأفريقية لا تنشر تحديثات لبياناتها وإنجازاتها البحثية التي قد تعبر عن واقع المجتمعات الأفريقية، وهو ما يجعل برامج الذكاء الاصطناعي تعتمد في كثير من الأحيان على المتاح، ولا تقدم معلومات جيدة يمكن اعتمادها.

عقبات تحول دون تطوير القطاع الإحصائي 

على قدر الأهمية التي تحظى بها البيانات والإحصائيات، تواجه هذه العملية عقبات كبيرة وتحديات جسيمة تتمثل في الثغرات التي قد يقع من يقوم بعمليات الإحصاء أو التحليل، وكذلك العقبات الفنية والمالية، حيث يشير الباحثين إلى أن تمويل خطة إحصائية وطنية قادرة على إنتاج بيانات عالية الجودة، يحتاج إلى ملايين الدولارات، حتى أن متوسط تكلفة تنفيذ مسح لاستهلاك الأسر في دولة ما قد يكلف من 5 إلى 8 ملايين دولار، وهو ما يعني أن الوصول لإحصائيات كاملة قد يحتاج إلى موارد مالية قد لا تستطيع كثير من الدول توفيرها.

هذه الحالة جعلت كثيرا من البلدان تعتمد على المنح الدولية والمساعدة التقنية؛ لتنفيذ أنشطة جمع البيانات، وهو ما حدث بالفعل خلال أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث وافق البنك الدولي على منح منطقة أفريقيا الوسطى تمويلا قيمته 290 مليون دولار في شكل اعتمادات ومنح من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) لتحسين ومواءمة أنظمة البيانات في هذه المنطقة، وجاء هذا التمويل ضمن المرحلة الثانية من مشروع تنسيق وتحسين الإحصاءات في غرب ووسط أفريقيا (HISWACA).

البيانات هي "نفط المستقبل" لذا فإن الأمر لا يتوقف فقط على البنية التحتية الجيدة، بل يجب الوصول إلى جودة عالية في إنتاج البيانات، حيث تعاني كثير من البلدان الأفريقية من وجود ثغرات أو تناقضات في البيانات الصادرة عنها

سبق هذه الخطوة ما أعلنه صندوق التنمية الأفريقي، عام 2022، حيث وافق على منحة قدرها 4.3 مليون دولار للصومال لتطوير الإحصاءات، وذلك عبر تقديم المساعدة التقنية، وتدريب الموظفين في المكتب الوطني الصومالي للإحصاءات والإدارات الإحصائية في ولايات هيرشابيل وغالمودوغ وجوبالاند، مؤكدا أن هذه الخطوة تأتي ضمن جهود بناء القدرات الإحصائية التي يبذلها بنك التنمية الأفريقي في البلدان الأعضاء.

منذ عام 2012، يسعى البنك الأفريقي للتنمية لمساعدة أعضائه في بناء القدرات الإحصائية، عبر تكوين شبكة ضخمة من منصات البيانات المفتوحة الحية، تربط إلكترونيا جميع البلدان الأفريقية مع 16 منظمة إقليمية، إلا أنه بمراجعة عدد من هذه المنصات عبر الموقع الرسمي للبنك تظهر أن كثير منها قديم، وغير مستحدث فعلى سبيل المثال تشير بيانات دولتي الجزائر وأنغولا إلى أنهما لم يحدثا منذ عام 2016، كما أن بعض البيانات الواردة على المنصات تعود للعام 2008.

كيف يمكن الاستفادة من نفط المستقبل؟

التغلب على تحديات جمع البيانات، أو صحراء جمع البيانات في القارة، كما تسميها محللة البيانات أوفايو مزيزي، تحتاج إلى تطوير البنية التحتية، وتسهيل الوصول إلى الإنترنت والكهرباء، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، إذ أن كثيرا من الدول الأفريقية لا تزال معدلات انتشار الإنترنت فيها غير متساوية، ففي حين تتمتع المراكز الحضرية مثل: نيروبي وجوهانسبرغ باتصال إنترنت مرتفع نسبيا، فإن المناطق الريفية في نيجيريا وإثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية متخلفة بشكل كبير.

تقول المحللة إن البيانات هي "نفط المستقبل"، لذا فإن الأمر لا يتوقف فقط على البنية التحتية الجيدة، بل يجب الوصول إلى جودة عالية في إنتاج البيانات، حيث تعاني كثير من البلدان الأفريقية من وجود ثغرات أو تناقضات في البيانات الصادرة عنها، وهو ما يجعل من الصعب الحصول على صورة شاملة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية والصحية، مؤكدة أن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو عدم انتظام عمليات جمع البيانات، لذا من الضروري عمل مسوحات دورية تشرف عليها جهات أكثر احترافية.

تطالب بضرورة الاستفادة من التقدم التكنولوجي في معالجة ضعف القدرات الإحصائية في أفريقيا، مع مراعاة اعتبارات المجتمعات المحلية في عمليات الجمع، لضمان الوصول إلى بيانات دقيقة وذات صلة بالسياق، بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من تكنولوجيا الهواتف الذكية حيث يوجد أكثر من 400 مليون مستخدم لها في القارة، كما يمكن الاستفادة من الشراكات مع المنظمات غير الحكومية التي تلعب دورا حاسما في عمليات جمع البيانات، خاصة في المناطق التي تكون فيها الموارد الحكومية محدودة.

ورغم قتامة الأوضاع بالنسبة لكثير من الدول إلا أنه يوجد تجارب أفريقية يمكن البناء عليها في قطاع البيانات، وهو ما يستدعى المطالبة بضرورة تفعيل المؤسسات القارية والإقليمية، التي يتوجب عليها لعب أدوار أكثر حيوية للتنسيق والتكامل بين الدول، لتطوير القدرات الإحصائية للدول والاستفادة من التجارب الناجحة في القارة، والعمل على نقلها بين البلدان المختلة.