الخميس 20 فبراير 2025
نجحت إثيوبيا في الفوز ببطاقة عضوية مجموعة البريكس ممثلة لأفريقيا، إلى جانب مصر. وجاء هذا النجاح وسط تقارير عن دعم أطراف دولية وإقليمية فاعلة في المجموعة لهذه الخطوة (في الحالتين في واقع الأمر). إضافة إلى أهمية اعتبارات الموقع الاستراتيجي والأدوار المرتقبة لهما في المجموعة في قطاعات الخدمات والنقل البحري والزراعة والطاقة وغيرها، وبالنظر لأهميتهما كدولتين مركزيتين في شرق أفريقيا وشمالها.
صُنف الاقتصاد الإثيوبي في السنوات الأخيرة ضمن أسرع اقتصادات العالم نموًا؛ وهو مؤشر لا يجب فصله عن واقع تدني مستوى الناتج القومي العام سواء كقيمة مطلقة أم وفق نسبة نصيب الفرد منه ( African Business, January 17, 2024)، الذي يأتي في حدود 1300 دولار حسب الإحصاءات الإثيوبية 2023، (وهو نحو ثلث نظيره في مصر)، وإن قدره البنك الدولي في العام 2022-2023 بنحو 1020 دولار، أو ما نسبته 5.6% فقط من المتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي؛ ويضع هذا المؤشر إثيوبيا في مصاف الدول منخفضة الدخل بشكل عام، بل وعند حافة دائرة أفقر 25 دولة في العالم، وفق هذا المؤشر (حتى 1200 دولار، وتضم 21 دولة أفريقية بداية من بوروندي بنصيب فرد 308 دولار حتى ليسوتو التي يبلغ متوسط دخل الفرد بها 1200 دولار).
ويثير أداء الاقتصاد الإثيوبي وحجمه تساؤلات عن أفاق إسهام هذا الاقتصاد في تجمع بريكس، وكونها -إلى جانب مصر وجنوب أفريقيا بمستويات مغايرة نوعًا ما- معبرة عن نجاعة فكرة الجنوب العالمي اقتصاديًا في هذا المقام.
تأتي إثيوبيا، التي يبلغ عدد سكانها 127 مليون نسمة، في المرتبة الثانية في أفريقيا من جهة عدد السكان بعد نيجيريا وقبل مصر؛ كما تميز الاقتصاد الإثيوبي في العقدين الأخيرين بتحقيق معدلات ملفتة في النمو جعلته من الأسرع نموًا في العالم في بعض السنوات وفي أفريقيا في هذين العقدين دون منافس تقريبًا. وقدر نمو الاقتصاد في العام المالي 2022-2023 بنسبة 7.2%، ويتوقع أن تتمكن إثيوبيا بحلول العام المقبل (2025) من الخروج من دائرة الدول الأفقر في العالم ذات الدخل المنخفض إلى فئة الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض، فيما سيمثل نقلة مهمة للدولة الأكبر في القرن الأفريقي الكبير وفي شرق أفريقيا.
وقد انعكس نمو إثيوبيا القوي في معدل النمو الحقيقي بما يقرب من 10% سنويًا في الفترة 2004-2018، الأمر الذي مثل واحدًا من أعلى معدلات النمو في العالم، وإن كان مدفوعًا بالأساس باستثمارات البنية الأساسية التي وسعت إتاحة قطاعات فرعية مهمة في الخدمات والبنى الأساسية المختلفة، بل ودعمت مستويات معيشة أفضل في إثيوبيا. وشملت مظاهر هذا التطور الاقتصادي التوسع في وصول مياه الشرب لنحو 60 مواطن إثيوبي إضافي في تلك الفترة (وهي من أعلى معدلات الوصول في أفريقيا جنوب الصحراء)، ومضاعفة عدد مستخدمي الطاقة الكهربائية، وزيادة بنسبة 64% في تطعيمات الأطفال ضد الأمراض المختلفة. غير أن الصدمات المتعددة التي ضربت إثيوبيا منذ العام 2018 (ومن بينها موجات وأوبئة ونزاعات عالمية مؤثرة في سلاسل الإمداد والتوريد)؛ قد أثرت على جميع مواطني البلاد تقريبًا مع مواجهة نحو 91% من سكان إثيوبيا بموجات جفاف أو فيضانات أو موجات جراد او صراعات أو مجموعة من هذه المظاهر معًا.
وفي الوقت نفسه تأثرت الأسر الإثيوبية بجائحة كوفيد-19 منذ العام 2020. كما قاد الصراع في إقليم التيجراي (2020-2022) إلى تشرد أكثر من 20 مليون إثيوبي ما قاد إلى حاجات إغاثة إنسانية وجهود إعادة بناء ضخمة قدرت قيمتها مجتمعة بنحو 20 بليون دولار. وعلى مستوى الاقتصاد الكلي فإن الصدمات المتشابكة والمتزامنة مع أوجه ضعف نموذج النمو الذي تقوده الدولة في إثيوبيا (والذي انعكس من وجهة نظر البنك الدولي في تشوهات سياسية وتنظيمية عميقة) قادت معًا إلى بطء النمو الاقتصادي وتعاظم هشاشة الاقتصاد الكلي والديون. ونتيجة لذلك تدهورت مستويات المعيشة (الكلية) للمرة الأولى في فترة عقدين كاملين وبات أكثر من 15 مليون إثيوبي معتمدون راهنًا على المعونات الغذائية من خارج البلاد (The World Bank in Ethiopia, Overview, 2024).
وفي العام الجاري 2024، يتوقع تراجع ملموس نمو الاقتصاد الإثيوبي، الذي قدرته الحكومة الإثيوبية في العام الماضي بنسبة 7.2%، فيما وضعه صندوق النقد الدولي عند 6.1% فيما تظهر تقديرات "مستقلة" وقوفه عند 4.5%؛ وهو تضارب يرجع بالأساس إلى عدم شفافية البيانات الحكومية الإثيوبية بشكل عام. كما تشهد البلاد أزمة مستمرة من العام الماضي بتراجع احتياطي النقد الأجنبي إلى أقل من بليون دولار (لا يغطي سوى واردات بقيمة شهرين فقط)، فيما تعاني العملة الإثيوبية البر Birr من تفاوت صارخ في سعر الصرف أمام الدولار (من 54 بر/ دولار في السوق الرسمية إلى 110 بر/ دولار في السوق السوداء). وفي المقابل نجحت الحكومة الإثيوبية في خفض العجز المالي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.9% فقط مقارنة بـ 3.6% في العام 2022 ويتوقع أن تواصل الحكومة نجاحها في خفض جديد في العام الجاري رغم إعلانها حاجتها إلى 20 بليون دولار كمخصصات ضرورية "لإعادة البناء". كما واصلت الحكومة خفض العجز في ميزان المدفوعات إلى 752 مليون دولار فقط في العام الماضي مقارنة بـ 2.1 بليون دولار في العام 2022 (UNDP Ethiopia Quarterly Economic Profile January 2024, UNDP, February 19, 2024).
وتوضح النبذة العامة عن الاقتصاد الإثيوبي 2023-2024 أن إثيوبيا تواجه تحديات كبيرة لإعادة بناء ما خلفته الأزمات المختلفة من حروب ونزاعات أهلية وأوبئة وتقلبات مناخية حادة؛ وأنه رغم نجاح الحكومة في بعض المقاربات الاقتصادية (على الأقل وفق مؤشرات رقمية رسمية) فإن إثيوبيا قد تمثل عبئًا واضحًا في ديناميات العمل داخل مجموعة البريكس (في الوقت الذي تتوقع فيه إثيوبيا ومصر الحصول على تمويلات كبيرة من المؤسسات المالية في المجموعة دون كشف آليات السداد أو نوعية الاستثمارات المحتملة). لكن القيمة المضافة لإثيوبيا كدولة أفريقية كبرى وذات موقع استراتيجي بالغ الأهمية في القرن الأفريقي الكبير وتطورات مشروعات البنية الأساسية بها، بما في ذلك مشروع سد النهضة الذي قد يمثل القاعدة الأهم لإنتاج الطاقة الكهرومائية في الإقليم حسب بيانات الحكومة، وآفاق ارتباطات الاقتصاد الإثيوبي باقتصادات عدد من دول البريكس (لاسيما الصين والإمارات والسعودية) تعزز جميعًا مكانة إثيوبيا في هذا التجمع، نظريًا على الأقل.
تمثل عضوية إثيوبيا، وكذلك مصر وجنوب أفريقيا، في مجموعة البريكس اختبارًا حقيقيًا لفرضية تضامن الجنوب العالمي اقتصاديًا وسياسيًا. ومع ملاحظة وجود تباين في مستوى الاقتصادات الأفريقية الثلاثة بشكل عام من جهة عدد من المؤشرات العامة ومنها: الناتج المحلي الإجمالي الاسمي؛ حيث سجلت مصر (2022) نحو 475 بليون دولار، وجنوب أفريقيا 405 بليون دولار، ثم إثيوبيا 120 بليون دولار (Statistics Time, 2024). وفيما يخص مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حققت إثيوبيا 6766 دولار، ومصر 3688، ثم إثيوبيا 964 في العام نفسه حسب تقديرات الأمم المتحدة. كما تأتي إثيوبيا أخيرة في مجموعة دول بريكس، وفي ذيل القائمة العالمية في واقع الأمر، وفق مؤشر هام للغاية (من جهة شموله لحزمة من المؤشرات الفرعية)، وهو مؤشر التنمية البشرية إذ حلت في المرتبة 176 (بعد إريتريا مباشرة) ضمن فئة التنمية البشرية المنخفضة (وهي الوحيدة في دول البريكس في هذه الفئة)؛ فيما جاءت بقية دول البريكس (في نفس المؤشر للعام 2023-2024)على النحو التالي: الإمارات (17)، السعودية (40)، وروسيا (55) وجاءت هذه الدول ضمن الفئة الأولى المرتفعة جدًا في المؤشر، ثم الصين (75)، إيران (78)، البرازيل (89)، مصر (105)، جنوب أفريقيا (110) في فئة التنمية البشرية المرتفعة، ثم الهند (134) في فئة التنمية البشرية المتوسطة (The 2023/2024 Human Development Report, the United Nations Development Programme, New York, 2024).
لكن صلات الاقتصاد الإثيوبي القوية مع أغلب دول البريكس تعزز بقوة اضطلاع إثيوبيا بدور كبير في البريكس في حدود إقليم القرن الأفريقي الكبير على أقل تقدير؛ حيث أن الصين، والإمارات، والسعودية من أهم شركاء إثيوبيا التجاريين بالفعل، كما أنها ومن أهم الدول التي تضخ استثمارات خارجية في إثيوبيا في العقد الأخير. وفي مسار مماثل تطرح روسيا بشكل متكرر أفكار مزيد من التعاون الاقتصادي مع إثيوبيا، ويتوقع أن تعزز الهند ثم جنوب أفريقيا صلاتها الاقتصادية مع إثيوبيا سواء في إطار البريكس أم في إطار اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية المرتقب إطلاقها في الفترة المقبلة. كما يلاحظ قيادة أهم شركاء إثيوبيا في البريكس اقتصاديًا (السعودية والإمارات والصين) جهودًا حثيثة لحدوث تقارب إثيوبي- مصري (أو احتواء مزدوج حسب الصيغة المطروحة) تتمثل أحد أوجهه في التعاون الاقتصادي بين البلدين وفق رافعة البريكس.
وفي ضوء الصلة الوثيقة بين إثيوبيا والصين (التي تقود البريكس سياسيًا واقتصاديًا بشكل واضح) فإن إثيوبيا تظل رقمًا مهمًا في أجندة الصين بتعزيز تعاون الجنوب العالمي؛ وكان البلدان قد رفعا مستوى التعاون بينهما إلى الشراكة الاستراتيجية الدائمة في نهاية العام 2023 والتي تتضمن (إلى جانب تعزيز سيادة البلدين الإقليمية) تعميق التعاون في مشروعات التنمية رفيعة الجودة ضمن مبادرة الحزام والطريق، والاتفاق على خطوات إثيوبيا بدمج الصلة بين خطط أديس أبابا الوطنية التنموية وأهمها خطة التنمية العشرية Ten Years Perspective Development Plan (2021-2030) والإصلاح الاقتصادي المحلي Homegrown Economic Reform مع (مشروعات) مبادرة الحزام والطريق. كما تدعم إثيوبيا في الوقت نفسه المبادرة الأمنية العالمية Global Security Initiative (GSI) وعدد من المبادرات المماثلة التي أطلقتها الدبلوماسية الصينية في السنوات الأخيرة (CGTN, October 17, 2023). وإلى جانب الاعتبارات الاقتصادية الصرفة، وكون إثيوبيا شريكًا اقتصاديًا هامًا للصين وسوقًا كبيرة يترقب توسعها، تمثل الأولى ثقلًا لا يستهان به في استراتيجية الصين الأفريقية، والتي ستواجه تحديدات أمريكية جديدة مع بدء ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، وهو ما يجعل سيناريوات اندماج إثيوبي أكبر في دولاب عمل البريكس -بدعم صيني مباشر- أمرًا مفروغًا منه.
كما تلعب الإمارات دور الرافعة البارزة للاقتصاد الإثيوبي، إما بدعم الخزانة الإثيوبية مباشرة بمعونات مالية حاسمة، وعبر تعزيز مشروعات تعاون ثنائية هامة، أو ضخ استثمارات مباشرة في الاقتصاد الإثيوبي. وقد وقع البلدان في أغسطس 2023 حزمة من الاتفاقات (17 اتفاقًا منوعًا) لتعزيز التعاون الثنائي بينهما في مجالات الموانئ (الاتفاق بين شركة موانئ أبو ظبي والقابضة للاستثمارات الإثيوبية)، وسك العملة، وبدء تحالفات مالية مهمة بين شركة الاتحاد للتأمين الائتماني (الجهة الوطنية الإماراتية لتقديم خطوط الائتمان) والبنك التجاري الإثيوبي، وكذلك اتفاقات بخصوص التعاون الأمني وقضايا التغير المناخي ضمن اتفاقات أخرى. ويشير حجم حزم الاتفاقات الموسعة إلى تشابك الاقتصاد الإثيوبي بشكل واضح مع ديناميات النشاط الإماراتي الاقتصادي والسياسي والأمني في القارة الأفريقية بشكل غير مسبوق فيما بين الجانبين (Ethiopia, United Arab Emirates sign 17 agreements enhancing cooperation in various fields, August 23, 2023 )؛ وهو ما يتوقع معه استمرار تعزيز اندماج نشاط الاقتصاد الإثيوبي في عمليات التعاون تحت مظلة البريكس؛ إما دعمًا لمصالح متبادلة مع الاقتصادات الصينية والإماراتية والسعودية، أو وفق تصورات موسعة لهذه الأطراف لعملية تشكيل إقليم تعاوني فرعي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي يضم إثيوبيا ومصر وغيرهما.
وبشكل عام تكتسب إثيوبيا قيمًا مضافة في عضويتها بمجموعة البريكس إلى جانب الأبعاد الاقتصادية لهذه العضوية مثل الموقع الاستراتيجي في قلب القرن الأفريقي الكبير، وما تملكه من مكانة ثقافية وحضارية رفيعة وسط أفريقيا جنوب الصحراء، وباعتبارها نموذجًا أفريقيًا رائدا في الاستقلال والتحرر الوطني، إلى جانب نجاح اديس أبابا الملفت في تمتين العلاقات الاقتصادية مع الصين، أهم قوة اقتصادية وسياسية في المجموعة، وعدد من دول المجموعة لاسيما الإمارات والسعودية بحيث يصعب الفصل بين أطر التعاون هذه وأسباب قبول إثيوبيا رغم مواجهة اقتصادها لكثير من التحديات الحقيقية. إضافة إلى ذلك تمثل إثيوبيا -تاريخيًا على الأقل- قيمة هامة للغاية في أي مشروع لتعاون الجنوب العالمي وهي قيمة تعمق من أهمية اقتصادها وأدواره المرتقبة إقليميًا على نحو يتسق مع مصالح واعتبارات الصين في المقام الأول، ثم الدول الحليفة لإثيوبيا داخل مجموعة البريكس، ومجمل تصوراتها للدور القارة الأفريقية في الجنوب العالمي والمجموعة الصاعدة.