تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

الإنشاد الصوفي في جيبوتي: الوجهة الغنائية البديلة للمطربين

21 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

يمثل الإنشاد الصوفي مساحة جديدة للتعبير الفني للعديد من المطربين الجيبوتيين، الذين وجدوا فيه ملاذاً فنياً بعد رحلة طويلة في عالم الفن الغنائي، كمغنيين أو ملحنين. وقد تحول هذا الاتجاه إلى ظاهرة فنية لافتة، تستحق التوقف عندها لفهم مسبباتها.

نحاول استكشاف جذور هذه الظاهرة، مع تسليط الضوء على الإنشاد الصوفي بوصفه لوناً من ألوان الفن الشعبي الأصيل، الذي يجمع بين الروحانية والتعبير الفني، ويقدم صوتاً مختلفاً يعكس عمق التراث الثقافي والديني للمجتمع. كما نسعى لفهم كيف تحول الإنشاد الصوفي وجهة جديدة للفنانين الذين يسعون إلى التعبير عن ذواتهم، بعيداً عن قيود الفن الغنائي التقليدي، ومشكلاته وسط مجتمعات محافظة؟

منابع الإنشاد الصوفي في الثقافة المحلية

يمتدُّ فن الإنشاد الصوفي بجذوره العميقة في الثقافة المحلية بجيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي، حيث يعكس بُعداً روحانياً يجسد الصلة الوجدانية بين المجتمع والدين الإسلامي، بما يحمله من قيمٍ وحقائقَ ورموزٍ تاريخية. هذه العناصر تشكل المادة الأساسية التي يستمد منها الإنشاد الصوفي موضوعاته، ليتخذ مكانته في فضاء غنائي واسع، يجمع بين التعبير الفني والعمق الروحي.

يستلهم الإنشاد الصوفي المحلي من القصائد الصوفية المتنوعة، التي ترتبط بشكل وثيق بالثقافة المحلية، من قبيل قصائد المديح النبوي الشريف التي تُنشد في مناسبات دينية واجتماعية مختلفة، مثل الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، وفي الأعراس حيث تُزف بها مواكب العرس. كما تُستخدم في مراسيم تأبين الموتى في اليوم الرابع من الوفاة، إذ تُنشد قصة المولد النبوي والقصائد المنظومة فيه كجزء من طقوس التأبين، ويُعتقد أن الميت لا يجد الخلاص الروحي في قبره إذا لم تُقرأ هذه القصائد على روحه.

يمتدُّ فن الإنشاد الصوفي بجذوره العميقة في الثقافة المحلية بجيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي، حيث يعكس بُعداً روحانياً يجسد الصلة الوجدانية بين المجتمع والدين الإسلامي، بما يحمله من قيمٍ وحقائقَ ورموزٍ تاريخية

حظيت بعض قصائد المديح النبوي بمكانة خاصة في الثقافة المحلية، مثل قصيدة "البردة" و"الهمزية" للإمام البوصيري، و"طبية الغراء" التي عارض بها النبهاني الهمزية. وارتبطت "البردة" بالشفاء والبركة؛ حتى ساد الاعتقاد بأن قراءتها على الجمال تؤدي إلى زيادة تناسلها، ونمو أعدادها، مما يعكس مدى تأثير هذه القصائد في المعتقدات والممارسات اليومية للمجتمع.

يأتي بعد قصائد المديح النبوي في إلهام الإنشاد الصوفي قصائد مناقب الأولياء، التي تحتل مكانة بارزة في هذا الإطار. وفي مقدمتها "المناقب الجيلانية" الواردة في كتاب "الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية"، الذي كان يُدرَّس في الكتاتيب بعد إتمام حفظ القرآن الكريم كجزء أساسي من التعليم الديني والثقافي الذي يجب أن يكتسبه رجل الدين. كما كانت القصائد الجيلانية تنشد في الكتاتيب، كطقس أسبوعي يوم الأربعاء، يترنم بها المعلم والتلاميذ.

اتخذت ارتباطات هذا الفن بالثقافة بعداً أكثر التصاقاً بالأدب المحلي ورموزه الشعبية، عندما تناوله الرواد من الأدباء والمادحين الصوفيين من المنطقة، في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مثل: الزيلعي وأويس البراوي وعبد الله الصوفي. أعطى هؤلاء للقصيدة العربية بعداً جديداً، فظهرت بجهودهم أعمال، مثل: "العينية" و"الحادية" و"ذكر السلام القادري"، وغيرها من القصائد الصوفية المحلية التي انتشرت على نطاق واسع.

تلاهم جيل جديد من كبار المادحين الذين أسهموا في نضوج تجربة هذا الفن، أمثال: الشاعر المادح يوسف بحر وعبد الرزاق الدنكلي، الملقب بـ"بلبل القادرية"، والشيخ عوض ددوب، والشيخ قاسم البراوي.

مع صعود الفن الغنائي الذي بلغ ذروته في ستينيات القرن الماضي بجيبوتي والصومال، أصبحت مادة الإنشاد الصوفي موضوعاً غنائياً للفن الغنائي الحديث. ودخل هذا المجال مشاهير المطربين، مثل: المطرب شيران شداد والمطربة زهرة أحمد وحليمة خليف مجول من الصومال، وعبد نور الإله وفاطمة أحمد ونعمة جامع من جيبوتي. وبإبداعهم، أخذ الإنشاد الصوفي طابعًا غنائياً جديداً، يجذب الفنانين، ويستهوي جماهير الفن التقليدي، وذلك بفضل استخدام الموسيقى والآلات الحديثة بدلاً من الدفوف والطبول التقليدية التي اشتهر بها.

هكذا، تحول الإنشاد الصوفي من فن تقليدي مرتبط بالروحانية إلى فن غنائي معاصر، مع الحفاظ على جذوره الثقافية والدينية العميقة.

ظاهرة تحول المطربين إلى الإنشاد الصوفي

أدت التغيرات التي طرأت على الإنشاد الصوفي في جيبوتي، بعد ستينيات القرن الماضي، إلى بروز ظاهرة تحول الفنانين من رواد الفن الغنائي إلى الإنشاد الصوفي في شكله الجديد، الذي يجمع بين الأصالة الروحية والمعاصرة الشكلية. من أبرز هؤلاء الذين أثروا تجربة هذا الفن، وساهموا في تطويره، ثلاثة أسماء لامعة شكلت مصدر إلهام لهذه الظاهرة.

أولهم الفنان الشيخ حسين علي، الذي يُعتبر أيقونة الإنشاد الصوفي في جيبوتي. بدأ مسيرته الفنية في الغناء، حيث قدم عدداً محدوداً من الأغاني التقليدية التي لا تزال محفوظة في ذاكرة الجمهور. إلا أن تجربته في الإنشاد الصوفي كانت أكثر ثراءً وتجديداً، فقد نجح في الجمع بين النمط القديم للإنشاد الصوفي وقوالبه التقليدية، وبين النمط الحديث القريب إلى الفن الغنائي. وأخرج العديد من القصائد الصوفية القديمة التي لم تُنشد قبله بألحانه الخاصة، مما جعله مرجعاً للمنشدين التقليديين في الزوايا الدينية، الذين احتذوا بتجربته، مثل: المنشد الصوفي موسى عواله، المعروف بــ (نبي زيني)، كما أصبح مصدر إلهام للمطربين الذين وجدوا في أسلوبه الفريد طريقاً جديداً للتعبير الفني.

أخذ الإنشاد الصوفي طابعًا غنائياً جديداً، يجذب الفنانين، ويستهوي جماهير الفن التقليدي، وذلك بفضل استخدام الموسيقى والآلات الحديثة بدلاً من الدفوف والطبول التقليدية التي اشتهر بها

والفنان الثاني هو محمد علي فرشيد، رائد الأغنية التراجيدية في جيبوتي، الذي تحول إلى الإنشاد الصوفي، بعد مشوار طويل من المعاناة والبحث عن الذات. عُرف فرشيد بأغانيه التي تعبر عن شكوى الدهر وهجرة الحبيب والحظ العاثر في الحياة، والتي كانت انعكاساً لتجارب شخصية مريرة. وعلى الرغم من أن تجربته في الإنشاد الصوفي كانت قصيرة، بسبب وفاته المبكرة بعد التحول، إلا أن ذاكرة الجيبوتيين تنظر إليه، وإلى ما أنشده من قصائد دينية على أنه وصل إلى مرفأ الأمان والاستقرار الروحي، بعد رحلة طويلة من التيه والضياع.

وأخيرًا، يُعتبر الفنان عمر آدم دكسيه ثالث هؤلاء الفنانين البارزين، الذي تمتد رحلته الفنية بين عالمي الفن الغنائي والإنشاد الصوفي، حيث تحول إلى الإنشاد الصوفي بعد مشوار فني زاخر، اشتهر خلاله كمغنٍ وملحنٍ متميز. وبعد تحوله، استثمر معارفه وخبراته في تطوير فن الإنشاد الصوفي في جيبوتي، ليصبح الآن مع زميله الفنان عبد الرحمن طنطاوي مدرسة فنية متميزة في عطائها وإبداعها، تجمع بين العمق الروحي والجمال الفني.

مثل هؤلاء الثلاثة نقلة نوعية في مسيرة الإنشاد الصوفي في جيبوتي، بعد تحولهم من الفن الغنائي، لذلك استحقوا أن يُفرد لهم الحديث دون غيرهم. فقد جسّدوا تحولاً فنياً وروحياً ترك أثراً عميقاً في المشهد الثقافي، حيث أعادوا تعريف الإنشاد الصوفي من خلال مزج الأصالة بالمعاصرة. هذا المزج الفريد جعل الإنشاد الصوفي أكثر قرباً من وجدان الجمهور، وقادراً على استثارة مشاعرهم الدينية مع تلبية تطلعاتهم الفنية، مما عزز مكانته كفنٍّ يجمع بين الروح والعقل، ويحقق التوازن بين العمق الروحي والجمال الفني.

أسباب التحول: رحلة فنية جديدة أم توبة مقنعة؟

تتباين آراء المتابعين حول ظاهرة تحول المغنيين والمطربين إلى الإنشاد الصوفي في جيبوتي، فمنهم من يربط هذا التحول بمسيرة الفنانين التي غالباً ما تتجه نحو الأفول بعد سنوات طويلة من الشهرة، إما بسبب فتور التجربة الفنية أو التقدم في العمر. هذا الواقع يدفع بعض الفنانين إلى التفكير في تغيير مسارهم الفني، والظهور في مظهر جديد، يُعيد لهم بريق الشهرة، ويحافظ على استمرارية مسيرتهم الفنية.

في المقابل، يرى آخرون أن هذا التحول مرتبط بالطبيعة الروحية للإنشاد الصوفي، وما يتضمنه من عمق وجداني وديني. فبعد رحلة مضنية من الضياع الروحي والقلق النفسي، يجد بعض الفنانين في الإنشاد الصوفي ملاذاً للاستقرار الروحي والهدوء النفسي. بذلك، يصير تغيير المسار نحو الإنشاد الديني نافذة جديدة لرسالة فنية، تنسجم مع ذواتهم، وتلبي احتياجاتهم الروحية.

يأتي رأي الجمهور، الذي يعكس الذاكرة الشعبية في جيبوتي، ليفسر هذا التحول على أنه "توبة" بمفهومها الديني المتضمن الإقلاع عن الذنب مع الندم. فبالنسبة للكثيرين، يمثل التحول من الغناء إلى الإنشاد الصوفي تعديلاً للمسار الفني الذي كان "مخالفاً" – في نظرهم – لمقتضيات الشرع. هذا التفسير يتوافق مع نظرة غالبية المجتمع الجيبوتي، وغيره من المجتمعات الإسلامية المحافظة للفن الغنائي والموسيقى، خاصة في ظل غلبة التفسيرات الدينية التي تعتبر هذا الفن غير منسجم مع الالتزام الديني. وقد تعززت هذه النظرة مع صعود التيارات الدينية المتشددة، وتصدرها منابر التوجيه الديني في المجتمعات الإسلامية بعد ثمانينيات القرن الماضي.

هذا التحول مرتبط بالطبيعة الروحية للإنشاد الصوفي، وما يتضمنه من عمق وجداني وديني. فبعد رحلة مضنية من الضياع الروحي والقلق النفسي، يجد بعض الفنانين في الإنشاد الصوفي ملاذاً للاستقرار الروحي والهدوء النفسي

يشهد لهذا الرأي الأخير أن ظاهرة التحول غالباً ما ترتبط بالتقدم في العمر أو التعرض لأزمات نفسية، وهي فترات يميل فيها الإنسان إلى البحث عن الاستقرار الروحي، والالتزام بتعاليم الدين. يصبح الإنشاد الصوفي في مثل هذه الحالات، ملاذاً للفنانين الذين يرغبون في تصحيح مسارهم الفني والروحي، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التبرؤ من المسيرة الفنية السابقة، والاعتذار عنها. هذا التحول لا يعكس فقط تغييراً في المسار الفني، بل أيضاً رحلة داخلية نحو التطهير الذاتي والمصالحة مع النفس والمجتمع.

ما بين التفسيرات الفنية والروحية والدينية، تظل ظاهرة التحول إلى الإنشاد الصوفي في جيبوتي ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد، تعكس تفاعل الفنانين مع تحولات المجتمع وتطلعاتهم الشخصية، سواء أكانت بحثاً عن تجديد فني أم استقرار روحي أم حتى استجابة لضغوط اجتماعية ودينية.